الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ إنَّما يَأْتِيكم بِهِ اللهُ إنْ شاءَ وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ ﴿وَلا يَنْفَعُكم نُصْحِي إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكم إنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكم هو رَبُّكم وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إجْرامِي وأنا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ﴾ المَعْنى: لَيْسَ ذَلِكَ بِيَدِي ولا إلَيَّ تَوْفِيَتُهُ، وإنَّما ذَلِكَ بِيَدِ اللهِ وهو الآتِي بِهِ إنْ شاءَ وإذا شاءَ، ولَسْتُمْ مِنَ المَنَعَةِ بِحالِ مَن يُفْلِتُ أو يَعْتَصِمُ بِمُنْجٍ، وإنَّما في قَبْضَةِ القُدْرَةِ وتَحْتَ ذِلَّةِ المُتَمَلِّكِ، ولَيْسَ نُصْحِي بِنافِعٍ ولا إرادَتِي الخَيْرَ لَكم مُغْنِيَةٌ إذا كانَ اللهُ تَعالى قَدْ أرادَ بِكُمُ الإغْواءَ والإضْلالَ والإهْلاكَ. والشَرْطُ الثانِي اعْتِراضٌ بَيْنَ الكَلامِ، وفِيهِ بَلاغَةٌ في اقْتِرانِ الإرادَتَيْنِ. وأنَّ إرادَةَ البَشَرِ غَيْرُ مُغْنِيَةٍ، وتَعَلُّقُ هَذا الشَرْطِ هو بِـ "نُصْحِي"، وتَعَلُّقُ الآخَرِ هو بِـ "لا يَنْفَعُ". والنُصْحُ هو سَدُّ ثَلْمِ الرَأْيِ لِلْمَنصُوحِ وتَرْقِيعُهُ، وهو مَأْخُوذٌ مِن نَصَحَ الثَوْبَ إذا خاطَهُ، والمِنصَحُ الإبْرَةُ، والمَخِيطُ يُقالُ لَهُ مِنصَحٌ ونَصاحٌ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنى قَوْلِهِ: "يُغْوِيَكُمْ": يُضِلَّكُمْ، مِن قَوْلِهِمْ غَوى الرَجُلُ يَغْوى، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ فَمَن يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ الناسُ أمْرَهُ ∗∗∗ ومَن يَغْوَ لا يَعْدَمْ عَلى الغَيِّ لائِما وإذا كانَ هَذا مَعْنى اللَفْظَةِ، فَفي الآيَةِ حُجَّةٌ عَلى المُعْتَزِلَةِ القائِلِينَ إنَّ الضَلالَ إنَّما هو مِنَ العَبْدِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنى قَوْلِهِ: يُغْوِيَكُمْ: يُهْلِكُكُمْ، والغَوى المَرَضُ والهَلاكُ وفي لُغَةِ طَيِّئٍ: أصْبَحَ فُلانٌ غاوِيًا، أيْ: مَرِيضًا، والغَوى: بَشَمُ الفَصِيلِ، قالَهُ يَعْقُوبُ في الإصْلاحِ. وقِيلَ: فَقْدُهُ اللَبَنَ حَتّى يَمُوتَ جُوعًا، قالَهُ الفَرّاءُ وحَكاهُ (p-٥٦٩)الطَبَرِيُّ. يُقالُ غَوى يَغْوى، وحَكى الزَهْراوِيُّ أنَّهُ الَّذِي قُطِعَ عنهُ اللَبَنُ حَتّى كادَ يَهْلَكُ ولَمّا يَهْلَكْ بَعْدُ، فَإذا كانَ هَذا مَعْنى اللَفْظَةِ زالَ مَوْضِعُ النَظَرِ بَيْنَ أهْلِ السُنَّةِ والمُعْتَزِلَةِ، وبَقِيَ الِاحْتِجاجُ عَلَيْهِمْ بِما هو أبْيَنُ مِن هَذِهِ الآيَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ﴾ [الأنعام: ١٢٥] ونَحْوِها. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وأعْتَقِد مكي أنَّ لِلْمُعْتَزِلَةِ تَعَلُّقًا وحُجَّةً بالِغَةً بِهَذا التَأْوِيلِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ وأفْرَطَ حَتّى أنْكَرَ أنْ يَكُونَ الغَوى بِمَعْنى الهَلاكِ مَوْجُودًا في لِسانِ العَرَبِ. وقَوْلُهُ: ﴿هُوَ رَبُّكُمْ﴾، تَنْبِيهٌ عَلى المَعْرِفَةِ بِالخالِقِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إخْبارٌ في ضِمْنِهِ وعِيدٌ وتَخْوِيفٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾ الآيَةُ، قالَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ المُتَأوِّلِينَ والمُؤَلِّفِينَ في التَفْسِيرِ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ اعْتَرَضَتْ في قِصَّةِ نُوحٍ وهي شَأْنُ مُحَمَّدٍ ﷺ مَعَ كُفّارِ قُرَيْشٍ، وذَلِكَ أنَّهم قالُوا: افْتَرى القُرْآنُ وافْتَرى هَذِهِ القِصَّةَ عَلى نُوحٍ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا لَوْ صَحَّ بِسَنَدٍ وجَبَ الوُقُوفُ عِنْدَهُ، وإلّا فَهو يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في شَأْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَلامُ، ويَبْقى اتِّساقُ الآيَةَ مُطَّرِدًا، ويَكُونُ الضَمِيرُ في قَوْلِهِ: افْتَراهُ عائِدًا إلى العَذابِ الَّذِي تَوَعَّدَهم بِهِ أو عَلى جَمِيعِ أخْبارِهِ، وأوقَعَ الِافْتِراءَ عَلى العَذابِ مِن حَيْثُ يَقَعُ عَلى الإخْبارِ بِهِ. والمَعْنى: أمْ يَقُولُ هَؤُلاءِ الكَفَرَةُ افْتَرى نُوحٌ هَذا التَوَعُّدَ بِالعَذابِ وأرادَ الإرْهابَ عَلَيْنا بِذَلِكَ ثُمَّ يَطَّرِدُ باقِي الآيَةِ عَلى هَذا. و"أمْ" هي الَّتِي بِمَعْنى "بَلْ"، و"الإجْرامُ" مَصْدَرُ أجْرَمَ يُجْرِمُ إذا جَنى، يُقالُ: (p-٥٧٠)جَرَمَ وأجْرَمَ بِمَعْنًى، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ طَرِيدُ عَشِيرَةٍ ورَهِينُ ذَنْبٍ ∗∗∗ ∗∗∗ بِما جَرَمَتْ يَدِي وجَنى لِسانِي
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب