الباحث القرآني

(p-٥٣٦)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ سُورَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَلامُ هَذِهِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ إلّا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ وضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ [هود: ١٢]، وقَوْلَهُ: ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [هود: ١٧]، ونَزَلَتْ في ابْنِ سَلامٍ وأصْحابِهِ، وقَوْلَهُ: ﴿إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَيِّئاتِ﴾ [هود: ١١٤] الآيَةُ، نَزَلَتْ في شَأْنِ الثِمارِ. وهَذِهِ الثَلاثُ مَدَنِيَّةٌ، قالَهُ مُقاتِلٌ، عَلى أنَّ الأُولى تُشْبِهُ المَكِّيَّ. وإذا أرَدْتَ بِـ"هُودٍ" اسْمَ السُورَةِ لَمْ يَنْصَرِفْ، كَما تَفْعَلُ إذا سَمَّيْتَ امْرَأةً بِـ" عَمْرٍو " و"زَيْدٍ"، وإذا أرَدْتَ سُورَةَ "هُودٍ" صَرَفْتَ. قوله عزّ وجلّ: ﴿الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ ﴿ألا تَعْبُدُوا إلا اللهَ إنَّنِي لَكم مِنهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ﴾ ﴿وَأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وإنْ تَوَلَّوْا فَإنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ ﴿إلى اللهِ مَرْجِعُكم وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تَقَدَّمَ اسْتِيعابُ القَوْلِ في الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في أوائِلِ السُورِ، وتَخْتَصُّ هَذِهِ بِأنْ قِيلَ: إنَّ (الرَحْمَنَ) فُرِّقَتْ حُرُوفُهُ فِيها، وفي "حَم" وفي "ن والقَلَمِ". (p-٥٣٧)وَ"كِتابٌ" مُرْتَفِعٌ عَلى خَبَرِ الِابْتِداءِ، فَمَن قالَ: "الحُرُوفُ إشارَةٌ إلى حُرُوفِ المُعْجَمِ" كانَتِ الحُرُوفُ المُبْتَدَأ، ومَن تَأوَّلَ الحُرُوفَ غَيْرَ ذَلِكَ كانَ المُبْتَدَأُ: هَذا كِتابٌ، والمُرادُ بِالكِتابِ القُرْآنُ. و"أُحْكِمَتْ" مَعْناهُ: أُتْقِنَتْ وأُجِيدَتْ شِبْهَ ما تُحَكَمُ مِنَ الأُمُورِ المُتْقَنَةِ الكامِلَةِ، وبِهَذِهِ الصِفَةِ كانَ القُرْآنُ في الأزَلِ، ثُمَّ فُصِّلَ بِتَقْطِيعِهِ وتَنْوِيعِ أحْكامِهِ وأوامِرِهِ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ في أزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَـ "ثُمَّ" عَلى بابِها، وهَذِهِ طَرِيقَةُ الإحْكامِ والتَفْصِيلِ، إذِ الإحْكامُ صِفَةٌ ذاتِيَّةٌ، والتَفْصِيلُ إنَّما هو بِحَسَبِ مَن يُفَصِّلُ لَهُ، والكِتابُ بِأجْمَعِهِ مُحْكَمٌ مُفَصَّلٌ، والإحْكامُ الَّذِي هو ضِدُّ النَسْخِ والتَفْصِيلُ الَّذِي هو خِلافُ الإجْمالِ إنَّما يُقالانِ مَعَ ما ذَكَرْناهُ بِاشْتِراكٍ. وحَكى الطَبَرِيُّ عن بَعْضِ المُتَأوِّلِينَ: أُحْكِمَتْ بِالأمْرِ والنَهْيِ، وفُصِّلَتْ بِالثَوابِ والعِقابِ، وعن بَعْضِهِمْ: أُحْكِمَتْ مِنَ الباطِلِ، وفُصِّلَتْ بِالحَلالِ والحَرامِ، ونَحْوُ هَذا مِنَ التَخْصِيصِ الَّذِي هو صَحِيحُ المَعْنى ولَكِنْ لا يَقْتَضِيهِ اللَفْظُ. وقالَ قَوْمٌ: ﴿فُصِّلَتْ﴾ مَعْناهُ: فُسِّرَتْ، وقَرَأ عِكْرِمَةُ، والضَحّاكُ، والجَحْدَرِيُّ، وابْنُ كَثِيرٍ - فِيما رُوِيَ عنهُ-: "ثُمَّ فَصَلَتْ" بِفَتْحِ الفاءِ والصادِ واللامِ، ويَحْتَمِلُ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: فَصَلَتْ أيْ: نَزَلَتْ إلى الناسِ، كَما تَقُولُ: "فَصَلَ فَلانٌ" لِسَفَرِهِ ونَحْوِ هَذا مِنَ المَعْنى. والثانِي: فَصَلَتْ بَيْنَ المُحِقِّ والمُبْطِلِ مِنَ الناسِ. و﴿مِن لَدُنْ﴾ مَعْناها: مِن حَيْثُ ابْتُدِئَتِ الغايَةُ، كَذا قالَ سِيبَوَيْهِ، وفِيها لُغاتٌ. يُقالُ: "لَدْنٌ" و"لُدْنٌ" بِسُكُونِ الدالِ، وقُرِئَ بِهِما "مِن لَدُنْ"، ويُقالُ: "لَدُ" بِفَتْحِ اللامِ وضَمِّ الدالِ دُونَ نُونٍ، ويُقالُ: "لَدًى"، بِدالٍ مُنَوَّنَةٍ مَقْصُورَةٍ. ويُقالُ: "لَدٍ" بِدالٍ مَكْسُورَةٍ مُنَوَّنَةٍ، حَكى ذَلِكَ أبُو عُبَيْدَةَ. و"حَكِيمٍ" أيْ: مُحْكِمٌ، و"خَبِيرٍ" أيْ: ذُو خِبْرَةٍ بِالأُمُورِ أجْمَعَ. ﴿ألا تَعْبُدُوا﴾، "أنْ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ، إمّا عَلى إضْمارِ فِعْلٍ، وإمّا عَلى تَقْدِيرِ "بِأنْ" وإسْقاطِ الخافِضِ، وقِيلَ: عَلى البَدَلِ مِن مَوْضِعِ "الآياتِ"، وهَذا مُعْتَرَضٌ ضَعِيفٌ لِأنَّهُ لا مَوْضِعَ لِلْآياتِ، وإنْ نُظِرَ مَوْضِعُ الجُمْلَةِ فَهو رَفْعٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى تَقْدِيرِ: "تَفْصِيلُهُ ألّا تَعْبُدُوا"، وقِيلَ: عَلى البَدَلِ مِن لَفْظِ "الآياتِ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّنِي لَكم مِنهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ﴾ أيْ: مِن عِقابِهِ وبِثَوابِهِ، وإذا أُطْلِقَتْ هاتانِ اللَفْظَتانِ فالنِذارَةُ في المَكْرُوهِ والبِشارَةُ في المَحْبُوبِ، وقُدِّمَ "النَذِيرُ" لِأنَّ التَحْذِيرَ مِنَ النارِ هو الأهَمُّ، و"أنْ" مَعْطُوفَةٌ عَلى الَّتِي قَبْلَها. ومَعْنى الآيَةِ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، أيِ:اطْلُبُوا مَغْفِرَتَهُ لَكم وذَلِكَ بِطَلَبِ دُخُولِكم في الإسْلامِ، ثُمَّ تُوبُوا مِنَ الكُفْرِ، أيِ:انْسَلَخُوا مِنهُ وانْدَمُوا عَلى سالِفِهِ. و"ثُمَّ" مُرَتِّبَةٌ لِأنَّ الكافِرَ أوَّلَ ما يُنِيبُ فَإنَّهُ في طَلَبِ مَغْفِرَةِ رَبِّهِ، فَإذا تابَ وتَجَرَّدَ مِنَ الكُفْرِ تَمَّ إيمانُهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ "يُمَتِّعْكُمْ" بِشَدِّ التاءِ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "يُمْتِعْكُمْ" بِسُكُونِ المِيمِ وتَخْفِيفِ التاءِ، وفي كِتابِ أبِي حاتِمٍ: "إنَّ هَذِهِ القِراءاتِ بِالنُونِ"، وفي هَذا نَظَرٌ. و"مَتاعًا" مَصْدَرٌ جارٍ عَلى غَيْرِ الفِعْلِ المُتَقَدِّمِ مَثَّلَ: ﴿واللهُ أنْبَتَكم مِنَ الأرْضِ نَباتًا﴾ [نوح: ١٧]. وقِيلَ: نُصِبَ بِتَعَدِّي "يُمَتِّعْكُمْ" لِأنَّكَ تَقُولُ: مَتَّعْتُ زَيْدًا ثَوْبًا. ووَصْفُ المَتاعِ بِالحُسْنِ إنَّما هو لِطِيبِ عَيْشِ المُؤْمِنِ بِرَجائِهِ في اللهِ عَزَّ وجَلَّ وفي ثَوابِهِ، وفَرَحِهِ بِالتَقَرُّبِ إلَيْهِ بِمُفْتَرِضاتِهِ، والسُرُورِ بِمَواعِيدِهِ، والكافِرُ لَيْسَ في شَيْءٍ مِن هَذا. وأمّا مَن قالَ بِأنَّ المَتاعَ الحَسَنَ هو فَوائِدُ الدُنْيا وزِينَتُها، فَيَضْعُفُ بِأنَّ الكَفَرَةَ يَتَشارَكُونَ في ذَلِكَ أعْظَمَ مُشارَكَةٍ. والأجَلُ المُسَمّى هو أجَلُ المَوْتِ، مَعْناهُ: إلى أجَلٍ مُسَمًّى لِكُلِّ واحِدٍ مِنكُمْ، وهَذا ظاهِرُ الآيَةِ، والأجَلُ الكَبِيرُ - عَلى هَذا- هو يَوْمُ القِيامَةِ. وتَحْتَمِلُ الآيَةُ أنْ يَكُونَ التَوَعُّدُ بِتَعْجِيلِ العَذابِ إنْ كَفَرُوا، والوَعْدِ بِتَمْتِيعِهِمْ إنْ آمَنُوا، فَتُشْبِهُ ما قالَهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَلامُ، واليَوْمُ الكَبِيرُ -عَلى هَذا- كَيَوْمِ بَدْرٍ ونَحْوِهِ، والمَجْهَلَةُ -فِي أيِّ الأمْرَيْنِ يَكُونُ- إنَّما هي بِحَسَبِ البَشَرِ، والأمْرُ عِنْدَ اللهِ تَعالى مَعْلُومٌ مُحَصَّلٌ، والأجَلُ واحِدٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ أيْ كُلَّ ذِي إحْسانٍ بِقَوْلِهِ أو بِفِعْلِهِ أو بِقُوَّتِهِ أو بِمالِهِ أو غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يُمْكِنُ أنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ، و"فَضْلَهُ" يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ فِيهِ عَلى "ذِي" أيْ: ثَوابَ فَضْلِهِ وجَزاءَهُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ فِيهِ عَلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أيْ: يُؤْتِي اللهُ فَضْلَهُ كُلَّ ذِي فَضْلٍ وعَمَلٍ صالِحٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ، ونَحْوُ هَذا المَعْنى ما وعَدَ بِهِ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى مِن تَضْعِيفِ الحَسَنَةِ بِعَشْرِ أمْثالِها، ومِنَ التَضْعِيفِ غَيْرُ مَحْصُورٍ لِمَن شاءَ. وهَذا التَأْوِيلُ تَأوَّلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وقالَ: "وَيْلٌ لِمَن غَلَبَتْ (p-٥٣٩)آحادُهُ عَشَراتِهِ". ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ مُوافِقًا لِلْمَعْنى الأوَّلِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَإنْ تَوَلَّوْا" بِفَتْحِ التاءِ واللامِ، فَبَعْضُهم قالَ: مَعْناهُ: الغَيْبَةُ، أيْ: فَقُلْ لَهُمْ: إنِّي أخافُ عَلَيْكُمْ، وقالَ بَعْضُهُمْ: مَعْناهُ: "فَإنْ تَتَوَلَّوْا" فَحُذِفَتِ التاءُ، والآيَةُ كُلُّها عَلى مُخاطَبَةِ الحاضِرِ، وقَرَأ اليَمانِيُّ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ: "وَإنْ تُوَلُّوا" بِضَمِّ التاءِ واللامِ وفَتْحِ الواوِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ تَوَعُّدٌ بِيَوْمِ القِيامَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ يَوْمًا مِنَ الدُنْيا كَبَدْرٍ وغَيْرِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى اللهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ تَوَعُّدٌ، وهو يُؤَيِّدُ أنَّ اليَوْمَ الكَبِيرَ يَوْمُ القِيامَةِ لِأنَّهُ تَوَعَّدَ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَرِيقَ إلَيْهِ مِنَ الرُجُوعِ إلى اللهِ. والمَعْنى: إلى عِقابِهِ وجَزائِهِ رُجُوعُكُمْ، وهو القادِرُ الَّذِي لا يَضُرُّهُ شَيْءٌ، ولا يُجِيرُ عَلَيْهِ مُجِيرٌ، ولا تَنْفَعُ مِن قَضائِهِ واقِيَةٌ. وقَوْلُهُ: ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ عُمُومٌ يُرادُ بِهِ الخُصُوصُ، دُونَ ما لا يُوصَفُ اللهُ بِالقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنَ المُحاوَلاتِ وغَيْرِها الَّتِي هي الأشْياءُ. والشَيْءُ في اللُغَةِ: المَوْجُودُ، وما يَتَحَقَّقُ أنَّهُ يُوجَدُ كَزَلْزَلَةِ الساعَةِ وغَيْرِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب