الباحث القرآني

(p-١١)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكم إنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ومَن هو كاذِبٌ وارْتَقِبُوا إنِّي مَعَكم رَقِيبٌ﴾ ﴿وَلَمّا جاءَ أمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْبًا والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا وأخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَيْحَةُ فَأصْبَحُوا في دِيارِهِمْ جاثِمِينَ﴾ ﴿كَأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ألا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ ﴿عَلى مَكانَتِكُمْ﴾ مَعْناهُ: عَلى حالاتِكُمْ، وهَذا كَما تَقُولُ: مَكانَةُ فُلانٍ في العِلْمِ فَوْقَ مَكانَةِ فُلانٍ، يُسْتَعارُ مِنَ البِقاعِ إلى المَعانِي. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ، وعاصِمٌ: "مَكانَتِكُمْ" بِالجَمْعِ، والجُمْهُورِ عَلى الإفْرادِ. وقَوْلُهُ: "اعْمَلُوا" تَهْدِيدٌ ووَعِيدٌ، وهو نَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠]. وقَوْلُهُ: ﴿مَن يَأْتِيهِ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ "مَن" مَفْعُولَةً بِـ "تَعْلَمُونَ"، والثانِيَةُ عَطْفٌ عَلَيْها. قالَ الفَرّاءُ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اسْتِفْهامًا في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: الأوَّلُ أحْسَنُ لِأنَّها مَوْصُولَةٌ ولا تُوصَلُ في الِاسْتِفْهامِ، ويَقْضِي بِصِلَتِها أنَّ المَعْطُوفَةَ عَلَيْها مَوْصُولَةٌ لا مَحالَةَ، والصَحِيحُ أنَّ الوَقْفَ في قَوْلِهِ: ﴿إنِّي عامِلٌ﴾ ثُمَّ ابْتِداءُ الكَلامِ بِالوَعِيدِ، و"مَن" مَعْمُولَةٌ لـ "تَعْلَمُونَ" وهي مَوْصُولَةٌ. وقَوْلُهُ: "وارْتَقِبُوا" كَذَلِكَ تَهْدِيدٌ أيْضًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمّا جاءَ أمْرُنا﴾ الآيَةَ. الأمْرُ هاهُنا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ مَصْدَرَ أمْرٍ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ واحِدَ الأُمُورِ. وقَوْلُهُ: ﴿بِرَحْمَةٍ مِنّا﴾ إمّا أنْ يَقْصِدَ الإخْبارَ عَنِ الرَحْمَةِ الَّتِي لَحِقَتْ شُعَيْبًا لِنُبُوَّتِهِ وحُسْنِ عَمَلِهِ وعَمَلِ مُتَّبِعِيهِ، وإمّا أنْ يَقْصِدَ أنَّ النَتِيجَةَ لَمْ تَكُنْ إلّا بِمُجَرَّدِ رَحْمَةٍ لا بِعَمَلٍ مِن أعْمالِهِمْ، وأمّا "الصَيْحَةُ" فَهي صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ، ورُوِيَ أنَّهُ صاحَ بِهِمْ صَيْحَةً جَثَّمَ لَها كُلُّ واحِدٍ مِنهم في مَكانِهِ حَيْثُ سَمِعَها مَيِّتًا قَدْ تَقَطَّعَتْ حُجَبُ قَلْبِهِ. والجُثُومُ أصْلُهُ في الطائِرِ إذا ضَرَبَ بِصَدْرِهِ إلى الأرْضِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ في غَيْرِهِ إذا كانَ مِنهُ بِشَبَهٍ. (p-١٢)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها﴾ الآيَةَ. الضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "فِيها" عائِدٌ عَلى "الدِيارِ"، و "يَغْنَوْا" مَعْناهُ: يُقِيمُونَ بِنِعْمَةٍ وخَفْضِ عَيْشٍ، ومِنهُ المَغانِي، وهي المَنازِلُ المَعْمُورَةُ بِالأهْلِ، وقَوْلُهُ: "ألّا" تَنْبِيهٌ لِلسّامِعِ، وقَوْلُهُ: "بُعْدًا" مَصْدَرُ دَعا بِهِ، وهَذا كَما تَقُولُ: "سَقْيًا لَكَ، ورَعْيًا لَكَ، وسُحْقًا لِلْكافِرِ" ونَحْوَ هَذا، وفارَقَتْ هَذِهِ قَوْلَهُمْ: "سَلامٌ عَلَيْكَ"، لِأنَّ هَذا كَأنَّهُ إخْبارٌ عن شَيْءٍ قَدْ وجَبَ وتَحْصَّلَ، وتِلْكَ إنَّما هي دُعاءٌ مُتَرَجًّى، ومَعْنى البُعْدِ في قِراءَةِ مَن قَرَأ "بَعِدَتْ" بِكَسْرِ العَيْنِ: الهَلاكُ، وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ، ومِنهُ قَوْلُ خِرْنِقَ بِنْتِ هُنّانٍ: ؎ لا يَبْعِدَنَّ قَوْمِيَ الَّذِينَ هُمُ ∗∗∗ سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزُرِ ومِنهُ قَوْلُ مالِكِ بْنِ الرَيْبِ: ؎ يَقُولُونَ لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنُونَنِي ∗∗∗ ∗∗∗ وأيْنَ مَكانُ البُعْدِ إلّا مَكانِيا وأمّا مَن قَرَأ: "بَعُدَتْ" وهو السُلَمِيُّ، وأبُو حَيْوَةَ- فَهو مِنَ البُعْدِ الَّذِي ضِدُّهُ القُرْبُ، ولا يُدْعى بِهِ إلّا عَلى مَبْغُوضٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب