الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالُوا يا أبانا ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ وإنّا لَهُ لَناصِحُونَ﴾ ﴿أرْسِلْهُ مَعَنا غَدًا يَرْتَعْ ويَلْعَبْ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ ﴿قالَ إنِّي لَيَحْزُنُنِي أنْ تَذْهَبُوا بِهِ وأخافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذِئْبُ وأنْتُمْ عنهُ غافِلُونَ﴾ ﴿قالُوا لَئِنْ أكَلَهُ الذِئْبُ ونَحْنُ عُصْبَةٌ إنّا إذًا لَخاسِرُونَ﴾ ﴿فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وأجْمَعُوا أنْ يَجْعَلُوهُ في غَيابَتِ الجُبِّ وأوحَيْنا إلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهم بِأمْرِهِمْ هَذا وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ الآيَةُ الأُولى تَقْتَضِي أنَّ أباهم قَدْ كانَ عَلِمَ مِنهم إرادَتَهُمُ الخَبِيثَةَ في جِهَةِ يُوسُفَ، وهَذِهِ أنَّهم عَلِمُوا هم مِنهُ بِعِلْمِهِ ذَلِكَ. وقَرَأ الزُهْرِيُّ، وأبُو جَعْفَرٍ "لا تَأْمَنّا" بِالإدْغامِ دُونَ إشْمامٍ، ورَواها الحُلْوانِيُّ عن قالُونَ. وقَرَأ السَبْعَةُ بِالإشْمامِ لِلضَّمِّ، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ:"لا تَأْمَنَنا"، وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ: "لا تِيمَنّا" بِكَسْرِ تاءِ العَلامَةِ. و"غَدًا" ظَرْفٌ، أصْلُهُ: "غَدْوٌ" فَلَزِمَ اليَوْمَ كُلَّهُ، وبَقِيَ الغُدُوُّ والغُدْوَةُ اسْمَيْنِ لِأوَّلِ النَهارِ، وقالَ النَضْرُ ابْنُ شُمَيْلٍ: ما بَيْنَ الفَجْرِ إلى الإسْفارِ يُقالُ فِيهِ غُدْوَةٌ وبُكْرَةٌ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وأبُو عامِرٍ: "نَرْتَعْ ونَلْعَبْ" بِالنُونِ فِيهِما وإسْكانِ العَيْنِ والباءِ، و "نَرْتَعْ" -عَلى هَذا- مِنَ الرُتُوعِ وهي الإقامَةُ في الخِصْبِ والمَرْعى في أكْلٍ وشُرْبٍ، ومِنهُ قَوْلُ الغَضْبانِ بْنِ القَبَعْثَرِيِّ: (p-٤٩)"القَيْدُ والرَتْعَةُ وقِلَّةُ التَعْتَعَةِ"، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: .................... ؎ وبَعْدَ عَطائِكَ المِائَةَ الرَتاعا؟ ولَعِبُهم هَذا دَخَلَ في اللَعِبِ المُباحِ كاللَعِبِ بِالخَيْلِ والرَمْيِ ونَحْوِهِ، فَلا وصْمَ في ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، ولَيْسَ بِاللَعِبِ الَّذِي هو ضِدُّ الحَقِّ وقَرِينُ اللهْوِ، وقِيلَ لِأبِي عَمْرٍو بْنِ العَلاءِ: كَيْفَ يَقُولُونَ: "نَلْعَبُ" وهم أنْبِياءُ؟ قالَ: لَمْ يَكُونُوا حِينَئِذٍ أنْبِياءَ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "نَرْتَعِ ونَلْعَبْ" بِالنُونِ فِيهِما، وبِكَسْرِ العَيْنِ وجَزْمِ الباءِ، وقَدْ رُوِيَ عنهُ، "وَيَلْعَبْ" بِالياءِ، وهي قِراءَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، و "نَرْتَعِ" -عَلى هَذا- مِن رِعايَةِ الإبِلِ، وقالَ مُجاهِدٌ: هي مِنَ المُراعاةِ، أيْ: يُراعِي بَعْضُنا بَعْضًا ويَحْرُسُهُ، وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: ﴿يَرْتَعْ ويَلْعَبْ﴾ بِإسْنادِ ذَلِكَ كُلِّهِ إلى يُوسُفَ وقَرَأ نافِعٌ: "يَرْتَعِ ويَلْعَبْ" بِالياءِ فِيهِما وكَسْرِ العَيْنِ وجَزْمِ الباءِ، فَـ "يَرْتَعِ" -عَلى هَذا- مِن رَعْيِ الإبِلِ، قالَ ابْنُ زَيْدٍ: المَعْنى: يَتَدَرَّبُ في الرَعْيِ وحِفْظِ المالِ، ومِنَ الِارْتِعاءِ قَوْلُ الأعْشى: ؎ تَرْتَعِي السَفْحَ فالكَثِيبَ فَذاقا ∗∗∗ ∗∗∗ رٍ فَرَوْضَ القَطا فَذاتَ الرِئالِ قالَ أبُو عَلِيٍّ: وقِراءَةُ ابْنُ كَثِيرٍ: -"نَرْتَعِ" بِالنُونِ، و "يَلْعَبْ" بِالياءِ مَنزَعُها حَسَنٌ لِإسْنادِ النَظَرِ في المالِ والرِعايَةِ إلَيْهِمْ، واللَعِبِ إلى يُوسُفَ لِصِباهُ. وقَرَأ العَلاءُ بْنُ (p-٥٠)سَيّابَةَ: "يَرْتَعِ ويَلْعَبُ" بِرَفْعِ الباءِ عَلى القَطْعِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: "نُرْتِعُ" بِضَمِّ النُونِ وكَسْرِ التاءِ، و "نَلْعَبْ" بِالنُونِ والجَزْمِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ -فِي بَعْضِ الرِواياتِ عنهُ-: "نَرْتَعِي" بِإثْباتِ الياءِ، وهي ضَعِيفَةٌ لا تَجُوزُ إلّا في الشِعْرِ كَما قالَ الشاعِرُ: ؎ ألَمْ يَأْتِيكَ والأنْباءُ تَنْمِي ∗∗∗ ∗∗∗ بِما لاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيادِ؟ وقَرَأ أبُو رَجاءَ: "يُرْتَعْ" بِضَمِّ الياءِ وجَزْمِ العَيْنِ، و "يَلْعَبْ" بِالياءِ والجَزْمِ. وعَلَّلُوا طَلَبَهُ والخُرُوجَ بِهِ بِما يُمْكِنُ أنْ يَسْتَهْوِيَ يُوسُفَ لِصِباهُ مِنَ الرُتُوعِ واللَعِبِ والنَشاطِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنِّي لَيَحْزُنُنِي﴾ الآيَةُ. قَرَأ عاصِمٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، والحَسَنُ، والأعْرَجُ، وعِيسى، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: "لَيَحْزُنُنِي" بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الزايِ، قالَ أبُو حاتِمٍ: وقَرَأ نافِعٌ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الزايِ والإدْغامِ، ورِوايَةُ ورَشٍّ عن نافِعٍ بَيانُ النُونَيْنِ مَعَ ضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الزايِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، و"أنِ" الأُولى فاعِلَةٌ، والثانِيَةُ مَفْعُولَةٌ بِـ "أخافُ". وقَرَأ الكِسائِيُّ وحْدَهُ "الذِيبُ" دُونَ هَمْزٍ، وقَرَأ الباقُونَ بِالهَمْزِ وهو الأصْلُ، ومِنهُ جَمْعُهم إيّاهُ عَلى: "ذُؤْبانٍ"، ومِنهُ: تَذاءَبَتِ الرِيحُ والذِئابُ إذا أتَتْ مِن هاهُنا وهاهُنا. ورَوى ورْشٌ عن نافِعٍ: "الذِيبُ" بِغَيْرِ هَمْزٍ، وقالَ نَصْرٌ: سَمِعَتْ أبا عَمْرٍو لا يَهْمِزُ، قالَ: وأهْلُ الحِجازِ يَهْمِزُونَ. وإنَّما خافَ يَعْقُوبُ الذِئْبَ دُونَ سِواهُ وخَصَّصَهُ لِأنَّهُ كانَ الحَيَوانَ العادِيَّ المُنْبَثَّ في (p-٥١)القُطْرِ، ورُوِيَ أنْ يَعْقُوبَ كانَ رَأى في مَنامِهِ ذِئْبًا يَشْتَدُّ عَلى يُوسُفَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا عِنْدِي ضَعِيفٌ لِأنَّ يَعْقُوبَ لَوْ رَأى ذَلِكَ لَكانَ وحْيًا، فَإمّا أنْ يَخْرُجَ عَلى وجْهِهِ وذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وإمّا أنْ يَعْرِفَ يَعْقُوبُ بِمَعْرِفَتِهِ لِعِبارَةِ مِثالِ هَذا المَرْئِيِّ، فَكانَ يَتَشَكّاهُ بِعَيْنِهِ، اللهُمَّ إلّا أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وَأخافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذِئْبُ﴾ بِمَعْنى: أخافُ أنْ يُصِيبَهُ مِثْلَ ما رَأيْتُ مِن أمْرِ الذِئْبِ، وهَذا بِعِيدٌ، وكَذَلِكَ يَقُولُ الرَبِيعُ بْنُ ضَبْعٍ: ؎ والذِئْبُ أخْشاهُ ∗∗∗................. إنَّما خَصَّصَهُ لِأنَّهُ كانَ حَيَوانُ قُطْرِهِ العادِيِّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُخَصِّصَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَلامُ لِصِغَرِ يُوسُفَ: أيْ: أخافُ عَلَيْهِ هَذا الحَقِيرَ فَما فَوْقَهُ، وكَذَلِكَ خَصَّصَهُ الرَبِيعُ لِحَقارَتِهِ وضَعْفِهِ في الحَيَوانِ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ﴾ الآيَةُ. أسْنَدَ الطَبَرِيُّ إلى السُدِّيِّ قالَ: ذَهَبُوا بِيُوسُفَ وبِهِ عَلَيْهِمْ كَرامَةٌ، فَلَمّا بَرَزُوا في البَرِّيَّةِ أظْهَرُوا لَهُ العَداوَةَ، وجَعَلَ أخُوهُ يَضْرِبُهُ فَيَسْتَغِيثُ بِالآخَرِ فَيَضْرِبُهُ، فَجَعَلَ لا يَرى مِنهم رَحِيمًا، فَضَرَبُوهُ حَتّى كادُوا يَقْتُلُونَهُ، فَجَعَلَ يَصِيحُ ويَقُولُ: يا أبَتاهُ، يا يَعْقُوبُ لَوْ تَعْلَمُ ما صَنَعَ بِابْنِكَ بَنُو الإماءِ، فَقالَ لَهم يَهُوذا: ألَمْ تُعْطُونِي مَوْثِقًا أنْ لا تَقْتُلُوهُ؟ فانْطَلَقُوا بِهِ إلى الجُبِّ، فَجَعَلُوا يُدَلُّونَهُ فَيَتَعَلَّقُ بِالشَفِيرِ، فَرَبَطُوا يَدَيْهِ ونَزَعُوا قَمِيصَهُ، فَقالَ: يا إخْوَتاهُ رُدُّوا عَلَيَّ قَمِيصِي أتَوارى بِهِ في الجُبِّ، فَقالُوا: ادْعُ الشَمْسَ والقَمَرَ والكَواكِبَ تُؤْنِسْكَ، فَدَلُّوهُ حَتّى إذا بَلَغَ نِصْفَ الجُبِّ ألْقَوْهُ إرادَةَ أنْ يَمُوتَ، فَكانَ في الجُبِّ ماءٌ فَسَقَطَ فِيهِ ثُمَّ قامَ عَلى صَخْرَةٍ يُبْكِي، فَنادَوْهُ فَظَنَّ أنَّهم رَحِمُوهُ فَأجابَهُمْ: فَأرادُوا أنْ يَرْضَخُوهُ بِصَخْرَةٍ، فَمَنَعَهم يَهُوذا، وكانَ يَأْتِيهِ بِالطَعامِ. وجَوابُ "لَمّا" مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وأجْمَعُوا أجْمَعُوا، هَذا مَذْهَبُ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ وهو نَصُّ لَهُما، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:(p-٥٢) ؎ فَلَمّا أجَزْنا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحى ............. ومِثْلُ هَذا قَوْلُ اللهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا أسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: ١٠٣]، وقالَ بَعْضُ النُحاةِ في مِثْلِ هَذا: إنَّ الواوَ زائِدَةٌ، وقَوْلُهُ مَرْدُودٌ لِأنَّهُ لَيْسَ في القُرْآنِ شَيْءٌ زائِدٌ لِغَيْرِ مَعْنى. "وَأجْمَعُوا" مَعْناهُ: عَزَمُوا واتَّفَقَ رَأْيُهم عَلَيْهِ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ في المُسافِرِ: « "ما لَمْ يُجْمِعْ مُكْثا"»، عَلى أنَّ إجْماعَ الواحِدِ قَدْ يَنْفَرِدُ بِمَعْنى العَزْمِ والشُرُوعِ، ويُتَصَوَّرُ ذَلِكَ في إجْماعِ إخْوَةِ يُوسُفَ وفي سائِرِ الجَماعاتِ، وقَدْ يَجِيءُ إجْماعُ الجَماعَةِ فِيما لا عَزْمَ فِيهِ ولا شُرُوعَ، ولا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ في إجْماعِ الواحِدِ. والضَمِيرُ في "إلَيْهِ" عائِدٌ إلى يُوسُفَ، وقِيلَ: عَلى يَعْقُوبَ، والأوَّلُ أصَحُّ وأكْثَرُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الوَحْيُّ حِينَئِذٍ إلى يُوسُفَ بِرَسُولٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِإلْهامٍ أو بِنَوْمٍ، وكُلُّ ذَلِكَ قَدْ قِيلَ، وقالَ الحَسَنُ: أعْطاهُ اللهُ النُبُوءَةَ وهو في الجُبِّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا بَعِيدٌ. (p-٥٣)وَقَرَأ الجُمْهُورُ: "لَتُنَبِّئَنَّهُمْ" بِالتاءِ، وفي بَعْضِ مَصاحِفَ البَصْرَةِ بِالياءِ، وقَرَأ سَلامٌ بِالنُونِ، وهَذا كُلُّهُ في العَلامَةِ الَّتِي تَلِي اللامَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهم لا يَشْعُرُونَ﴾ قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: "وَقْتَ التَنْبِيهِ أنَّكَ يُوسُفُ "، وقالَ قَتادَةُ: "لا يَشْعُرُونَ بِوَحْيِنا إلَيْهِ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهم لا يَشْعُرُونَ﴾ -عَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ- مِمّا أُوحِيَ إلَيْهِ، وعَلى التَأْوِيلِ الثانِي - خَبَرًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب