الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَتْ يا ويْلَتى أألِدُ وأنا عَجُوزٌ وهَذا بَعْلِي شَيْخًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ ﴿قالُوا أتَعْجَبِينَ مِن أمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وبَرَكاتُهُ عَلَيْكم أهْلَ البَيْتِ إنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ اخْتَلَفَ الناسُ في الألِفِ الَّتِي في قَوْلِهِ: يا ويْلَتى وأظْهَرُ ما فِيها أنَّها بَدَلُ ياءِ الإضافَةِ، أصْلُها: يا ويْلَتِي، كَما تَقُولُ: يا غُلاما ويا غَوْثا وقَدْ تُرْدَفُ هَذِهِ الألِفُ بِهاءٍ في الكَلامِ، ولَمْ يُقْرَأْ بِها، وأمالَ هَذِهِ الألِفَ عاصِمٌ والأعْمَشُ وأبُو عَمْرٍو. ومَعْنى يا ويْلَتى في هَذا المَوْضِعِ العِبارَةُ عَمّا دَهَمَ النَفْسَ مِنَ العَجَبِ في وِلادَةِ عَجُوزٍ، وأصْلُ هَذا الدُعاءِ بِالوَيْلِ ونَحْوِهِ في التَفَجُّعِ لِشِدَّةٍ أو مَكْرُوهٍ يُهِمُّ النَفْسَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بَعْدُ في عَجَبٍ يَدْهَمُ النَفْسَ وقالَ قَوْمٌ: إنَّما قالَتْ: يا ويْلَتى لَمّا مَرَّ بِفِكْرِها مِن ألَمِ الوِلادَةِ وشِدَّتِها، ثُمَّ رَجَعَتْ بِفِكْرِها إلى التَعَجُّبِ ونَطَقَتْ بِقَوْلِها أألِدُ وأنا عَجُوزٌ؟ الآيَةُ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "أألِدُ" بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ بِتَخْفِيفِ الأولى وتَحْقِيقِ الثانِيَةِ، وفي النُطْقِ بِهَذِهِ عُسْرٌ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: بِتَحْقِيقِ الأُولى وتَخْفِيفِ الثانِيَةِ، والتَخْفِيفُ هُنا مَدُّها، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ "ءاألِدُ" بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ ومَدَّةٍ بَيْنَهُما. و"العَجُوزُ" المُسِنَّةُ، وقَدْ حَكى بَعْضُ الناسِ: أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: العَجُوزَةُ، و"البَعْلُ": الزَوْجُ، وشَيْخًا نُصِبَ عَلى الحالِ وهي حالٌ مِن مُشارٍ إلَيْهِ لا يُسْتَغْنى عنها لِأنَّها مَقْصُودُ الإخْبارِ، وهي لا تَصِحُّ إلّا إذا لَمْ يَقْصِدِ المُتَكَلِّمُ التَعْرِيفَ بِذِي الحالِ، مِثْلُ أنْ يَكُونَ المُخاطَبُ يَعْرِفُهُ وأمّا إذا قَصَدَ التَعْرِيفَ بِهِ لَزِمَ أنْ يَكُونَ التَعْرِيفُ في الخَبَرِ قَبْلَ الحالِ، وتَجِيءُ الحالُ عَلى بابِها مُسْتَغْنًى عنها، ومِثالُ هَذا قَوْلِكَ: هَذا زَيْدٌ قائِمًا، إذا أرَدْتَ التَعْرِيفَ بِزَيْدٍ. أو كانَ مَعْرُوفًا وأرَدْتَ التَعْرِيفَ بِقِيامِهِ، وأمّا إنْ قَصَدَ المُتَكَلِّمُ أنَّ زَيْدِيَّتَهُ إنَّما هي مادامَ قائِمًا، فالكَلامُ لا يَجُوزُ. وقَرَأ الأعْمَشُ "هَذا بَعْلِي شَيْخٌ"، قالَ أبُو حاتِمٍ وكَذَلِكَ في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ورَفَعُهُ عَلى وُجُوهٍ: مِنها: أنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ كَما تَقُولُ: هَذا حُلْوٌ حامِضٌ، ومِنها: أنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِداءٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: هو شَيْخٌ ورُوِيَ أنَّ بَعْضَ الناسِ قَرَأهُ: "وَهَذا بَعْلِي هَذا شَيْخٌ"، وهَذِهِ القِراءَةُ شَبِيهَةٌ بِهَذا التَأْوِيلِ. ومِنها: أنَّهُ بَدَلٌ مِن بَعْلِي ومِنها: أنْ يَكُونَ قَوْلُها بَعْلِي بَدَلًا مِن هَذا أو عَطْفَ بَيانٍ عَلَيْهِ، ويَكُونَ "شَيْخٌ" خَبَرُ هَذا. ويُقالُ شَيْخٌ وشَيْخَةٌ- وبَعْضُ العَرَبِ يَقُولُ في المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ شَيْخٌ. ورُوِيَ أنَّ سارَّةَ كانَتْ وقْتَ هَذِهِ المَقالَةِ مِن تِسْعٍ وتِسْعِينَ سَنَةً، وقِيلَ: مِن تِسْعِينَ- قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ - وقِيلَ: مِن ثَمانِينَ وكَذَلِكَ قِيلَ: في سِنِّ إبْراهِيمَ، إنَّهُ كانَ مِائَةً وعِشْرِينَ سَنَةً، وقِيلَ: مِائَةَ سَنَةٍ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِمّا يَحْتاجُ إلى سَنَدٍ. والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: قالُوا لِلْمَلائِكَةِ، وقَوْلُهُ: مِن أمْرِ اللهِ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ واحِدَ الأُمُورِ، أيْ مِنَ الوِلادَةِ في هَذِهِ السِنِّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ مَصْدَرَ أمَرَ، أيْ مِمّا أمَرَ اللهُ في هَذِهِ النازِلَةِ. وقَوْلُهُ: رَحْمَتُ اللهِ وبَرَكاتُهُ عَلَيْكم أهْلَ البَيْتِ يَحْتَمِلُ اللَفْظُ أنْ يَكُونَ دُعاءً وأنْ يَكُونَ إخْبارًا، وكَوْنُهُ إخْبارًا أشْرَفُ، لِأنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ الرَحْمَةِ والبَرَكَةِ لَهُمْ، وكَوْنُهُ دُعاءً إنَّما يَقْتَضِي أنَّهُ أمْرٌ يُتَرَجّى ولَمْ يَتَحَصَّلْ بَعْدُ. ونَصْبُ أهْلَ البَيْتِ عَلى الِاخْتِصاصِ- هَذا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، ولِذَلِكَ جُعِلَ هَذا والنَصْبُ عَلى المَدْحِ في بابَيْنِ. كَأنَّهُ مَيَّزَ النَصْبَ عَلى المَدْحِ بِأنْ يَكُونَ المُنْتَصِبُ لَفْظًا يَتَضَمَّنُ بِنَفَسِهِ مَدْحًا كَما تَقُولُ: هَذا زَيْدٌ عاقِلَ قَوْمِهِ، وجُعِلَ الِاخْتِصاصُ إذا لَمْ تَتَضَمَّنِ اللَفْظَةُ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: إنّا مُعاشِرَ الأنْبِياءِ وإنّا بَنِي نَهْشَلٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا يَكُونُ الِاخْتِصاصُ إلّا بِمَدْحٍ أو ذَمٍّ، لَكِنْ لَيْسَ في نَفْسِ اللَفْظَةِ المَنصُوبَةِ. وهَذِهِ الآيَةُ تُعْطِي أنَّ زَوْجَةَ الرَجُلِ مِن أهْلِ بَيْتِهِ لِأنَّها خُوطِبَتْ بِهَذا، فَيَقْوى القَوْلُ في زَوْجاتِ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ بِأنَّهُنَّ مِن أهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ أذْهَبَ اللهُ عنهُمُ الرِجْسَ، بِخِلافِ ما تَذْهَبُ إلَيْهِ الشِيعَةُ، وقَدْ قالَهُ أيْضًا بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، قالُوا: "أهْلُ بَيْتِهِ" الَّذِينَ حُرِمُوا الصَدَقَةَ، والأوَّلُ أقْوى وهو ظاهِرٌ جَلِيٌّ مِن سُورَةِ الأحْزابِ لِأنَّهُ ناداهُنَّ بِقَوْلِهِ: ﴿يا نِساءَ النَبِيِّ﴾ [الأحزاب: ٣٠] ثُمَّ بِقَوْلِهِ: أهْلَ البَيْتِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ووَقَعَ في البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قالَ: أهْلُ بَيْتِهِ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَدَقَةَ بَعْدَهُ فَأرادَ ابْنُ عَبّاسٍ: أهْلَ بَيْتِ النَسَبِ الَّذِينَ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِيهِمْ: «إنَّ الصَدَقَةَ لا تَحِلُّ لِأهْلِ بَيْتِي إنَّما هي أوساخُ الناسِ.» والبَيْتُ في هَذِهِ الآيَةِ وفي سُورَةِ الأحْزابِ بَيْتُ السُكْنى فَفي اللَفْظِ اشْتِراكٌ يَنْبَغِي أنْ يُتَحَسَّسَ إلَيْهِ. فَفاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عنها مِن أهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِالوَجْهَيْنِ وعَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ بِالواحِدِ، وزَوْجاتُهُ بِالآخَرِ، وأمّا الشِيعَةُ فَيَدْفَعُونَ الزَوْجاتِ بُغْضًا في عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها. وحَمِيدٌ أيْ أفْعالُهُ تَقْتَضِي أنْ يُحْمَدَ، ومَجِيدٌ أيْ مُتَّصِفٌ بِأوصافِ العُلُوِّ، ومَجُدَ الشَيْءُ إذا حَسُنَتْ أوصافُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب