الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ وضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أو جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إنَّما أنْتَ نَذِيرٌ واللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مَنِ دُونِ اللهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ سَبَبُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ قالُوا: يا مُحَمَّدُ لَوْ تَرَكْتَ سَبَّ آلِهَتِنا وتَسْفِيهَ آبائِنا لَجالَسْناكَ واتَّبَعْناكَ. وقالُوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذا أو بَدِّلْهُ، ونَحْوَ هَذا مِنَ الأقْوالِ. فَخاطَبَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ عَلى هَذِهِ الصُورَةِ مِنَ المُخاطَبَةِ، ووَقَّفَهُ بِها تَوْقِيفًا رادًّا عَلى أقْوالِهِمْ ومُبْطِلًا لَها، ولَيْسَ المَعْنى أنَّهُ ﷺ هَمَّ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ فَزُجِرَ عنهُ، فَإنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَطُّ تَرْكَ شَيْءٍ مِمّا أُوحِيَ إلَيْهِ، ولا ضاقَ صَدْرُهُ، وإنَّما كانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ بِأقْوالِهِمْ وأفْعالِهِمْ وبُعْدِهِمْ عَنِ الإيمانِ. (p-٥٤٨)وَ "لَعَلَّكَ" هاهُنا بِمَعْنى التَوْقِيفِ والتَقْرِيرِ، و﴿ما يُوحى إلَيْكَ﴾ هو القُرْآنُ والشَرِيعَةُ والدُعاءُ إلى اللهِ تَعالى، كانَ في ذَلِكَ سَبُّ آلِهَتِهِمْ وتَسْفِيهُ آبائِهِمْ أو غَيْرُهُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ النَبِيُّ ﷺ قَدْ عَظُمَ عَلَيْهِ ما يَلْقى مِنَ الشِدَّةِ فَمالَ إلى أنْ يَكُونَ مِنَ اللهِ تَعالى إذْنٌ في مُساهَلَةِ الكُفّارِ بَعْضَ المُساهَلَةِ، ونَحْوُ هَذا مِنَ الِاعْتِقاداتِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ ﷺ كَما جاءَتْ آياتُ المُوادَعَةِ. وعَبَّرَ بِـ "ضائِقٌ" دُونَ "ضَيِّقٍ" لِلْمُناسَبَةِ في اللَفْظِ مَعَ "تارِكٌ"، وإنْ كانَ "ضَيِّقٌ" أكْثَرَ اسْتِعْمالًا لِأنَّهُ وصْفٌ لازِمٌ، و"ضائِقٌ" وصْفٌ عارِضٌ، فَهو الَّذِي يَصْلُحُ هُنا، والضَمِيرُ في "بِهِ" عائِدٌ عَلى "البَعْضِ"، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى "ما". و"أنْ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى تَقْدِيرِ: "كَراهَةَ أنْ"، والكَنْزُ هاهُنا: المالُ، وهَذا طَلَبُهم آيَةً تَضْطَرُّ إلى الإيمانِ، واللهُ تَبارَكَ وتَعالى لَمْ يَبْعَثِ الأنْبِياءَ بِآياتِ اضْطِرارٍ، وإنَّما بَعَثَهم بِآياتِ النَظَرِ والِاسْتِدْلالِ، ولَمْ يَجْعَلْ آيَةَ الِاضْطِرارِ إلّا لِلْأُمَمِ الَّتِي قَدَّرَ تَعْذِيبَها بِكُفْرِها بَعْدَ آيَةِ الِاضْطِرارِ، كالناقَةِ لِثَمُودَ. ثُمَّ آنَسَهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما أنْتَ نَذِيرٌ﴾، أيْ: هَذا القَدْرُ هو الَّذِي فُوِّضَ إلَيْكَ، واللهُ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ هو الوَكِيلُ المُمْضِي لِإيمانِ مَن شاءَ وكُفْرِ مَن شاءَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ﴾ الآيَةُ، هَذِهِ "أمْ" الَّتِي هي عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِمَعْنى "بَلْ وألِفِ الِاسْتِفْهامِ"، كَأنَّهُ أضْرَبَ عَنِ الكَلامِ الأوَّلِ واسْتَفْهَمَ في الثانِي عَلى مَعْنى التَقْرِيرِ، كَقَوْلِهِمْ: "إنَّها لَإبِلٌ أمْ شاءٌ؟"، والِافْتِراءُ أخَصُّ مِنَ الكَذِبِ، ولا يُسْتَعْمَلُ إلّا فِيما بَهَتَ بِهِ المَرْءُ وكابَرَ وجاءَ بِأمْرٍ عَظِيمٍ مُنْكَرٍ، ووَقَعَ التَحَدِّي في هَذِهِ الآيَةِ بِعَشْرٍ لِأنَّهُ قَيَّدَها بِالِافْتِراءِ، فَوَسَّعَ عَلَيْهِمْ في القَدْرِ لِتَقُومَ الحُجَّةُ غايَةَ القِيامِ، إذْ قَدْ عَجَّزَهم في غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ دُونَ تَقْيِيدٍ، فَهَذِهِ مُماثَلَةٌ تامَّةٌ في غُيُوبِ القُرْآنِ ومَعانِيهِ ونَظْمِهِ ووَعْدِهِ ووَعِيدِهِ، وعَجَزُوا في هَذِهِ الآيَةِ بَلْ قِيلَ لَهُمْ: عارِضُوا القَدْرَ مِنهُ بِعَشْرٍ أمْثالِهِ في التَقْدِيرِ والغَرُضُ واحِدٌ، واجْعَلُوهُ مُفْتَرًى لا يَبْقى لَكم إلّا نَظْمُهُ، فَهَذِهِ غايَةُ التَوْسِعَةِ، ولَيْسَ المَعْنى: عارِضُوا عَشْرَ سُوَرٍ بِعَشْرٍ، لِأنَّ هَذِهِ إنَّما كانَتْ تَجِيءُ مُعارَضَةَ سُورَةٍ بِسُورَةٍ مُفْتَراةٍ ولا تُبالِي عن تَقْدِيمِ نُزُولِ هَذِهِ عَلى هَذِهِ. ويُؤَيِّدُ هَذا النَظَرَ أنَّ التَكْلِيفَ في آيَةِ البَقَرَةِ إنَّما هو بِسَبَبِ الرَيْبِ، ولا يُزِيلُ الرَيْبَ إلّا العِلْمُ بِأنَّهم لا يَقْدِرُونَ عَلى المُماثَلَةِ التامَّةِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ إنَّما التَكْلِيفُ بِسَبَبِ قَوْلِهِمُ: "افْتَراهُ"، فَكُلِّفُوا نَحْوَ ما قالُوا، ولا يَطَّرِدُ هَذا في آيَةِ "يُونُسَ". وقالَ بَعْضُ الناسِ: هَذِهِ مُقَدَّمَةٌ في النُزُولِ (p-٥٤٩)عَلى تِلْكَ، ولا يَصِحُّ أنْ يَعْجِزُوا في واحِدَةٍ فَيُكَلَّفُوا عَشْرًا والتَكْلِيفانِ سَواءٌ، ولا يَصِحُّ أنْ تَكُونَ السُورَةُ الواحِدَةُ إلّا مُفْتَراةً، وآيَةُ سُورَةِ "يُونُسَ" في تَكْلِيفِ سُورَةٍ مُتَرَكِّبَةٍ عَلى قَوْلِهِمُ: "افْتَراهُ"، وكَذَلِكَ آيَةُ البَقَرَةِ، إنَّما رَيْبُهم بِأنَّ القُرْآنَ مُفْتَرًى. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقائِلُ هَذا القَوْلِ لَمْ يَلْحَظِ الفَرْقَ بَيْنَ التَكْلِيفَيْنِ، في كَمالِ المُماثَلَةِ مَرَّةً، ووُقُوفِها عَلى النَظْمِ مَرَّةً. و"مَن" في قَوْلِهِ: ﴿مَنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ يُرادُ بِها الآلِهَةُ والأصْنامُ والشَياطِينُ وكُلُّ ما كانُوا يُعَظِّمُونَهُ، وقَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ يُرِيدُ: في أنَّ القُرْآنَ مُفْتَرًى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب