الباحث القرآني
(p-٦٠٦)قوله عزّ وجلّ:
﴿وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إبْراهِيمَ بِالبُشْرى قالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ ﴿فَلَمّا رَأى أيْدِيَهم لا تَصِلُ إلَيْهِ نَكِرَهم وأوجَسَ مِنهم خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾ ﴿وامْرَأتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإسْحاقَ ومِن وراءِ إسْحاقَ يَعْقُوبَ﴾
"الرُسُلُ": المَلائِكَةُ وهم جِبْرِيلُ ومِيكائِيلُ وإسْرافِيلُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَدَلَ إسْرائِيلَ: عِزْرائِيلُ- مَلَكُ المَوْتِ- ورُوِيَ أنَّ جِبْرِيلَ مِنهم كانَ مُخْتَصًّا بِإهْلاكِ قَرْيَةِ لُوطٍ، ومِيكائِيلُ مُخْتَصًّا بِتَبْشِيرِ إبْراهِيمَ بِإسْحاقَ.
وإسْرافِيلُ مُخْتَصًّا بِإنْجاءِ لُوطٍ ومَن مَعَهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذِهِ الآيَةُ تَقْضِي بِاشْتِراكِهِمْ في البِشارَةِ بِإسْحاقَ وقالَتْ فِرْقَةٌ -وَهِيَ الأكْثَرُ-: "البُشْرى" هي بِإسْحاقَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: "البُشْرى" هي بِإهْلاكِ قَوْمِ لُوطٍ.
وقَوْلُهُ: "سَلامًا" نَصْبٌ عَلى المَصْدَرِ، والعامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ مِن لَفْظِهِ كَأنَّهُ قالَ: أُسَلِّمُ سَلامًا، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ: سَلامًا حِكايَةً لِمَعْنى ما قالُوهُ لا لِلَفْظِهِمْ، قالَهُ مُجاهِدٌ والسُدِّيُّ، فَلِذَلِكَ عَمِلَ فِيهِ القَوْلُ، كَما تَقُولُ- الرَجُلُ قالَ:،لا إلَهَ إلّا اللهُ": "قَلْتَ حَقًّا أو إخْلاصًا"، ولَوْ حَكَيْتَ لَفْظَهم لَمْ يَصِحَّ أنْ تُعْمِلَ فِيهِ القَوْلَ وقَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿قالَ سَلامٌ﴾ حِكايَةٌ لِلَفْظِهِ، و"سَلامٌ" مُرْتَفِعٌ إمّا عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَلَيْكم وإمّا عَلى خَبَرِ ابْتِداءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أمْرِي سَلامٌ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف: ١٨] إمّا عَلى تَقْدِيرِ فَأمْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ، وإمّا عَلى تَقْدِيرِ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أجْمَلُ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ: "قالُوا سَلامًا قالَ: سَلامٌ" وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: "قالُوا سَلامًا، قالَ: سَلْمٌ" وكَذَلِكَ اخْتِلافُهم في سُورَةِ الذارِياتِ. وذَلِكَ عَلى وجْهَيْنِ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ السَلامَ بِعَيْنِهِ، كَما قالُوا حِلٌّ وحَلالٌ وحِرْمٌ وحَرامٌ ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ مَرَرْنا فَقُلْنا إيهِ سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ ∗∗∗ كَما اكْتَلَّ بِالبَرْقِ الغَمامُ اللَوائِحُ
(p-٦٠٧)اكْتَلَّ: اتَّخَذَ إكْلِيلًا أو نَحْوَ هَذا، قالَ الطَبَرِيُّ: ورُوِيَ: كَما انْكَلَّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِـ "السِلْمِ": ضِدَّ الحَرْبِ، تَقُولُ نَحْنُ سِلْمٌ لَكم. وكانَ سَلامُ المَلائِكَةِ دُعاءً مَرْجُوًّا- فَلِذَلِكَ نَصَبَ- وحَيّا الخَلِيلُ بِأحْسَنَ مِمّا حُيِّيَ وهو الثابِتُ المُتَقَرِّرُ ولِذَلِكَ جاءَ مَرْفُوعًا.
وقَوْلُهُ: ﴿فَما لَبِثَ أنْ جاءَ﴾ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ "ما" نافِيَةً، وفي "لَبِثَ" ضَمِيرُ إبْراهِيمَ، و"أنْ جاءَ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أيْ: بِأنْ جاءَ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ "ما" نافِيَةً وإنْ جاءَ بِتَأْوِيلِ المَصْدَرِ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِـ "لَبِثَ" أيْ: ما لَبِثَ مَجِيئُهُ، ولَيْسَ في "لَبِثَ" -عَلى هَذا- ضَمِيرُ إبْراهِيمَ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ "ما" بِمَعْنى الَّذِي، وُفي لَبِثَ ضَمِيرُ إبْراهِيمَ، و"أنْ جاءَ" خَبَرُ "ما"، أيْ: فَلَبِثَ إبْراهِيمُ مَجِيئَهُ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، وفي أدَبِ الضَيْفِ أنْ يَجْعَلَ قِراهُ مِن هَذِهِ الآيَةِ.
و"الحَنِيذُ" بِمَعْنى المَحْنُوذِ ومَعْناهُ: بِعِجْلٍ مَشْوِيٍّ نَضِجٍ يُقَطَّرُ ماؤُهُ، وهَذا القَطْرُ يَفْصِلُ الحَنِيذَ مِن جُمْلَةِ المَشْوِيّاتِ، ولَكِنْ هَيْئَةُ المَحْنُوذِ في اللُغَةِ الَّذِي يُغَطّى بِحِجارَةٍ أو رَمْلٍ مَحْمِيٍّ أو حائِلٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ النارِ يُغَطّى بِهِ والمُعَرَّضُ مِنَ الشِواءِ: الَّذِي (p-٦٠٨)يُصَفَّفُ عَلى الجَمْرِ، والمُهْضَّبُ: الشِواءُ الَّذِي بَيْنَهُ وبَيْنَ النارِ حائِلٌ، يَكُونُ الشِواءُ عَلَيْهِ لا مَدْفُونًا لَهُ، والتَحْنِيذُ في تَضْمِيرِ الخَيْلِ هو أنْ يُغَطّى الفَرَسُ بِجُّلٍّ عَلى جُلٍّ لِيَتَصَبَّبَ عَرَقُهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا رَأى أيْدِيَهُمْ﴾ الآيَةُ، رُوِيَ أنَّهم كانُوا يَنْكُتُونَ بِقِداحٍ كانَتْ في أيْدِيهِمْ في اللَحْمِ ولا تَصِلُ أيْدِيهِمْ إلَيْهِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ مِن أدَبِ الطَعامِ أنَّ لِصاحِبِ الضَيْفِ أنْ يَنْظُرَ مِن ضَيْفِهِ هَلْ يَأْكُلُ أمْ لا؟
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ بِتَلَفُّتٍ ومُسارَقَةٍ لا بِتَحْدِيدِ النَظَرِ، فَرُوِيَ أنَّ أعْرابِيًّا أكَلَ مَعَ سُلَيْمانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ، فَرَأى سُلَيْمانَ في لُقْمَةِ الأعْرابِيِّ شَعْرَةً فَقالَ لَهُ: أزِلِ الشَعْرَةَ عن لُقْمَتِكَ، فَقالَ لَهُ: أتُنْظَرُ إلَيَّ نَظَرَ مَن يَرى الشَعْرَ في لُقْمَتِي واللهِ لا أكَلْتُ مَعَكَ.
و"نَكِرَهُمْ" -عَلى ما ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الناسِ- مَعْناهُ: أنْكَرَهُمْ، واسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِالبَيْتِ الَّذِي نَحَلَهُ أبُو عَمْرِو بْنِ العَلاءِ الأعْشى وهُوَ:
؎ وأنْكَرَتْنِي وما كانَ الَّذِي نَكِرَتْ ∗∗∗ ∗∗∗ مِنَ الحَوادِثِ إلّا الشَيْبُ والصَلَعا
وقالَ بَعْضُ الناسِ: "نَكِرَ" هو مُسْتَعْمَلٌ فِيما يُرى بِالبَصَرِ فَيُنْكَرُ، و"أنْكَرَ" هي مُسْتَعْمَلَةٌ فِيما لا يُقَرَّرُ مِنَ المَعانِي، فَكَأنَّ الأعْشى قالَ: وأنْكَرْتَنِي مَوَدَّتِي وأدْمَتِي (p-٦٠٩)وَنَحْوَهُ، ثُمَّ جاءَ بِـ "نَكِرَ" في الشَيْبِ والصَلَعِ الَّذِي هو مَرْئِيٌّ بِالبَصَرِ، ومِن هَذا قَوْلُ أبِي ذُؤَيْبٍ:
؎ فَنَكِرْنَهُ فَنَفَرْنَ وامْتَرَسَتْ بِهِ ∗∗∗ ∗∗∗ هَوْجاءُ هادِيَةٌ وهادٍ جُرْشَعُ
والَّذِي خافَ مِنهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ امْتِناعُهم مِنَ الأكْلِ، فَعُرْفُ مَن جاءَ بِشَرٍّ ألّا يَأْكُلَ طَعامَ المَنزُولِ بِهِ، و"أوجَسَ" مَعْناهُ: أحَسَّ في نَفْسِهِ خِيفَةً مِنهُمْ، و"الوَجِيسُ": ما يَعْتَرِي النَفْسَ عِنْدَ الحَذَرِ وأوائِلِ الفَزَعِ، فَأمَّنُوهُ بِقَوْلِهِمْ: "لا تَخَفْ"، وعَلِمَ أنَّهُمُ المَلائِكَةُ.
ثُمَّ خَرَجَتِ الآيَةُ إلى ذِكْرِ المَرْأةِ وبِشارَتِها، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: قائِمَةٌ خَلْفَ سِتْرٍ تَسْمَعُ مُحاوَرَةَ إبْراهِيمَ مَعَ أضْيافِهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: قائِمَةٌ في صَلاةٍ، وقالَ السُدِّيُّ مَعْناهُ: قائِمَةٌ تَخْدِمُ القَوْمَ، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَهِيَ قائِمَةٌ وهو جالِسٌ". وقَوْلُهُ: ﴿فَضَحِكَتْ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: مَعْناهُ: حاضَتْ، وأنْشَدَ عَلى ذَلِكَ اللُغَوِيُّونَ:
؎ وضِحْكُ الأرانِبِ فَوْقَ الصَفا ∗∗∗ ∗∗∗ كَمِثْلِ دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِقا
وهَذا القَوْلُ ضَعِيفٌ قَلِيلُ التَمَكُّنِ، وقَدْ أنْكَرَ بَعْضُ اللُغَوِيِّينَ أنْ يَكُونَ في كَلامِ العَرَبِ ضَحِكَتْ بِمَعْنى: حاضَتْ، وقَرَّرَهُ بَعْضُهُمْ، ويُقالُ ضَحِكَ إذا امْتَلَأ وفاضَ، ورَدَّ الزَجّاجُ قَوْلَ مُجاهِدٍ، وقالَ الجُمْهُورُ: هو الضَحِكُ المَعْرُوفُ، واخْتُلِفَ مِمَّ ضَحِكَتْ؟ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: ضَحِكَتْ مِن تَأْمِينِهِمْ لِإبْراهِيمَ بِقَوْلِهِمْ: لا تَخَفْ. وقالَ قَتادَةُ: ضَحِكَتْ هُزُؤًا مِن قَوْمِ لُوطٍ أنْ يَكُونُوا عَلى غَفْلَةٍ وقَدْ نَفَذَ مِن أمْرِ اللهِ تَعالى فِيهِمْ ما نَفَذَ.
وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: ضَحِكَتْ مِنَ البِشارَةِ بِإسْحاقَ، وقالَ: هَذا مُقَدَّمٌ بِمَعْنى التَأْخِيرِ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ: ضَحِكَتْ لِظَنِّها بِهِمْ أنَّهم يُرِيدُونَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ قالَ القاضِيَ: وهَذا قَوْلٌ خَطَأٌ لا يَنْبَغِي أنْ يُلْتَفَتَ إلَيْهِ، وقَدْ حَكاهُ الطَبَرِيُّ، وإنَّما ذَكَرْتُهُ لِمَعْنى التَنْبِيهِ عَلى فَسادِهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: ضَحِكَتْ مِن فَزَعِ إبْراهِيمَ مِن ثَلاثَةٍ وهي تَعْهَدُهُ يَغْلِبُ الأرْبَعِينَ مِنَ الرِجالِ، وقِيلَ: المِائَةُ. وقالَ السُدِّيُّ: ضَحِكَتْ مِن أنْ تَكُونَ هي تَخْدِمُ وإبْراهِيمُ يَحْفِدُ ويَسْعى والأضْيافُ لا يَأْكُلُونَ. وقِيلَ: ضَحِكَتْ سُرُورًا بِصِدْقِ ظَنِّها، لِأنَّها كانَتْ تَقُولُ لِإبْراهِيمَ، إنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَنْزِلَ العَذابُ بِقَوْمِ لُوطٍ، ورُوِيَ أنَّ المَلائِكَةَ مَسَحَتِ العِجْلَ فَقامَ حَيًّا فَضَحِكَتْ لِذَلِكَ.
وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ زِيادٍ الأعْرابِيُّ: "فَضَحَكَتْ" بِفَتْحِ الحاءِ.
وامْرَأةُ إبْراهِيمَ هَذِهِ هي سارَّةُ بِنْتُ هارُونَ بْنِ ناحُورَ، وهو إبْراهِيمُ بْنُ آزَرَ بْنِ ناحُورَ فَهي ابْنَةُ عَمِّهِ، وقِيلَ: هي أُخْتُ لُوطٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وما أظُنُّ ذَلِكَ إلّا أُخُوَّةَ القَرابَةِ لِأنَّ إبْراهِيمَ هو عَمُّ لُوطٍ فِيما رُوِيَ: وذَكَرَ الطَبَرِيُّ أنَّ إبْراهِيمَ لَمّا قَدَّمَ العِجْلَ قالُوا لَهُ: إنّا لا نَأْكُلُ طَعامًا إلّا بِثَمَنٍ، فَقالَ لَهُمْ: ثَمَنُهُ أنْ تَذْكُرُوا اللهَ تَعالى عَلَيْهِ في أوَّلَ، وتَحْمَدُوهُ في آخِرٍ، فَقالَ جِبْرِيلُ لِأصْحابِهِ: بِحَقٍّ اتَّخَذَ اللهُ هَذا خَلِيلًا.
وقَوْلُهُ: فَبَشَّرْناها أضافَ فِعْلَ المَلائِكَةِ إلى ضَمِيرِ اسْمِ اللهِ تَعالى إذْ كانَ بِأمْرِهِ ووَحْيِهِ، وبَشَّرَ المَلائِكَةُ سارَّةَ بِإسْحاقَ وبِأنَّ إسْحاقَ سَيَلِدُ يَعْقُوبَ، ويُسَمّى ولَدُ الوَلَدِ مِنَ الوَراءِ، وهو قَرِيبٌ مِن مَعْنى وراءٍ في الظُرُوفِ إذْ هو ما يَكُونُ خَلْفَ الشَيْءِ وبَعْدَهُ ورَأى ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما رَجُلًا مَعَهُ شابٌّ، فَقالَ لَهُ: مَن هَذا؟ فَقالَ لَهُ: ولَدُ ولَدِي، فَقالَ: هو ولَدُكَ مِنَ الوَراءِ، فَغَضِبَ الرَجُلُ، فَذَكَرَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما الآيَةَ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ وأبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ "يَعْقُوبُ" بِالرَفْعِ عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرُ المُقَدَّمُ، وهو -عَلى هَذا- دَخَلَ في البُشْرى، وقالَتْ فِرْقَةٌ: رَفْعُهُ عَلى القَطْعِ بِمَعْنى: ومِن وراءِ إسْحاقَ يَحْدُثُ يَعْقُوبُ، وعَلى هَذا لا يَدْخُلُ في البِشارَةِ وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ "يَعْقُوبَ" بِالنَصْبِ واخْتُلِفَ عن عاصِمٍ، فَمِنهم مَن جَعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلى "إسْحاقَ" إلّا أنَّهُ لَمْ يَنْصَرِفْ، واسْتَسْهَلَ هَذا القائِلُ أنْ فُرِّقَ بَيْنَ حَرْفِ العَطْفِ والمَعْطُوفِ بِالمَجْرُورِ، وسِيبَوَيْهِ لا يُجِيزُ هَذا إلّا عَلى إعادَةِ حَرْفِ الجَرِّ، وهو كَما تَقُولُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ اليَوْمَ وأمْسِ عَمْرٍو، فالوَجْهُ عِنْدَهُ: وأمْسِ بِعَمْرٍو، وإذا لَمْ يَعُدْ فَفِيهِ كَبِيرُ قُبْحٍ، والوَجْهُ في نُصْبِهِ أنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، تَدُلُّ عَلَيْهِ البِشارَةُ وتَقْدِيرُهُ: ومِن وراءِ إسْحاقَ وهَبْنا يَعْقُوبَ، وهَذا رَجَّحَهُ أبُو عَلِيٍّ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ورُوِيَ أنَّ سارَّةَ كانَتْ في وقْتِ هَذِهِ البِشارَةِ بِنْتَ تِسْعٍ وتِسْعِينَ سَنَةً، وإبْراهِيمُ ابْنَ مِائَةِ سَنَةٍ.
وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الذَبِيحَ هو إسْماعِيلُ وأنَّهُ أسَنُّ مِن إسْحاقَ وذَلِكَ أنَّ سارَةَ كانَتْ في وقْتِ إخْدامِ المَلِكِ الجائِرِ هاجَرُ أمُّ إسْماعِيلَ امْرَأةً شابَّةً جَمِيلَةً حَسَبَما في الحَدِيثِ، فاتَّخَذَها إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ أمَّ ولَدٍ، فَغارَتْ بِها سارَّةُ، فَخَرَجَ بِها وبِابْنِها إسْماعِيلَ مِنَ الشامِ عَلى البُراقِ وجاءَ مِن يَوْمِهِ مَكَّةَ فَتَرَكَهُما- حَسَبَما في السِيَرِ- وانْصَرَفَ إلى الشامِ مِن يَوْمِهِ ثُمَّ كانَتِ البِشارَةُ بِإسْحاقَ، وسارَّةُ عَجُوزٌ مُتَجالَّةٌ، وأمّا وجْهُ دَلالَةِ الآيَةِ عَلى أنَّ إسْحاقَ لَيْسَ بِالذَبِيحِ فَهو أنَّ سارَّةَ وإبْراهِيمَ بُشِّرا بِإسْحاقَ وأنَّهُ يُولَدُ لَهُ يَعْقُوبُ، ثُمَّ أُمِرَ بِالذَبْحِ حِينَ بَلَغَ ابْنُهُ مَعَهُ السَعْيَ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِذَبْحِ ولَدٍ قَدْ بُشِّرَ قَبْلُ أنَّهُ سَيُولَدُ لِابْنِهِ ذَلِكَ، وأيْضًا فَلَمْ يَقَعْ قَطُّ في أثَرٍ أنَّ إسْحاقَ دَخَلَ الحِجازَ وإجْماعٌ أنَّ أمْرَ الذَبْحِ كانَ بِمِنًى، ويُؤَيِّدُ هَذا الغَرَضَ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: « "أنا ابْنُ الذَبِيحَيْنِ"» يُرِيدُ أباهُ عَبْدَ اللهِ وأباهُ إسْماعِيلَ، ويُؤَيِّدُهُ ما نَزَعَ بِهِ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ مِنَ الِاحْتِجاجِ بِرُتْبَةِ سُورَةِ الصافّاتِ فَإنَّهُ بَعْدَ كَمالِ أمْرِ الذَبِيحِ قالَ: ﴿وَبَشَّرْناهُ بِإسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصالِحِينَ﴾ [الصافات: ١١٢].
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وفِي هَذا كُلِّهِ مَوْضِعُ مُعارَضاتٍ لِقائِلِ القَوْلِ الآخَرِ: إنَّ الذَبِيحَ هو إسْحاقُ، ولَكِنَّ هَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ هو الأرْجَحُ واللهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":69,"ayahs":["وَلَقَدۡ جَاۤءَتۡ رُسُلُنَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُوا۟ سَلَـٰمࣰاۖ قَالَ سَلَـٰمࣱۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَاۤءَ بِعِجۡلٍ حَنِیذࣲ","فَلَمَّا رَءَاۤ أَیۡدِیَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَیۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِیفَةࣰۚ قَالُوا۟ لَا تَخَفۡ إِنَّاۤ أُرۡسِلۡنَاۤ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطࣲ","وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَاۤىِٕمَةࣱ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَـٰهَا بِإِسۡحَـٰقَ وَمِن وَرَاۤءِ إِسۡحَـٰقَ یَعۡقُوبَ"],"ayah":"فَلَمَّا رَءَاۤ أَیۡدِیَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَیۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِیفَةࣰۚ قَالُوا۟ لَا تَخَفۡ إِنَّاۤ أُرۡسِلۡنَاۤ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق