الباحث القرآني

(p-٦٤)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَراوَدَتْهُ الَّتِي هو في بَيْتِها عن نَفْسِهِ وغَلَّقَتِ الأبْوابَ وقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إنَّهُ رَبِّي أحْسَنَ مَثْوايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظالِمُونَ﴾ ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عنهُ السُوءَ والفَحْشاءَ إنَّهُ مِن عِبادِنا المُخْلَصِينَ﴾ ﴿واسْتَبَقا البابَ وقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وألْفَيا سَيِّدَها لَدى البابَ قالَتْ ما جَزاءُ مِن أرادَ بِأهْلِكَ سُوءًا إلا أنْ يُسْجَنَ أو عَذابٌ ألِيمٌ﴾ المُراوَدَةُ: المُلاطَفَةُ في السُوقِ إلى غَرَضٍ، وأكْثَرُ اسْتِعْمالِ هَذِهِ اللَفْظَةِ إنَّما هو في هَذا المَعْنى الَّذِي هو بَيْنَ الرِجالِ والنِساءِ، ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ مِن "رادَ يَرُودُ" إذا تَقَدَّمَ لِاخْتِبارِ الأرْضِ والمَراعِي، فَكَأنَّ المُراوِدَ يَخْتَبِرُ أبَدًا بِأقْوالِهِ وتَلَطُّفِهِ حالَ المُراوَدِ مِنَ الإجابَةِ أوِ الِامْتِناعِ. وفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَقَرَعَتِ الأبْوابَ"، وكَذَلِكَ رُوِيَتْ عَنِ الحَسَنِ، والَّتِي هو في بَيْتِها هي زُلَيْخا امْرَأةُ العَزِيزِ، وقَوْلُهُ: "عن نَفْسِهِ" كِنايَةٌ عن غَرَضِ المُواقَعَةِ، وقَوْلُهُ: "وَغَلَّقَتِ" تَضْعِيفُ مُبالَغَةٍ لا تَعْدِيَةٍ. وظاهِرُ هَذِهِ النازِلَةِ أنَّها كانَتْ قَبْلَ أنْ يُنَبَّأ عَلَيْهِ السَلامُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأهْلُ مَكَّةَ: "هَيْتُ" بِفَتْحِ الهاءِ وسُكُونِ الياءِ وضَمِّ التاءِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وأبُو الأسْوَدِ، وعِيسى بِفَتْحِ الهاءِ وكَسْرِ التاءِ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، والحَسَنُ، والبَصْرِيُّونَ: "هَيْتَ" بِفَتْحِ الهاءِ والتاءِ وسُكُونِ الياءِ، ورُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةَ، وأبِي عَمْرٍو، قالَ أبُو حاتِمٍ: لا يَعْرِفُ أهْلُ البَصْرَةِ غَيْرَها، وهم أقَلُّ الناسِ غُلُوًّا في القِراءَةِ، قالَ الطَبَرِيُّ: وقَدْ رُوِيَتْ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: "هِيتَ" بِكَسْرِ الهاءِ، وسُكُونِ الياءِ وفَتْحِ التاءِ وهي قِراءَةُ الأعْرَجِ، وشَيْبَةَ، وأبِي جَعْفَرٍ، وهَذِهِ الأرْبَعُ بِمَعْنًى واحِدٍ واخْتَلَفَتْ بِاخْتِلافِ اللُغاتِ فِيها، (p-٦٥)وَمَعْناهُ: الدُعاءُ، أيْ: تَعالَ وأقْبِلْ عَلى هَذا الأمْرِ، قالَ الحَسَنُ: مَعْناها: هَلُمَّ، ويَحْسُنُ أنْ تَتَّصِلَ بِها "لَكَ" إذْ حَلَّتْ مَحَلَّ قَوْلِها: إقْبالًا أو قُرْبًا، فَجَرَتْ مَجْرى "سَقْيًا لَكَ ورَعْيًا لَكَ"، ومِن هَذا قَوْلُ الشاعِرِ يُخاطِبُ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ؎ أبْلِغْ أمِيرَ المُؤْمِنِيـ...... ـنَ أخا العِراقِ إذا أتَيْنا ؎ إنَّ العِراقَ وأهْلَهَ ∗∗∗ ∗∗∗ عُنُقٌ إلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتًا ومِن ذَلِكَ عَلى اللُغَةِ الأُخْرى قَوْلُ طُرْفَةَ: ؎ لَيْسَ قَوْمِي بِالأبْعَدِينَ إذا ما ∗∗∗ ∗∗∗ قالَ داعٍ مِنَ العَشِيرَةِ هَيْتُ ومِن ذَلِكَ أيْضًا قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ قَدْ رابَنِي أنَّ الكِرى أسْكَتا ∗∗∗ ∗∗∗ ولَوْ غَدا يُعْنى بِنا لَهَيَّتا أسْكَتَ: دَخَلَ في السُكُوتِ، و "هَيَّتَ" مَعْناهُ: قالَ: هَيْتَ، كَما قالُوا: أفَّفَ إذا قالَ: أُفٍّ أُفٍّ، ومِنهُ: سَبَّحَ وكَبَّرَ ودَعْدَعَ إذا قالَ: داعَ داعَ. والتاءُ عَلى هَذِهِ اللُغاتِ كُلِّها مَبْنِيَّةٌ، فَهي في حالِ الرَفْعِ مِثْلَ قَبْلُ وبَعْدُ، وفي الكَسْرِ عَلى البابِ لِالتِقاءِ الساكِنَيْنِ، وفي حالِ النَصْبِ كَكَيْفَ ونَحْوِها قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: (p-٦٦)و"هَيْتَ" لا تُثَنّى ولا تُجْمَعُ، تَقُولُ العَرَبُ: هَيْتَ لَكَ، وهَيْتَ لَكُما، وهَيْتَ لَكم. وقَرَأ هِشامُ ابْنُ عامِرٍ: "هِئِتُ" بِكَسْرِ الهاءِ والهَمْزِ وضَمِّ التاءِ. وهي قِراءَةُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وأبِي وائِلٍ، وأبِي رَجاءَ، ويَحْيى، ورُوِيَتْ عن أبِي عَمْرٍو، وهَذا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن: "هاءَ الرَجُلُ يَهِيءُ" إذا أحْسَنَ هَيْئَتَهُ عَلى مِثالِ: "جاءَ يَجِيءُ"، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى: تَهَيَّأْتُ، كَما يُقالُ: "فِئْتُ وتَفَيَّأْتُ" بِمَعْنىً واحِدٍ، قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ﴾ [النحل: ٤٨]، وقالَ: ﴿حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللهِ﴾ [الحجرات: ٩]. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ أيْضًا هَكَذا إلّا أنَّهُ سَهَّلَ الهَمْزَةَ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: "هُيِّئْتُ لَكَ"، وقَرَأ الحُلْوانِيُّ عن هِشامٍ: "هِئِتَ" بِكَسْرِ الهاءِ والهَمْزِ وفَتْحِ التاءِ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: ظاهِرٌ أنَّ هَذِهِ القِراءَةَ وهْمٌ، لِأنَّهُ كانَ يَنْبَغِي أنْ تَقُولَ: "هِئِتَ لِي" وسِياقُ الآياتِ يُخالِفُ هَذا، وحَكى النَحّاسُ أنَّهُ يَقْرَأُ: "هِيتِ" بِكَسْرِ الهاءِ وسُكُونِ الياءِ وكَسْرِ التاءِ. و"مَعاذَ" نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ، ومَعْنى الكَلامِ: أعُوذُ بِاللهِ، ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّهُ رَبِّي﴾ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ في "إنَّهُ" عَلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ العَزِيزَ سَيِّدَهُ، أيْ: فَلا يَصْلُحُ لِي أنْ أخُونَهُ وقَدْ أكْرَمَ مَثْوايَ وائْتَمَنَنِي. قالَ مُجاهِدٌ، والسُدِّيُ: "رَبِّي" مَعْناهُ: سَيِّدِي، وقالَهُ ابْنُ إسْحاقَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وإذا حَفِظَ الآدَمِيَّ لِإحْسانِهِ فَهو عَمَلٌ زاكٍ وأحْرى أنْ يَحْفَظَ رَبَّهُ. (p-٦٧)وَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ لِلْأمْرِ والشَأْنِ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ: ﴿رَبِّي أحْسَنَ مَثْوايَ﴾. والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ لا يُفْلِحُ﴾ مُرادٌ بِهِ الأمْرُ والشَأْنُ فَقَطْ. وحَكى بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ لَمّا قالَ: ﴿مَعاذَ اللهِ﴾ ثُمَّ دافَعَ الأمْرَ بِاحْتِجاجٍ ومُلايَنَةٍ امْتَحَنَهُ اللهُ تَعالى بِالهَمِّ بِما هَمَّ بِهِ، ولَوْ قالَ: "لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ" ودافَعَ بِعُنْفٍ، وبِغَيْرِ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، ما ابْتُلِيَ بِالمَكْرُوهِ. وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ: "مَثْوَيَّ"، وكَذا قَرَأها أبُو طُفَيْلٍ، ورُوِيَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ: ﴿فَمَن تَبِعَ هُدايَ﴾ [البقرة: ٣٨]. وقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ الآيَةُ. لا شَكَّ أنَّ هَمَّ زُلَيْخا كانَ في أنْ يُواقِعَها يُوسُفُ، واخْتُلِفَ في هَمِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ؛ فَقالَ الطَبَرِيُّ: قالَتْ فِرْقَةٌ: كانَ مِثْلَ هَمِّها، واخْتَلَفُوا كَيْفَ يَقَعُ مِن مِثْلِ يُوسُفَ وهو نَبِيُّ؟ فَقِيلَ: ذَلِكَ لِيُرِيَهُ اللهُ تَعالى مَوْقِعَ العَفْوَ والكِفايَةَ، وقِيلَ: الحِكْمَةُ في ذَلِكَ أنْ يَكُونَ مِثالًا لِلْمُذْنِبِينَ لِيَرَوْا أنَّ تَوْبَتَهم تَرْجِعُ بِهِمْ إلى عَفْوِ اللهِ كَما رَجَعَتْ بِمَن هو خَيْرٌ مِنهم ولَمْ يُوبِقْهُ القُرْبُ مِنَ الذَنْبِ، وذَلِكَ كُلُّهُ عَلى أنَّ هَمَّ يُوسُفَ بَلَغَ -فِيما رَوَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ- إلى أنْ جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْ زُلَيْخا وأخَذَ في حَلِّ ثِيابِهِ وتِكَّتِهِ ونَحْوِ هَذا، وهي قَدِ اسْتَلْقَتْ لَهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وجَماعَةٌ مِنَ السَلَفِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ في هَمِّهِ: إنَّما كانَ بِخَطِراتِ القَلْبِ الَّتِي لا يَقْدِرُ البَشَرُ عَلى التَحَفُّظِ مِنها، ونَزَعَ عِنْدَ ذَلِكَ ولَمْ يَتَجاوَزْهُ، فَلا يَبْعُدُ هَذا عَلى مِثْلِهِ عَلَيْهِ السَلامُ، وفي الحَدِيثِ: « "إنَّ مَن هَمَّ بِسَيِّئَةٍ ولَمْ يَعْمَلْها فَلَهُ عَشْرُ حَسَناتٍ"،» وفي حَدِيثٍ آخَرَ "حَسَنَةٌ"، فَقَدْ يَدْخُلُ يُوسُفُ في هَذا الصِنْفِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: كانَ هَمُّ يُوسُفَ بِضَرْبِها ونَحْوِ ذَلِكَ. (p-٦٨)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ البَتَّةَ. والَّذِي أقُولُ: في هَذِهِ الآيَةِ: إنَّ كَوْنَ يُوسُفَ نَبِيًّا في وقْتِ هَذِهِ النازِلَةِ لَمْ يَصِحْ ولا تَظاهَرَتْ بِهِ رِوايَةٌ، وإذا كانَ ذَلِكَ فَهو مُؤْمِنٌ قَدْ أُوتِيَ حُكْمًا وعِلْمًا ويَجُوزُ عَلَيْهِ الهَمُّ الَّذِي هو إرادَةُ الشَيْءِ دُونَ مُواقَعَتِهِ، وأنْ يَسْتَصْحِبَ الخاطِرَ الرَدِيءَ عَلى ما في ذَلِكَ مِنَ الخَطِيئَةِ، وإنْ فَرَضْناهُ نَبِيًّا في ذَلِكَ الوَقْتِ فَلا يَجُوزُ عَلَيْهِ عِنْدِي إلّا الهَمُّ الَّذِي هو الخاطِرُ، ولا يَصِحُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمّا ذُكِرَ مِن حَلِّ تِكَّةٍ ونَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأنَّ العِصْمَةَ مَعَ النُبُوَّةِ، وما رُوِيَ مِن أنَّهُ قِيلَ لَهُ: "تَكُونُ في دِيوانِ الأنْبِياءِ وتَفْعَلُ فِعْلَ السُفَهاءِ؟!" فَإنَّما مَعْناهُ العِدَةُ بِالنُبُوَّةِ فِيما بَعْدُ، ولِلْهَمِّ بِالشَيْءِ مَرْتَبَتانِ: فالأُولى تَجُوزُ عَلَيْهِ مَعَ النُبُوَّةِ، والثانِيَةُ الكُبْرى لا تَقَعُ إلّا مِن غَيْرِ نَبِيٍّ؛ لِأنَّ اسْتِصْحابَ خاطِرِ المَعْصِيَةِ والتَلَذُّذُ بِهِ مَعْصِيَةٌ في نَفْسِها تُكْتَبُ، وقَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "إنَّ اللهَ تَجاوَزَ لِأُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسُهم ما لَمْ تَنْطِقْ بِهِ أو تَعْمَلْ"» مَعْناهُ: مِنَ الخَواطِرِ، وأمّا اسْتِصْحابُ الخاطِرِ فَمُحالٌ أنْ يَكُونَ مُباحًا، فَإنْ وقَعَ فَهو خَطِيئَةٌ مِنَ الخَطايا، لَكِنَّهُ لَيْسَ كَمُواقَعَةِ المَعْصِيَةِ الَّتِي فِيها الخاطِرُ، ومِمّا يُؤَيِّدُ أنَّ اسْتِصْحابَ الخاطِرِ مَعْصِيَةٌ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "إنَّهُ كانَ حَرِيصًا عَلى قَتْلِ صاحِبِهِ"،» وقَوْلُ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿إنَّ بَعْضَ الظَنِّ إثْمٌ﴾ [الحجرات: ١٢]، وهَذا مُنْتَزَعٌ مِن غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الشَرْعِ، والإجْماعُ مُنْعَقِدٌ أنَّ الهَمَّ بِالمَعْصِيَةِ واسْتِصْحابَ التَلَذُّذِ بِها غَيْرُ جائِزٍ ولا داخِلٍ في التَجاوُزِ. واخْتُلِفَ في البُرْهانِ الَّذِي رَأى يُوسُفُ، وقِيلَ: نُودِيَ. واخْتُلِفَ فِيما نُودِيَ بِهِ فَقِيلَ: ناداهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ: يا يُوسُفُ، تَكُونُ في دِيوانِ الأنْبِياءِ وتَفْعَلُ فِعْلَ (p-٦٩)السُفَهاءِ؟! وقِيلَ: نُودِيَ: يا يُوسُفُ، لا تُواقِعِ المَعْصِيَةَ فَتَكُونَ كالطائِرِ الَّذِي عَصى فَتَساقَطَ رِيشُهُ فَبَقِيَ مُلْقًى، ناداهُ بِذَلِكَ يَعْقُوبُ، وقِيلَ: غَيْرُ هَذا مِمّا في مَعْناهُ. وقِيلَ: كانَ البُرْهانُ كِتابًا رَآهُ مَكْتُوبًا، فَقِيلَ: في جِدارِ المَجْلِسِ الَّذِي كانَ فِيهِ، وقِيلَ: بَيْنَ عَيْنَيْ زُلَيْخا، وقِيلَ: في كَفٍّ مِنَ الأرْضِ خَرَجَتْ دُونَ جَسَدٍ، واخْتُلِفَ في المَكْتُوبِ؛ فَقِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [الرعد: ٣٣]، وقِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلا﴾ [الإسراء: ٣٢]، وقِيلَ: غَيْرُ هَذا. وقِيلَ: كانَ البُرْهانُ أنْ رَأى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَلامُ مُمَثَّلًا مَعَهُ في البَيْتِ عاضًّا عَلى إبْهامِهِ، وقِيلَ: عَلى شَفَتِهِ، وقِيلَ: بَلِ انْفَرَجَ السَقْفُ فَرَآهُ كَذَلِكَ. وقِيلَ: إنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ قالَ لَهُ: لَئِنْ واقَعْتَ المَعْصِيَةَ لَأمْحُوَنَّكَ مِن دِيوانِ النُبُوَّةِ. وقِيلَ: إنْ جِبْرِيلَ رَكَضَهُ بِرِجْلِهِ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ عَلى أنامِلِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ. وقِيلَ: بَلْ كانَ البُرْهانُ فِكْرَتَهُ في عَذابِ اللهِ ووَعِيدِهِ عَلى المَعْصِيَةِ، وقِيلَ: بَلْ كانَ البُرْهانُ الَّذِي اتَّعَظَ بِهِ أنَّ زُلَيْخا قالَتْ لَهُ: مَكانَكَ حَتّى أسْتُرَ هَذا الصَنَمَ -لِصَنَمٍ كانَ مَعَها في البَيْتِ- فَإنِّي أسْتَحْيِي مِنهُ أنْ يَرانِي عَلى هَذِهِ الحالِ، وقامَتْ إلَيْهِ فَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ، فاتَّعَظَ يُوسُفُ وقالَ: مَن يَسْتُرُنِي أنا مِنَ اللهِ القائِمِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ؟! وإذا كُنْتِ أنْتِ تَفْعَلِينَ هَذا لِما لا يَعْقِلُ فَإنِّي أولى أنْ أسْتَحْيِيَ مِنَ اللهِ. والبُرْهانُ في كَلامِ العَرَبِ: الشَيْءُ الَّذِي يُعْطِي القَطْعَ واليَقِينَ لِأنَّهُ مِمّا يُعْلَمُ ضَرُورَةً أو بِخَبَرٍ قَطْعِيٍّ أو بِقِياسٍ نَظَرِيٍّ، فَهَذِهِ الَّتِي رُوِيَتْ فِيما رَآهُ يُوسُفُ بَراهِينُ. و"أنْ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْلا أنْ رَأى﴾ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَقْدِيرُ: لَوْلا رُؤْيَتُهُ بُرْهانَ رَبِّهِ، وهَذِهِ "لَوْلا" الَّتِي يُحْذَفُ مَعَها الخَبَرُ، تَقْدِيرُهُ: لَفَعَلَ أو لارْتَكَبَ المَعْصِيَةَ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ الكَلامَ تَمَّ في قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾، وأنَّ جَوابَ "لَوْلا" في قَوْلِهِ: ﴿وَهَمَّ بِها﴾، وأنَّ المَعْنى: لَوْلا أنْ رَأى البُرْهانَ لَهَمَّ، أيْ: فَلَمْ يَهُمَّ عَلَيْهِ (p-٧٠)السَلامُ، وهَذا قَوْلٌ يَرُدُّهُ لِسانُ العَرَبِ وأقْوالُ السَلَفِ، قالَ الزَجّاجُ: ولَوْ كانَ الكَلامُ: "وَلَهَمَّ بِها لَوْلا" لَكانَ بَعِيدًا، فَكَيْفَ مَعَ سُقُوطِ اللامِ؟ والكافُ مِن قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ﴾ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: جَرَتْ أفْعالُنا وأقْدارُنا كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ الكافُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِتَقْدِيرِ: عِصْمَتُنا لَهُ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "لِنَصْرِفَ" بِالنُونِ، وقَرَأ الأعْمَشُ: "لِيَصْرِفَ" بِالياءِ عَلى الحِكايَةِ عَنِ الغائِبِ. (p-٧١)وَقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، والحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وأبُو رَجاءٍ: "المُخْلِصِينَ" بِكَسْرِ اللامِ في كُلِّ القُرْآنِ، وكَذَلِكَ "مُخْلِصًا" في سُورَةِ مَرْيَمَ، وقَرَأ نافِعٌ "مُخْلِصًا" كَذَلِكَ بِكَسْرِ اللامِ، وقَرَأ سائِرَ القُرْآنِ "المُخَلَصِينَ" بِفَتْحِ اللامِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وجُمْهُورٌ مِنَ القُرّاءِ "المُخْلَصِينَ" بِفَتْحِ اللامِ، و”مُخْلَصًا" كَذَلِكَ في كُلِّ القُرْآنِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واسْتَبَقا البابَ﴾ الآيَةُ. "واسْتَبَقا" مَعْناهُ: سابَقَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما صاحِبَهُ إلى البابِ؛ هي لِتَرُدَّهُ إلى نَفْسِها، وهو لِيَهْرُبَ عنها، فَقَبَضَتْ في أعْلى قَمِيصِهِ مِن خَلْفِهِ، فَتَخَرَّقَ القَمِيصُ عِنْدَ طَوْقِهِ، ونَزَلَ التَخْرِيقُ إلى أسْفَلِ القَمِيصِ و”القَدُّ": القَطْعُ، وأكْثَرُ ما يُسْتَعْمَلُ فِيما كانَ طُولًا، والقَطُّ يُسْتَعْمَلُ فِيما كانَ عَرْضًا، وكَذَلِكَ هي اللَفْظَةُ في قَوْلِ النابِغَةِ: ؎ تَقُدُّ السَلُوقِيَّ ∗∗∗.......... [................... فَإنَّ قَوْلَهُ: "تُوقِدُ بِالصُفّاحِ" يَقْتَضِي أنَّ القَطْعَ بِالطُولِ. و”ألْفَيا": وجَدا، والسَيِّدُ: الزَوْجُ، قالَهُ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، ومُجاهِدٌ. فَيُرْوى أنَّهُما وجَدا العَزِيزَ ورَجُلًا مِن قَرابَةِ زُلَيْخا عِنْدَ البابِ الَّذِي اسْتَبَقا إلَيْهِ، قالَهُ السُدِّيُّ، فَلَمّا رَأتِ الفَضِيحَةَ فَزِعَتْ إلى مُطالَبَةِ يُوسُفَ والبَغْيِ عَلَيْهِ، فَأرَتِ العَزِيزَ أنْ يُوسُفَ أرادَها، وقالَتْ: ﴿ما جَزاءُ مَن أرادَ بِأهْلِكَ سُوءًا إلا أنْ يُسْجَنَ أو عَذابٌ ألِيمٌ﴾ وتَكَلَّمَتْ في الجَزاءِ، أيْ أنَّ الذَنْبَ ثابِتٌ مُتَقَرِّرٌ. (p-٧٢)وَهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي تَعْظِيمَ مَوْقِعِ السِجْنِ مِنَ النُفُوسِ لا سِيَّما بِذَوِي الأقْدارِ؛ إذْ قَدْ قُرِنَ بِألِيمِ العَذابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب