الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكم شِقاقِي أنْ يُصِيبَكم مِثْلُ ما أصابَ قَوْمِ نُوحٍ أو قَوْمِ هُودٍ أو قَوْمِ صالِحٍ وما قَوْمِ لُوطٍ مِنكم بِبَعِيدٍ﴾ ﴿واسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ ودُودٌ﴾ ﴿قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمّا تَقُولُ وإنّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفًا ولَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وما أنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ﴾ ﴿قالَ يا قَوْمِ أرَهْطِي أعَزُّ عَلَيْكم مِنَ اللهِ واتَّخَذْتُمُوهُ وراءَكم ظِهْرِيًّا إنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾
﴿لا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ مَعْناهُ: لا يَكْسِبْنَكُمْ، يُقالُ: جَرَّمَهُ كَذا وكَذا وأُجَرِّمُهُ إذا أكْسَبَهُ، (p-٨)كَما يُقالُ: كَسَبَ وأكْسَبَ بِمَعْنى، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ ولَقَدْ طَعنتَ أبا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ∗∗∗ جَرَمَتْ فَزارَةُ بَعْدَها أنْ يَغْضَبُوا
وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يَجْرِمَنَّكُمْ" بِفَتْحِ الياءِ، وقَرَأ الأعْمَشُ، وابْنُ وثّابٍ: "يُجْرِمَنَّكُمْ" بِضَمِّها، و "شِقاقِي" مَعْناهُ: مُشاقَتِي وعَداوَتِي، و"أنْ" مُفَعْوَلَةٌ بِـ "يَجْرِمَنَّكُمْ". وكانَتْ قِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ أقْرَبَ القِصَصِ عَهْدًا بِقِصَّةِ قَوْمِ شُعَيْبٍ، وقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: وما مَنازِلُ قَوْمِ لُوطٍ مِنكم بِبَعِيدٍ، فَكَأنَّهُ قالَ: وما قَوْمُ لُوطٍ مِنكم بِبَعِيدٍ في المَسافَةِ، ويَتَضَمَّنُ هَذا القَوْلُ ضَرْبَ المَثَلِ لَهم بِقَوْمِ لُوطٍ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: "مِثْلُ" بِالرَفْعِ عَلى أنَّهُ فاعِلٌ "يُصِيبْكُمْ"، وقَرَأ مُجاهِدٌ، والجَحْدَرِيُّ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ: "مِثْلَ" بِالنَصْبِ؛ وذَلِكَ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ: إمّا أنْ يَكُونَ "مِثْلَ" فاعِلًا، وفَتْحَةُ اللامِ فَتْحَةَ بِناءٍ لِما أُضِيفَ لِغَيْرٍ مُتَمَكِّنٍ، فَإنَّ "مِثْلَ" قَدْ يَجْرِي مَجْرى الظُرُوفِ في هَذا البابِ وإنْ لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا مَحْضًا، وإمّا أنْ يُقَدَّرَ الفاعِلُ مَحْذُوفًا يَقْتَضِيهِ المَعْنى، ويَكُونُ "مِثْلَ" مَنصُوبًا عَلى النَعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إصابَةُ مِثْلَ.
وقَوْلُهُ: ﴿واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ الآيَةَ. تَقَدَّمَ القَوْلُ في مِثْلِ هَذا مِن تَرْتِيبِ هَذا الِاسْتِغْفارِ قَبْلَ التَوْبَةِ، و "وَدُودٌ" مَعْناهُ أنَّ أفْعالَهُ ولُطْفَهُ بِعِبادِهِ لَمّا كانَتْ في غايَةِ الإحْسانِ إلَيْهِمْ كانَتْ كَفِعْلِ مَن يَتَوَدَّدُ ويَوَدُّ المَصْنُوعَ لَهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا يا شُعَيْبُ﴾ الآيَةَ. "نَفْقَهُ" مَعْناهُ: نَفْهَمُ، وهَذا نَحْوَ قَوْلِ (p-٩)قُرَيْشٍ: ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ﴾ [فصلت: ٥]، ومَعْنى ﴿ما نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمّا تَقُولُ﴾: أيْ ما نَفْقَهُ صِحَّةَ قَوْلِكَ، وأمّا فِقْهُهم لَفْظَهُ ومَعْناهُ فَمُتَحَصِّلٌ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وشَرِيكٍ القاضِي في قَوْلِهِمْ: "ضَعِيفًا" أنَّهُ كانَ ضَرِيرَ البَصَرِ أعْمى، وحَكى الزَهْراوِيُّ أنَّ حِمْيَرَ تَقُولُ لِلْأعْمى: ضَعِيفٌ، كَما يُقالُ لَهُ: ضَرِيرٌ، وقِيلَ: كانَ ناحِلَ البَدَنِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا كُلُّهُ ضَعِيفٌ ولا تَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ بِضَعْفِ بَصَرِهِ أو بَدَنِهِ، والظاهِرُ مِن قَوْلِهِمْ: "ضَعِيفًا" أنَّهُ ضَعِيفُ الِانْتِصارِ والقُدْرَةِ، وأنَّ رَهْطَهُ الكَفَرَةَ كانُوا يُراعُونَ فِيهِ.
و الرَهْطُ: جَماعَةُ الرَجُلِ، ومِنهُ الراهِطاءُ؛ لِأنَّ اليَرْبُوعَ يَعْتَصِمُ بِهِ كَما يَفْعَلُ الرَجُلُ بِرَهْطِهِ. و "لَرَجَمْناكَ" قِيلَ: مَعْناهُ بِالحِجارَةِ، وهو الظاهِرُ، وقالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وقِيلَ: مَعْناهُ: لَرَجَمْناكَ بِالسَبِّ، وبِهِ فَسَّرَ الطَبَرَيُّ، وهَذا أيْضًا تَسْتَعْمِلُهُ العَرَبُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لأرْجُمَنَّكَ واهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [مريم: ٤٦]، وقَوْلُهُمْ: "بِعَزِيزٍ" أيْ: بِذِي مَنَعَةٍ وعِزَّةٍ ومَنزِلَةٍ في نُفُوسِنا.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ يا قَوْمِ أرَهْطِي﴾ الآيَةَ. "الظِهْرِيُّ": الشَيْءُ الَّذِي يَكُونُ وراءَ الظَهْرِ، وقَدْ يَكُونُ الشَيْءُ وراءَ الظَهْرِ بِوَجْهَيْنِ في الكَلامِ: إمّا بِأنْ يُطْرَحَ، كَما تَقُولُ: جَعَلَتَ كَلامِي وراءَ ظَهْرِكَ ودُبُرَ أُذُنِكَ، ومِنهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ:
؎ تَمِيمَ بْنَ زَيْدٍ لا تَكُونَنَّ حاجَتِي ∗∗∗ ∗∗∗ بِظَهْرٍ فَلا يَعْيا عَلَيَّ جَوابُها
(p-١٠)وَإمّا بِأنْ يُسْنِدَ إلَيْهِ ويَلْجَأ. ومِن هَذا قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ في دُعائِهِ: « "وَألْجَأتُ ظَهْرِي إلَيْكَ"،» فَقالَ جُمْهُورُ المُتَأوِّلِينَ في مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ: أنَّهُ "واتَّخَذْتُمُ اللهَ ظَهْرِيًّا -أيْ: غَيْرَ مُراعًى- وراءَ الظَهْرِ" عَلى مَعْنى الِاطِّراحِ، ورَجَّحَهُ الطَبَرَيُّ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهُوَ عِنْدِي عَلى حَذْفٍ مُضافٍ ولا بُدَّ.
وقالَ بَعْضُهُمُ: الضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "واتَّخَذْتُمُوهُ" عائِدٌ عَلى أمْرِ اللهِ وشَرْعِهِ، إذْ يَتَضَمَّنُهُ الكَلامُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: أتَرَوْنَ رَهْطِي أعَزَّ عَلَيْكم مِنَ اللهِ وأنْتُمْ تَتَّخِذُونَ اللهَ سَنَدَ ظُهُورِكم وعِمادَ آمالِكُمْ؟
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَقَوْلُ الجُمْهُورِ عَلى أنْ كانَ كُفْرُ قَوْمِ شُعَيْبٍ جُحْدًا بِاللهِ تَعالى وجَهْلًا بِهِ، وهَذا القَوْلُ الثانِي عَلى أنَّهم كانُوا يُقِرُّونَ بِالخالِقِ الرازِقِ ويَعْتَقِدُونَ الأصْنامَ وسائِطَ ووَسائِلَ، ونَحْوَ هَذا، وهاتانِ الفِرْقَتانِ مَوْجُودَتانِ في الكَفَرَةِ، ومِنَ اللَفْظَةِ: الِاسْتِظْهارُ بِالبَيِّنَةِ، وقَدْ قالَ ابْنُ زَيْدٍ: الظِهْرِيُّ: الفَضْلُ، مَثَلُ الجَمّالِ يَخْرُجُ مَعَهُ بِإبِلٍ ظَهارِيَّةٍ يُعِدُّها إنِ احْتاجَ إلَيْها وإلّا فَهي فَضْلَةٌ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
هَذا كُلُّهُ مِمّا يُسْتَنَدُ إلَيْهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ خَبَرٌ في ضِمْنِهِ تَوَعَّدٌ، ومَعْناهُ: مُحِيطٌ عِلْمُهُ وقُدْرَتُهُ.
{"ayahs_start":89,"ayahs":["وَیَـٰقَوۡمِ لَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شِقَاقِیۤ أَن یُصِیبَكُم مِّثۡلُ مَاۤ أَصَابَ قَوۡمَ نُوحٍ أَوۡ قَوۡمَ هُودٍ أَوۡ قَوۡمَ صَـٰلِحࣲۚ وَمَا قَوۡمُ لُوطࣲ مِّنكُم بِبَعِیدࣲ","وَٱسۡتَغۡفِرُوا۟ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوۤا۟ إِلَیۡهِۚ إِنَّ رَبِّی رَحِیمࣱ وَدُودࣱ","قَالُوا۟ یَـٰشُعَیۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِیرࣰا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِینَا ضَعِیفࣰاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَـٰكَۖ وَمَاۤ أَنتَ عَلَیۡنَا بِعَزِیزࣲ","قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَرَهۡطِیۤ أَعَزُّ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذۡتُمُوهُ وَرَاۤءَكُمۡ ظِهۡرِیًّاۖ إِنَّ رَبِّی بِمَا تَعۡمَلُونَ مُحِیطࣱ"],"ayah":"قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَرَهۡطِیۤ أَعَزُّ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذۡتُمُوهُ وَرَاۤءَكُمۡ ظِهۡرِیًّاۖ إِنَّ رَبِّی بِمَا تَعۡمَلُونَ مُحِیطࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق