الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإلى عادٍ أخاهم هُودًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أنْتُمْ إلا مُفْتَرُونَ﴾ ﴿يا قَوْمِ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إنْ أجْرِيَ إلا عَلى الَّذِي فَطَرَنِي أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ﴿وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَماءَ عَلَيْكم مِدْرارًا ويَزِدْكم قُوَّةً إلى قُوَّتِكم ولا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ "وَإلى عادٍ" عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: "إلى قَوْمِهِ" في قِصَّةِ نُوحٍ، و"عادٌ" قَبِيلَةٌ وكانَتْ عَرَبًا- فِيما ذُكِرَ- و"هُودٌ" عَلَيْهِ السَلامُ مِنهُمْ، وجَعَلَهُ "أخاهُمْ" بِحَسَبِ النَسَبِ والقَرابَةِ فَإنْ فَرَضْناهُ لَيْسَ مِنهم فالأُخُوَّةُ بِحَسَبِ المَنشَإ واللِسانِ والجِيرَةِ. وأمّا قَوْلُ مَن قالَ: "هِيَ أُخُوَّةٌ بِحَسَبِ النَسَبِ الآدَمِيِّ" فَضَعِيفٌ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "يا قَوْمِ" بِكَسْرِ المِيمِ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "يا قَوْمُ" بِرَفْعِ المِيمِ، وهي لُغَةٌ حَكاها سِيبَوَيْهِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "غَيْرُهُ" بِالرَفْعِ عَلى النَعْتِ أوِ البَدَلِ مِن مَوْضِعِ قَوْلِهِ: "مِن إلَهٍ". وقَرَأ الكِسائِيُّ وحْدَهُ بِكَسْرِ الراءِ، حَمْلًا عَلى لَفْظِ: "إلَهٍ" وذَلِكَ أيْضًا عَلى النَعْتِ أوِ البَدَلِ، ويَجُوزُ "غَيْرَهُ" نَصْبًا عَلى الِاسْتِثْناءِ. و"مُفْتَرُونَ" مَعْناهُ: كاذِبُونَ أفْحَشَ كَذِبٍ في جَعْلِكُمُ الأُلُوهِيَّةَ لِغَيْرِ اللهِ تَعالى، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "عَلَيْهِ" عائِدٌ عَلى الدُعاءِ إلى اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، والمَعْنى: (p-٥٩٣)ما أجْرِي وجَزائِي إلّا مِن عِنْدِ اللهِ تَعالى، ثُمَّ وصَفَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾، فَجَعَلَها صِفَةً رادَّةً عَلَيْهِمْ في عِبادَتِهِمُ الأصْنامَ واعْتِقادِهِمْ أنَّها تَفْعَلُ، فَجُعِلَ الوَصْفُ بِذَلِكَ في دَرْجِ كَلامِهِ، مُنَبِّهًا عَلى أفْعالِ اللهِ تَعالى، وأنَّهُ هو الَّذِي يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ، و"فَطَرَ" مَعْناهُ: اخْتَرَعَ وأنْشَأ، وقَوْلُهُ: ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ تَوْقِيفٌ عَلى مَجالِ القَوْلِ بِأنَّ غَيْرَ الفاطِرِ إلاهٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: أفَلا تَعْقِلُونَ إذْ لَمْ أطْلُبْ عَرَضًا مِن أعْراضِ الدُنْيا إنِّي إنَّما أُرِيدُ النَفْعَ لَكم والدارَ الآخِرَةَ والأوَّلُ أظْهَرُ، و"الِاسْتِغْفارُ" طَلَبُ المَغْفِرَةِ، وقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِاللِسانِ، وقَدْ يَكُونُ بِإنابَةِ القَلْبِ وطَلَبِ الِاسْتِرْشادِ والحِرْصِ عَلى وُجُودِ المَحَجَّةِ الواضِحَةِ، وهَذِهِ أحْوالٌ يُمْكِنُ أنْ تَقَعَ مِنَ الكُفّارِ، فَكَأنَّهُ قالَ لَهُمُ:اطْلُبُوا غُفْرانَ اللهِ بِالإنابَةِ، وطَلَبَ الدَلِيلِ في نُبُوَّتِي، ثُمَّ تُوبُوا بِالإيمانِ مِن كُفْرِكُمْ، فَيَجِيءُ التَرْتِيبُ -عَلى هَذا- مُسْتَقِيمًا وإلّا احْتِيجَ في تَرْتِيبِ التَوْبَةِ بَعْدَ الِاسْتِغْفارِ إلى تَحَيُّلٍ كَثِيرٍ فَإمّا أنْ يَكُونَ: ( تُوبُوا ) أمْرًا بِالدَوامِ، و"الِاسْتِغْفارُ" طَلَبُ المَغْفِرَةِ بِالإيمانِ، وإلى هَذا ذَهَبَ الطَبَرِيُّ، وقالَ أبُو المَعالِي في الإرْشادِ: "التَوْبَةُ" في اصْطِلاحِ المُتَكَلِّمِينَ هي النَدَمُ، بَعْدَ أنْ قالَ: إنَّها في اللُغَةِ الرُجُوعُ، ثُمَّ رَكَّبَ -عَلى هَذا- أنْ قالَ إنَّ الكافِرَ إذا آمَنَ لَيْسَ إيمانُهُ تَوْبَةً وإنَّما تَوْبَتُهُ نَدَمُهُ بَعْدُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والَّذِي أقُولُ: "إنَّ التَوْبَةَ عَقْدٌ في تَرْكِ مَتُوبٍ مِنهُ يَتَقَدَّمُها عِلْمٌ بِفَسادٍ المَتُوبِ مِنهُ وصَلاحِ ما يَرْجِعُ إلَيْهِ، ويَقْتَرِنُ بِها نَدَمٌ عَلى فارِطِ المَتُوبِ مِنهُ لا يَنْفَكُّ مِنهُ وهو مِن شُرُوطِها" فَأقُولُ: إنَّ إيمانَ الكافِرِ هو تَوْبَتُهُ مِن كُفْرِهِ، لِأنَّهُ هو نَفْسُ رُجُوعِهِ. و"تابَ" في كَلامِ العَرَبِ مَعْناهُ: رَجَعَ إلى الطاعَةِ والمُثْلى مِنَ الأُمُورِ، وتَصَرُّفُ اللَفْظَةِ في القُرْآنِ بِـ "إلى" يَقْتَضِي أنَّها الرُجُوعُ لا النَدَمُ، وإنَّما لا حَقَّ لازِمٌ لِلتَّوْبَةِ كَما قُلْنا، وحَقِيقَةُ التَوْبَةِ تَرْكُ مِثْلِ ما تِيبَ مِنهُ عن عَزْمَةٍ مُعْتَقَدَةٍ عَلى ما فَسَّرْناهُ، واللهُ المُسْتَعانُ. و"مِدْرارًا" هو بِناءُ تَكْسِيرٍ، وكانَ حَقُّهُ أنْ تَلْحَقَهُ هاءٌ، ولَكِنْ حُذِفَتْ عَلى نِيَّةِ النَسَبِ وعَلى أنَّ السَماءَ المَطَرُ نَفْسُهُ، وهو مِن دَرَّ يَدُرُّ ومِفْعالٌ قَدْ يَكُونُ مِنِ اسْمِ (p-٥٩٤)الفاعِلِ الَّذِي هو مِن ثُلاثِيٍّ، ومِنِ اسْمِ الفاعِلِ الَّذِي هو مِن رُباعِيٍّ، وقَوْلُ مَن قالَ: "إنَّهُ ألْزَمُ لِلرُّباعِيِّ" غَيْرُ لازِمٍ. ويُرْوى أنَّ "عادًا" كانَ اللهُ تَعالى قَدْ حَبَسَ عنها المَطَرَ ثَلاثَ سِنِينَ، وكانُوا أهْلَ حَرْثٍ وبَساتِينَ وثِمارٍ، وكانَتْ بِلادُهم شَرْقَ جَزِيرَةِ العَرَبِ، فَلِهَذا وعَدَهم بِالمَطَرِ، ومِن ذَلِكَ فَرَحُهم حِينَ رَأوُا العارِضَ، وقَوْلُهُمْ: ﴿هَذا عارِضٌ مُمْطِرُنا﴾ [الأحقاف: ٢٤]، وحَضُّهم عَلى اسْتِنْزالِ المَطَرِ بِالإيمانِ والإنابَةِ، وتِلْكَ عادَةُ اللهِ في عِبادِهِ، ومِنهُ قَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إنَّهُ كانَ غَفّارًا﴾ [نوح: ١٠] ﴿يُرْسِلِ السَماءَ عَلَيْكم مِدْرارًا﴾ [نوح: ١١]، ومِنهُ فِعْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ حِينَ جَعَلَ جَمِيعَ قَوْلِهِ في الِاسْتِسْقاءِ ودُعائِهِ اسْتِغْفارًا فَسُقِيَ، فَسُئِلَ عن ذَلِكَ، فَقالَ: "لَقَدِ اسْتَنْزَلْتُ المَطَرَ بِمَجادِيحِ السَماءِ". وقَوْلُهُ: ﴿وَيَزِدْكم قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ﴾ ظاهِرُهُ العُمُومُ في جَمِيعِ ما يُحْسِنُ اللهُ تَعالى فِيهِ إلى العِبادِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: كانَ اللهُ تَعالى قَدْ حَبَسَ نَسْلَهُمْ، فَمَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَيَزِدْكم قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ﴾ أيِ: الوَلَدَ، ويُحْتَمَلُ أنْ خَصَّ القُوَّةَ بِالذِكْرِ إذْ كانُوا أقْوى العَوالِمِ فَوُعِدُوا بِالزِيادَةِ فِيما بَهَرُوا فِيهِ، ثُمَّ نَهاهم عَنِ التَوَلِّي عَنِ الحَقِّ والإعْراضِ عن أمْرِ اللهِ. و"مُجْرِمِينَ" حالٌ مِنَ الضَمِيرِ في "تَتَوَلَّوْا".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب