الباحث القرآني

(p-٦٨٩)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةُ الفِيلِ وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعِ الرُواةِ. قوله عزّ وجلّ: ﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحابِ الفِيلِ﴾ ﴿ألَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهم في تَضْلِيلٍ﴾ ﴿وَأرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أبابِيلَ﴾ ﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِن سِجِّيلٍ﴾ ﴿فَجَعَلَهم كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ "كَيْفَ" نَصَبَ بِـ "فِعْلٍ"، والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ فِيلٌ واحِدٌ، وقالَ الضَحّاكُ: ثَمانِيَةٌ، فَهو اسْمُ الجِنْسِ، وقَوْلُهُ مَرْدُودٌ، وحَكى النَقّاشُ ثَلاثَةَ عَشَرَ. وهَذِهِ السُورَةُ تَنْبِيهٌ عَلى اعْتِبارٍ في أخْذِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لِأبْرَهَةَ مَلِكُ الحَبَشَةِ ولِجَيْشِهِ حِينَ أمَّ بِهِ الكَعْبَةَ لِيَهْدِمَها، وكانَ صاحِبَ فِيلٍ يَرْكَبُهُ. وقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ في السِيرَةِ الطَوِيلَةِ، واخْتِصارُها أنَّهُ بَنى في اليَمَنِ بَيْتًا، وأرادَ أنْ يَرُدَّ إلَيْهِ حَجَّ العَرَبِ، فَذَهَبَ عَرَبِيٌّ فَأحْدَثَ في البَيْتِ الَّذِي بَناهُ أبَرْهَةُ، فَغَضِبَ لِذَلِكَ واحْتَفَلَ في جُمُوعِهِ، ورَكِبَ الفِيلَ وقَصَدَ مَكَّةَ، وغَلَبَ مِن تَعَرَّضَهُ في طَرِيقِهِ مِن قَبائِلِ العَرَبِ، فَلَمّا وصَلَ ظاهِرَ مَكَّةَ، وفَرَّ عَبْدُ المُطَّلِبِ وقُرَيْشٌ إلى الجِبالِ والشِعابِ، وأسْلَمُوا لَهُ البَلَدَ، وغَلَبَ طُغْيانُهُ، ولَمْ يَكُنْ لِلْبَيْتِ مِنَ البَشَرِ مَن يَعْصِمُهُ، جاءَتْ قُدْرَةُ الواحِدِ القَهّارِ، وأخْذِ العَزِيزِ المُقْتَدِرِ الجَبّارِ، فَأصْبَحَ أبَرْهَةُ لِيَدْخُلَ مَكَّةَ ويَهْدِمَ الكَعْبَةَ، فَبَرَكَ فِيلُهُ بِذِي المَغْمَسِ ولَمْ يَتَوَجَّهْ قِبَلَ مَكَّةَ، فَبَضَعُوهُ بِالحَدِيدِ فَلَمْ يَمْشِ إلى ناحِيَةِ مَكَّةَ، وكانَ إذا وجَّهُوهُ إلى غَيْرِها هَرْوَلَ، فَبَيْنَما هم كَذَلِكَ في أمْرِ الفِيلِ بَعَثَ اللهُ تَعالى عَلَيْهِمْ طَيْرًا جَماعاتٍ جَماعاتٍ سُودًا مِنَ البَحْرِ -وَقِيلَ خُضْرًا-، عِنْدَ كُلِّ طَيْرٍ ثَلاثَةُ أحْجارٍ في مِنقارِهِ ورِجْلَيْهِ، وكُلُّ حَجَرٍ فَوْقَ العَدَسَةِ ودُونَ الحُمُّصَةِ، فَرَمَتْهم بِتِلْكَ الحِجارَةِ، (p-٦٩٠)وَكانَ الحَجَر مِنها يَقْتُلُ المَرْمِيَّ، وتَتَهَرّى لُحُومُهم جَرْبًا وأسْقامًا، وانْصَرَفَ أبَرْهَةُ بِمَن مَعَهُ يُرِيدُ اليَمَنَ، فَماتُوا في طَرِيقِهِمْ مُتَفَرِّقِينَ في كُلِّ مَرْحَلَةٍ، وتَقَطَّعَ أبَرْهَةُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً حَتّى ماتَ، وحَمى اللهُ تَعالى بَيْتَهُ المُرَفَّعَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُورَةُ مُنَبِّهَةً عَلى الِاعْتِبارِ بِهَذِهِ القِصَّةِ، لِيَعْلَمَ الكُلُّ أنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ تَعالى، ويَسْتَسْلِمُوا لِلْإلَهِ الَّذِي ظَهَرَتْ في ذَلِكَ قُدْرَتُهُ حِينَ لَمْ تُغْنِ الأصْنامُ شَيْئًا فَأصْحابُ الفِيلِ هم أبَرْهَةُ المَلِكُ ورِجالُهُ. وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ: "ألَمْ تَرْ" بِسُكُونِ الراءِ، و"التَضْلِيلُ": الخَسارُ والتَلَفُ. و"الأبابِيلُ": الجَماعاتُ تَجِيءُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: لا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ، وهَذا هو الصَحِيحُ، لا ما تَكَلَّفَهُ بَعْضُ النُحاةِ وقالَ كَعْبٌ: ؎ كادَتْ تَهُدُّ مِنَ الأصْواتِ راحِلَتِي إذْ سالَتِ الأرْضُ بِالجَرْدِ الأبابِيلِ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ "حِجارَةِ السِجِّيلِ" غَيْرَ مَرَّةٍ، وهي مِن "سَنْجٍ وكِلٍّ"، أيْ: ماءٍ وطِينٍ، كَأنَّها الآجُرُّ ونَحْوُهُ مِمّا طُبِخَ وهي المُسَوَّمَةُ عِنْدَ اللهِ تَعالى لِلْكُفّارِ والظالِمِينَ. و"العَصْفُ": ورَقُ الحِنْطَةِ وتِبْنُهُ، ومِنهُ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبَدَةَ: ؎ تُسْقى مَذانِبَ قَدْ زالَتْ عَصِيفَتُها ∗∗∗ حَدُورُها مِن أتِيِّ الماءِ مَطْمُومُ (p-٦٩١)والمَعْنى: صارُوا طَحِينًا ذاهِبًا كَوَرَقِ الحِنْطَةِ أكَلَتْهُ الدَوابُّ وِراثَتْهُ فَجَمَعَ المَهانَةَ والخِسَّةَ والتَلَفَ. وقَرَأ أبُو المَلِيحِ الهُذَلِيِّ "فَتَرَكَهم كَعَصْفٍ"، وقالَ أبُو حاتِمٍ: وقَرَأ بَعْضُهُمْ: "فَجَعَلَتْهُمْ" -يَعْنُونَ الطَيْرَ- بِفَتْحِ اللامِ وتاءٍ ساكِنَةٍ، وقالَ عِكْرِمَةُ: العَصْفُ: حَبُّ البُرِّ إذا أكَلَ فَصارَ أجْوَفَ، وقالَ الفَرّاءُ: هو أطْرافُ الزَرْعِ قَبْلَ أنْ يُسَنْبَلَ. وهَذِهِ السُورَةُ مُتَّصِلَةٌ في مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِسُورَةِ "لِإيلافِ قُرَيْشٍ"، لا فَصْلَ بَيْنَهُما، وقالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، كانَ لَنا إمامٌ يَقْرَأُ بِهِما مُتَّصِلَةً سُورَةٌ واحِدَةٌ. كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ [الفِيلِ] والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب