الباحث القرآني

(p-٥٨٣)قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الماءِ قالَ لا عاصِمَ اليَوْمَ مِنَ أمْرِ اللهِ إلا مِنَ رَحِمَ وحالَ بَيْنَهُما المَوْجُ فَكانَ مِنَ المُغْرَقِينَ﴾ ﴿وَقِيلَ: يا أرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ويا سَماءُ أقْلِعِي وغِيضَ الماءُ وقُضِيَ الأمْرُ واسْتَوَتْ عَلى الجُودِيِّ وقِيلَ: بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظالِمِينَ﴾ ظَنَّ ابْنُ نُوحٍ أنَّ ذَلِكَ المَطَرَ والماءَ عَلى العادَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿لا عاصِمَ﴾، قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ عَلى لَفْظَةِ فاعِلٍ، وقَوْلُهُ: ﴿إلا مَن رَحِمَ﴾ يُرِيدُ: إلّا اللهُ الراحِمُ، فَـ "مَن" كِنايَةٌ عَنِ اسْمِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، المَعْنى: لا عاصِمَ اليَوْمَ إلّا الَّذِي رَحِمَنا فَـ "مَن" في مَوْضِعِ رَفْعٍ، وقِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿إلا مَن رَحِمَ﴾ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ كَأنَّهُ قالَ: لا عاصِمَ اليَوْمَ مَوْجُودٌ، لَكِنْ مَن رَحِمَ اللهُ مَوْجُودٌ، وحَسَّنَ هَذا مِن جِهَةِ المَعْنى، أنَّ نَفْيَ العاصِمِ يَقْتَضِي نَفْيَ المَعْصُومِ. فَهو حاصِلٌ بِالمَعْنى. وأمّا مِن جِهَةِ اللَفْظِ، فَـ "مَن" في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى حَدِّ قَوْلِ النابِغَةِ: ؎ إلّا الأُوارِيَّ............. ∗∗∗..................... ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى حَدِّ قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ وبَلْدَةٍ لَيْسَ بِها أنِيسُ ∗∗∗ ∗∗∗ إلّا اليَعافِيرُ وإلّا العِيسُ إذْ هَذانَ أنِيسُ ذَلِكَ المَوْضِعِ القَفْرِ، والمَعْصُومُ هُنا لَيْسَ بِعاصِمٍ بِوَجْهٍ، وقِيلَ: " عاصِمٌ " مَعْناهُ: ذُو اعْتِصامٍ، فَـ " عاصِمٌ " -عَلى هَذا- في مَعْنى مَعْصُومٍ، ويَجِيءُ الِاسْتِثْناءُ مُسْتَقِيمًا، و"مَن" في مَوْضِعِ رَفْعٍ، و"اليَوْمَ" ظَرْفٌ، وهو مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (p-٥٨٤)﴿مِن أمْرِ اللهِ﴾، أو بِالخَيْرِ الَّذِي تَقْدِيرُهُ: كائِنٌ اليَوْمَ، ولا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِـ " عاصِمَ " لِأنَّهُ كانَ يَجِيءُ مُنَوَّنًا: "لا عاصِمًا اليَوْمَ"، يَرْجِعُ إلى أصْلِ النَصْبِ لِئَلّا يَرْجِعُ ثَلاثَةُ أشْياءَ واحِدًا، وإنَّما القانُونُ أنْ يَكُونَ الشَيْئانِ واحِدًا: "لا" وما عَمِلَتْ فِيهِ، ومِثالُ النَحْوِيِّينَ في هَذِهِ المَسْألَةِ: لا أمْرًا يَوْمَ الجُمْعَةِ لَكَ، فَإنْ أعْمَلْتَ في يَوْمٍ لَكَ قُلْتَ: لا أمْرَ. و"بَيْنَهُما" يُرِيدُ:: بَيْنَ نُوحٍ وابْنِهِ، فَكانَ الِابْنُ مِمَّنْ غَرِقَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقِيلَ يا أرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ﴾ الآيَةُ، بِناءُ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ أبْلَغُ في التَعْظِيمِ والجَبَرُوتِ، وكَذَلِكَ بِناءُ الأفْعالِ -بَعْدَ ذَلِكَ- في سائِرِ الآيَةِ ورُوِيَ أنَّ أعْرابِيًّا سَمِعَ هَذِهِ الآيَةَ فَقالَ: هَذا كَلامُ القادِرِينَ، و"البَلْعُ" هو تَجَرُّعُ الشَيْءِ وازْدِرادُهُ، فَشَبَّهَ قَبْضَ الأرْضِ لِلْماءِ وتَسَرُّبَهُ فِيها بِذَلِكَ، وأُمِرَتْ بِالتَشْبِيهِ وأضافَ الماءَ إلَيْها إذْ هُو عَلَيْها وحاصِلٌ فِيها، و"السَماءُ" في هَذِهِ الآيَةِ، إمّا السَماءُ المُظِلَّةُ، وإمّا السُحُبُ، و"الإقْلاعُ" عَنِ الشَيْءِ تَرْكُهُ، والمَعْنى: أقْلِعِي عَنِ الإمْطارِ، وغِيضَ مَعْناهُ: نَقَصَ، وأكْثَرُ ما يَجِيءُ فِيما هو بِمَعْنى جُفُوفٍ كَقَوْلِهِ: ﴿وَغِيضَ الماءُ﴾، وكَقَوْلِهِ: ﴿وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وما تَزْدادُ﴾ [الرعد: ٨]، وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ ذَلِكَ في الحَيْضِ، وكَذَلِكَ قَوْلُ الأسْوَدِ بْنِ يَعَفُرَ: ؎ ......................... ∗∗∗ ∗∗∗ ما غِيضَ مِن بَصَرِي ومِن أجْلادِي (p-٥٨٥)وَذَلِكَ أنَّ الإنْسانَ الهَرَمَ إنَّما تَنَقُّصُهُ بِجُفُوفٍ وقَضافَةٍ. وقَوْلُهُ: ﴿وَقُضِيَ الأمْرُ﴾ إشارَةٌ إلى جَمِيعِ القِصَّةِ: بَعْثُ الماءِ وإهْلاكُ الأُمَمِ وإنْجاءُ أهْلِ السَفِينَةِ. ورُوِيَ أنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَلامُ رَكِبَ في السَفِينَةِ مِن عَيْنِ ورْدَةَ بِالشامِ أوَّلَ يَوْمٍ مِن رَجَبٍ، وقِيلَ: في العاشِرِ مِنهُ، وقِيلَ: في الخامِسَ عَشَرَ، وقِيلَ: في السابِعَ عَشَرَ، واسْتَوَتِ السَفِينَةُ في ذِي الحِجَّةِ، وأقامَتْ عَلى الجُودِيِّ شَهْرًا، وقِيلَ: لَهُ: اهْبِطْ في يَوْمِ عاشُوراءَ فَصامَهُ وصامَهُ مَن مَعَهُ مِن ناسٍ ووُحُوشٍ: وذَكَرَ الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ إسْحاقَ ما يَقْتَضِي أنَّهُ أقامَ عَلى الماءِ نَحْوَ السَنَةِ، وذَكَرَ أيْضًا حَدِيثًا عَنِ النَبِيِّ ﷺ: « "أنَّ نُوحًا رَكِبَ في السَفِينَةِ أوَّلَ يَوْمٍ مِن رَجَبٍ، وصامَ الشَهْرَ أجْمَعَ، وجَرَتْ بِهِمُ السَفِينَةُ إلى يَوْمِ عاشُوراءَ، فَفِيهِ أرْسَتْ عَلى الجُودِيِّ، فَصامَهُ نُوحٌ ومَن مَعَهُ"». ورُوِيَ أنَّ نُوحًا لَمّا طالَ مُقامُهُ عَلى الماءِ بَعَثَ الغُرابَ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ كَمالِ الغَرَقِ فَوَجَدَ جِيفَةً طافِيَةً فَبَقِيَ عَلَيْها فَلَمْ يَرْجِعْ بِخَبَرٍ، فَدَعا عَلَيْهِ نُوحٌ فاسْوَدَّ لَوْنُهُ وخُوِّفَ مِنَ الناسِ، فَهو لِذَلِكَ مُسْتَوْحَشٌ، ثُمَّ بَعَثَ نُوحٌ الحَمامَ فَجاءَتْهُ بِوَرَقِ زَيْتُونَةٍ في فَمِها ولَمْ تَجِدْ تُرابًا تَضَعُ رِجْلَيْها عَلَيْهِ، فَبَقِيَ أرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ بَعَثَها فَوَجَدَتِ الماءَ قَدِ انْحَسَرَ عن مَوْضِعِ الكَعْبَةِ، وهي أوَّلُ بُقْعَةٍ انْحَسَرَ الماءُ عنها، فَمَسَّتِ الطِينَ بِرِجْلَيْها وجاءَتْهُ، فَعَلِمَ أنَّ الماءَ قَدْ أخَذَ في النُضُوبِ، ودَعا لَها فَطُوِّقَتْ وأنْسِتْ. فَهي لِذَلِكَ تَأْلَفُ الناسَ ثُمَّ أوحى اللهُ إلى الجِبالِ أنَّ السَفِينَةَ تَرْسِي عَلى واحِدٍ مِنها فَتَطاوَلَتْ كُلُّها وبَقِيَ الجُودِيُّ- وهو جَبَلٌ بِالمُوصِلِ في ناحِيَةِ الجَزِيرَةِ- لَمْ يَتَطاوَلْ تَواضُعًا لِلَّهِ، فاسْتَوَتِ السَفِينَةُ بِأمْرِ اللهِ عَلَيْهِ، وبَقِيَتْ عَلَيْهِ أعْوادُها، وفي الحَدِيثِ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: "لَقَدْ بَقِيَ مِنها شَيْءٌ أدْرَكَهُ أوائِلُ هَذِهِ الأُمَّةِ"». وقالَ (p-٥٨٦)الزَجّاجُ: الجُودِيُّ هو بِناحِيَةِ آمِدَ. وقالَ قَوْمٌ: هو عِنْدَ باقِرْدى. ورُوِيَ أنَّ السَفِينَةَ لَمّا اسْتَقَلَّتْ مِن عَيْنِ ورْدَةَ جَرَتْ حَتّى جاءَتِ الكَعْبَةَ فَوَجَدْتَها قَدْ نَشَزَتْ مِنَ الأرْضِ فَلَمْ يَنَلْها غَرَقٌ فَطافَتْ بِها أُسْبُوعًا ثُمَّ مَضَتْ إلى اليَمَنِ ورَجَعَتْ إلى الجُودِيِّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والقَصَصُ في هَذِهِ المَعانِي كَثِيرٌ صَعْبٌ أنْ يُسْتَوْفى، فَأشَرْتُ مِنهُ إلى نُبَذٍ ويَدْخُلُهُ الِاخْتِلافُ كَما تَرى في أمْرِ الكَعْبَةِ واللهُ أعْلَمُ كَيْفَ كانَ. واسْتَوَتْ مَعْناهُ: تَمَكَّنَتْ واسْتَقَرَّتْ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "عَلى الجُودِيِّ" بِكَسْرِ الياءِ وشَدِّها، وقَرَأ الأعْمَشُ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "عَلى الجُودِي" بِسُكُونِ الياءِ، وهُما لُغَتانِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَقِيلَ بُعْدًا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ اللهِ تَعالى عَطْفًا عَلى "وَقِيلَ" الأوَّلِ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ نُوحٍ والمُؤْمِنِينَ، والأوَّلُ أظْهَرُ وأبْلَغُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب