الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ يا قَوْمِ أرَأيْتُمْ إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي وآتانِي مِنهُ رَحْمَةً فَمَن يَنْصُرُنِي مِن اللهِ إنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ ﴿وَيا قَوْمِ هَذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكم آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ في أرْضِ اللهِ ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكم عَذابٌ قَرِيبٌ﴾ ﴿فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا في دارِكم ثَلاثَةَ أيّامٍ ذَلِكَ وعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ قَوْلُهُ: "أرَأيْتُمْ" هو مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ، أيْ: أتَدَبَّرْتُمْ؟ والشَرْطُ الَّذِي بَعْدَهُ وجَوابُهُ يَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْنِ لـ"أرَأيْتُمْ": و"البَيِّنَةُ": البُرْهانُ واليَقِينُ، والهاءُ في "بَيِّنَةٍ" لِلْمُبالَغَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هاءَ تَأْنِيثٍ، و"الرَحْمَةُ" في هَذِهِ الآيَةِ: النُبُوَّةُ وما انْضافَ إلَيْها، وفي الكَلامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أيَضُرُّنِي شَكُّكم أو أيُمْكِنُنِي طاعَتُكم ونَحْوُ هَذا مِمّا يَلِيقُ بِمَعْنى الآيَةُ. وقَوْلُهُ: ﴿فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ مَعْناهُ: فَما تُعْطُونَنِي فِيما أقْتَضِيهِ مِنكم مِنَ الإيمانِ وأطْلُبُكم بِهِ مِنَ الإنابَةِ غَيْرَ تَخْسِيرٍ لِأنْفُسِكُمْ، وهو مِنَ الخَسارَةِ، ولَيْسَ التَخْسِيرُ في هَذِهِ الآيَةِ إلّا لَهم وفي حَيِّزِهِمْ، وأضافَ الزِيادَةَ إلَيْهِ مِن حَيْثُ هو مُقْتَضٍ لِأقْوالِهِمْ مُوكَلٌ بِإيمانِهِمْ، كَما تَقُولُ لِمَن تُوصِيهِ: "أنا أُرِيدُ بِكَ خَيْرًا وأنْتَ تُرِيدُ بِي شَرًّا". فَكَأنَّ الوَجْهَ البَيِّنَ: "وَأنْتَ تُرِيدُ شَرًّا" ولَكِنْ مِن حَيْثُ كَنْتَ مُرِيدَ خَيْرٍ ومُقْتَضٍ ذَلِكَ حَسُنَ أنْ تُضِيفَ الزِيادَةَ إلى نَفْسِكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيا قَوْمِ هَذِهِ ناقَةُ اللهِ﴾ الآيَةُ، اقْتُضِبَ في هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرُ أوَّلِ أمْرِ الناقَةِ، وذَلِكَ أنَّهُ رُوِيَ أنَّ قَوْمَهُ طَلَبُوا مِنهُ آيَةً تَضْطَرُّهم إلى الإيمانِ، فَأخْرَجَ اللهُ، جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، لَهُمُ الناقَةَ مِنَ الجَبَلِ، ورُوِيَ أنَّهُمُ اقْتَرَحُوا تَعْيِينَ خُرُوجِ الناقَةِ مِن تِلْكَ الصَخْرَةِ، (p-٦٠٢)فَرُوِيَ أنَّ الجَبَلَ تَمَخَّضَ كالحامِلِ، وانْصَدَعَ الحَجَرُ، وخَرَجَتْ مِنهُ ناقَةٌ بِفَصِيلِها، ورُوِيَ أنَّها خَرَجَتْ عُشَراءَ، ووَضَعَتْ بَعْدَ خُرُوجِها، فَوَقَّفَهم صالِحٌ وقالَ لَهُمْ: ﴿هَذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكم آيَةً﴾، ونَصْبُ "آيَةً" عَلى الحالِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "تَأْكُلْ" بِالجَزْمِ عَلى جَوابِ الأمْرِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "تَأْكُلُ" عَلى طَرِيقِ القَطْعِ والِاسْتِئْنافِ، أو عَلى أنَّهُ الحالُ مِنَ الضَمِيرِ في "ذَرُوها". وقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ﴾ عامٌّ في العَقْرِ وغَيْرِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَيَأْخُذَكم عَذابٌ قَرِيبٌ﴾ هَذا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ إلَيْهِ أنَّ قَوْمَكَ إذا عَقَرُوا الناقَةَ جاءَهم عَذابٌ قَرِيبُ المُدَّةِ مِن وقْتِ المَعْصِيَةِ، وهي الأيّامُ الثَلاثَةُ الَّتِي فَهِمَها صالِحٌ عَلَيْهِ السَلامُ مِن رُغاءِ الفَصِيلِ عَلى جَبَلِ القارَّةِ. وأضافَ العَقْرَ إلى جَمِيعِهِمْ لِأنَّ العاقِرَ كانَ مِنهم وكانَ عن رِضًى مِنهم وتَمالُؤٍ، وعاقِرُها قُدارٌ، ورُوِيَ في خَبَرِ ذَلِكَ أنَّ صالِحًا أوحى اللهُ إلَيْهِ أنَّ قَوْمَكَ سَيَعْقِرُونَ الناقَةَ ويَنْزِلُ بِهِمُ العَذابُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَأخْبَرَهم بِذَلِكَ فَقالُوا: عِياذًا بِاللهِ أنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ، فَقالَ: إنْ لَمْ تَفْعَلُوا أنْتُمْ ذَلِكَ أوشَكَ أنْ يُولَدَ فِيكم مَن يَفْعَلُهُ، وقالَ لَهُمْ: صِفَةُ عاقِرِها أحْمَرَ أزْرَقَ أشْقَرَ، فَجَعَلُوا الشَرْطَ مَعَ القَوابِلِ وأمَرُوهم بِتَفَقُّدِ الأطْفالِ، فَمَن كانَ عَلى هَذِهِ الصِفَةِ قُتِلَ، وكانَ في المَدِينَةِ شَيْخانِ شَرِيفانِ عَزِيزانِ، وكانَ لِهَذا ابْنٌ ولِهَذا بِنْتٌ، فَتَصاهَرا فَوُلِدَ بَيْنَ الزَوْجَيْنِ قُدارٌ، عَلى الصِفَةِ المَذْكُورَةِ، فَهَمَّ الشُرَطُ بِقَتْلِهِ، فَمَنَعَ مِنهُ جَدّاهُ حَتّى كَبِرَ، فَكانَ الَّذِي عَقَرَها بِالسَيْفِ في عَراقِيبِها، وقِيلَ: بِالسَهْمِ في ضَرْعِها وهَرَبَ فَصِيلُها عن ذَلِكَ، فَصَعِدَ عَلى جَبَلٍ يُقالُ لَهُ القارَّةُ، فَرَغا ثَلاثًا، فَقالَ صالِحٌ: هَذا مِيعادُ ثَلاثَةِ أيّامٍ لِلْعَذابِ، وأمَرَهم قَبْلَ رُغاءِ الفَصِيلِ أنْ يَطْلُبُوهُ عَسى أنْ يَصِلُوا إلَيْهِ فَيَنْدَفِعَ عنهُمُ العَذابَ بِهِ، فَرامُوا الصُعُودَ إلَيْهِ في الجَبَلِ، فارْتَفَعَ الجَبَلُ في السَماءِ حَتّى ما تَنالُهُ الطَيْرُ، وحِينَئِذٍ رَغا الفَصِيلُ. وقَوْلُهُ: ﴿فِي دارِكُمْ﴾ هي جَمْعُ "دارَةٍ" كَما تَقُولُ: ساحَةٌ وساحٌ وسُوحٌ، ومِنهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أبِي الصَلْتِ: ؎ لَهُ داعٍ بِمَكَّةَ مُشْمَعِلُّ ∗∗∗ وآخَرُ عِنْدَ دارَتِهِ يُنادِي (p-٦٠٣)وَيُمْكِنُ أنْ يُسَمّى جَمِيعَ مَسْكَنِ الحَيِّ دارًا، والثَلاثَةُ أيّامٍ تَعْجِيزٌ قاسَ الناسُ عَلَيْهِ الإعْذارَ إلى المَحْكُومِ عَلَيْهِ ونَحْوِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وذَلِكَ عِنْدِي مُفْتَرِقٌ لِأنَّها في المَحْكُومِ عَلَيْهِ والغارِمِ في الشُفْعَةِ ونَحْوِهِ تَوْسِعَةٌ، وهي هُنا تَوْقِيفٌ عَلى الخِزْيِ والتَعْذِيبِ، ورَوى قَتادَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّهُ قالَ: "لَوْ صَعَدْتُمْ عَلى القارَّةِ لَرَأيْتُمْ عِظامَ الفَصِيلِ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب