الباحث القرآني

(p-٦٩٢)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ قُرَيْشٍ وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلا خِلافٍ. قوله عزّ وجلّ: ﴿لإيلافِ قُرَيْشٍ﴾ ﴿إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِتاءِ والصَيْفِ﴾ ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ﴾ ﴿الَّذِي أطْعَمَهم مِن جُوعٍ وآمَنَهم مِن خَوْفٍ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "لِإيلافِ قُرَيْشٍ إيلافِهِمْ" عَلى "إفْعالٍ" والهَمْزَةُ الثانِيَةُ ياءٌ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: "لِإلَآفِ" عَلى "فِعالٍ" "إيلافِهِمْ"، عَلى إفْعالٍ بِياءٍ في الثانِيَةِ، وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عن عاصِمٍ بِهَمْزَتَيْنِ فِيهِما، الثانِيَةُ ساكِنَةٌ قالَ أبُو عَلِيٍّ: وتَحْقِيقُ عاصِمٍ هاتَيْنِ الهَمْزَتَيْنِ لا وجْهَ لَهُ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ "إلْفِهِمْ" بِلامٍ ساكِنَةٍ. و"قُرَيْشٍ": ولَدُ النَضِرِ بْنِ كِنانَةَ، والتَقَرُّشُ: التَكَسُّبُ، تَقُولُ العَرَبُ "ألِفَ الرَجُلُ الأمْرَ وآلَفَهُ غَيْرُهُ إيّاهُ"، فاللهُ تَعالى آلَفَ قُرَيْشًا أيْ: جَعَلَهم يَأْلَفُونَ رِحْلَتَيْنِ في العامِ، واحِدَةٌ في الشِتاءِ وأُخْرى في الصَيْفِ، ويُقالُ أيْضًا: "ألِفَ" بِمَعْنى "آلَفَ"، وأنْشَدَ أبُو زَيْدٍ: ؎ مِنَ المُؤْلِفاتِ الرَمْلِ أدْماءُ حُرَّةٌ شُعاعُ الضُحى في جِيدِها يَتَوَضَّحُ فَإلْفٌ وإلافٌ مَصْدَرُ "ألِفَ"، وإيلافٌ مَصْدَرُ "آلَفُ"، قالَ بَعْضُ الناسِ: كانَتِ (p-٦٩٣)الرِحْلَتانِ إلى الشامِ في التِجارَةِ وقِيلَ الأرْباحُ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ سِفْرَيْنِ سَنَّهُما لَهُ ولِغَيْرِهِ ∗∗∗ سَفَرُ الشِتاءِ ورِحْلَةُ الأصْيافِ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَتْ رِحْلَةَ الشِتاءِ إلى اليَمَنِ، ورِحْلَةَ الصَيْفِ إلى بُصَرى مِن أرْضِ الشامِ. قالَ أبُو صالِحٍ: كانَتا جَمِيعًا إلى الشامِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: كانُوا يَرْحَلُونَ في الصَيْفِ إلى الطائِفِ حَيْثُ الماءُ والظِلُّ، ويَرْحَلُونَ في الشِتاءِ إلى مَكَّةَ لِلتِّجارَةِ وسائِرِ أغْراضِهِمْ، فَهاتانِ رِحْلَتا الشِتاءِ والصَيْفِ، قالَ الخَلِيلُ بْنُ أحْمَدَ: فَمَعْنى الآيَةِ: لِأنَّ اللهَ تَعالى فَعَلَ بِقُرَيْشٍ هَذا ومَكَّنَهم مِن إلْفِهِمْ هَذِهِ النِعْمَةَ لْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وذِكْرُ "البَيْتِ" هُنا مُتَمَكِّنٌ لِتَقَدُّمِ حِمايَتِهِ في السُورَةِ الَّتِي قَبْلَها. وقالَ الأخْفَشُ وغَيْرُهُ: قَوْلُهُ تَعالى: "لِإيلافِ قُرَيْشٍ" مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَجَعَلَهم كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل: ٥]. أيْ: لِيَفْعَلَ بِقُرَيْشٍ هَذِهِ الأفاعِيلَ الجَمِيلَةَ، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: مَعْنى الآيَةِ: اعْجَبُوا لِإيلافِ قُرَيْشٍ هَذِهِ الأسْفارَ وإعْراضِهِمْ عن عِبادَةِ اللهِ ثُمَّ أمَرَهم تَعالى بِالعِبادَةِ بَعْدُ، وأعْلَمَهم أنَّ اللهَ هو الَّذِي أطْعَمَهم وآمَنَهم لا سَفَرَهُمْ، والمَعْنى: فَلْيَعْبُدُوا الَّذِي أطْعَمَهم بِدَعْوَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ حَيْثُ قالَ: ﴿وارْزُقْهم مِنَ الثَمَراتِ﴾ [إبراهيم: ٣٧]، وآمَنُهم بِدَعْوَتِهِ حَيْثُ قالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: ٣٥]، ولا تَشْتَغِلُوا بِالأسْفارِ فَإنَّها طَلَبُ كَسْبٍ وعَرْضِ دُنْيا. وقالَ النَقّاشُ: كانَتْ لَهم أرْبَعُ رِحَلٍ، وهَذا قَوْلٌ مَرْدُودٌ، وقالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنى الآيَةِ كَما ألِفُوا هاتَيْنِ الرِحْلَتَيْنِ لِدُنْياهم فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ لِآخِرَتِهِمْ، وقالَ قَتادَةُ: إنَّما عُدِّدَتْ عَلَيْهِمُ الرِحْلَتانِ لِأنَّهم كانُوا يَأْمَنُونَ مِنَ الناسِ في سَفَرِهِمْ، والناسُ يُغِيرُ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ، ولا يُمْكِنُ قَبِيلًا مِنَ العَرَبِ أنْ يَرْحَلَ آمِنًا كَما تَفْعَلُ قُرَيْشٌ، فالمَعْنى: فَلْيَعْبُدُوا الَّذِي خَصَّهم بِهَذِهِ الحالِ فَأطْعَمَهم وآمَنَهم. (p-٦٩٤)وَقَوْلُهُ تَعالى: "مِن جُوعٍ" مَعْناهُ أنَّ أهْلَ مَكَّةَ قاطِنُونَ بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عُرْضَةً لِلْجُوعِ والجَدْبِ لَوْلا لُطْفُ اللهِ تَعالى وأنْ جَعَلَها بِدَعْوَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ تُجْبى إلَيْها ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: مِن خَوْفٍ أيٍ جَعَلَهم لِحُرْمَةِ البَيْتِ مُفَضَّلِينَ عِنْدَ العَرَبِ يَأْمَنُونَ والناسُ خائِفُونَ، ولَوْلا فَضْلُ اللهِ تَعالى في ذَلِكَ لَكانُوا بِمَدْرَجِ المَخاوِفِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والضَحّاكُ: "آمَنَهم مِن خَوْفٍ" مَعْناهُ مِنَ الجُذامِ فَلا تَرى بِمَكَّةَ مَجْذُومًا. كَمُلَ تَفْسِيرُ [سُورَةِ قُرَيْشٍ] والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب