الباحث القرآني

(p-٥٩١)قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ رَبِّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ ﴿قِيلَ: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهم ثُمَّ يَمَسُّهم مِنّا عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿تِلْكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيها إلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ ولا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذا فاصْبِرْ إنَّ العاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ هَذِهِ الآيَةُ فِيها إنابَةُ نُوحٍ وتَسْلِيمُهُ لِأمْرِ اللهِ تَعالى واسْتِغْفارُهُ، بِالسُؤالِ الَّذِي وقَعَ النَهْيُ عَلَيْهِ والِاسْتِعاذَةُ والِاسْتِغْفارُ مِنهُ هو سُؤالُ العَزْمِ الَّذِي مَعَهُ مُحاجَّةً وطِلْبَةً مُلِحَّةً فِيما قَدْ حُجِبَ وجْهُ الحِكْمَةِ فِيهِ وأمّا السُؤالُ في الأُمُورِ عَلى جِهَةِ التَعَلُّمِ والِاسْتِرْشادِ فَغَيْرُ داخِلٍ في هَذا. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [هود: ٤٦] يَعُمُّ النَحْوَيْنِ مِنَ السُؤالِ، فَلِذَلِكَ نَبَّهْتُ عَلى أنَّ المُرادَ أحَدُهُما دُونَ الآخَرِ، و"الخاسِرُونَ" هُمُ المَغْبُونُونَ حُظُوظَهم مِنَ الخَيْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ﴾ كانَ هَذا عِنْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَفِينَةِ مَعَ أصْحابِهِ لِلِانْتِشارِ في الأرْضِ، و"السَلامُ" هُنا السَلامَةُ والأمْنُ ونَحْوُهُ، و"البَرَكاتُ" الخَيْرُ والنُمُوُّ في كُلِّ الجِهاتِ، وهَذِهِ العِدَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، وقَوْلُهُ: ﴿مِمَّنْ مَعَكَ﴾ أيْ: مِن ذُرِّيَّةِ مَن مَعَكَ ومِن نَسْلِهِمْ، فَـ"مِن" -عَلى هَذا- هي لِابْتِداءِ الغايَةِ، أيْ: مِن هَؤُلاءِ تَكُونُ هَذِهِ الأُمَمُ، و"مَن" مَوْصُولَةٌ، وصِلَتُها "مَعَكَ" وما يَتَقَدَّرُ مَعَها نَحْوُ قَوْلِكَ: مِمَّنِ اسْتَقَرَّ مَعَكَ ونَحْوُهُ ثُمَّ قَطَعَ قَوْلُهُ: "وَأُمَمٌ" عَلى وجْهِ الِابْتِداءِ إذْ كانَ أمْرُهم مَقْطُوعًا مِنَ الأمْرِ الأوَّلِ، وهَؤُلاءِ هُمُ الكُفّارُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تِلْكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ﴾ الآيَةُ إشارَةٌ إلى القِصَّةِ، أيْ: هَذِهِ مِنَ الغُيُوبِ الَّتِي تَقادَمَ عَهْدُها ولَمْ يَبْقَ عِلْمُها إلّا عِنْدَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، ولَمْ يَكُنْ عِلْمُها أو عِلْمُ أشْباهِها عِنْدَكَ ولا عِنْدَ قَوْمِكَ، ونَحْنُ نُوحِيها إلَيْكَ لِتَكُونَ لَكَ هِدايَةً وأُسْوَةً فِيما (p-٥٩٢)لَقِيَهُ غَيْرُكَ مِنَ الأنْبِياءِ، وتَكُونَ لِقَوْمِكَ مِثالًا وتَحْذِيرًا، لِئَلّا يُصِيبَهم إذا كَذَّبُوكَ مِثْلُ ما أصابَ هَؤُلاءِ وغَيْرَهم مِنَ الأُمُورِ المُعَذِّبَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وعَلى هَذا المَعْنى ظَهَرَتْ فَصاحَةُ قَوْلِهِ: ﴿فاصْبِرْ إنَّ العاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾، أيْ: فاجْتَهِدْ في التَبْلِيغِ وجِدَّ في الرِسالَةِ واصْبِرْ عَلى الشَدائِدِ واعْلَمْ أنَّ العاقِبَةَ لَكَ كَما كانَتْ لِنُوحٍ في هَذِهِ القِصَّةِ. وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "مِن قَبْلِ هَذا القُرْآنِ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب