الباحث القرآني

(p-٦٨٠)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ التَكاثُرِ وهِيَ مَكِّيَّةٌ لا أعْلَمُ فِيها خِلافًا. قوله عزّ وجلّ: ﴿ألْهاكُمُ التَكاثُرُ﴾ ﴿حَتّى زُرْتُمُ المَقابِرَ﴾ ﴿كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾ ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾ ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ اليَقِينِ﴾ ﴿ثُمَّ لَتُسْألُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَعِيمِ﴾ "ألْهاكُمْ" مَعْناهُ: شَغَلَكم بِلَذّاتِهِ، ومِنهُ "لَهْوُ الحَدِيثِ والأصْواتِ" واللهْوُ بِالنِساءِ، وهَذا خَبَرٌ فِيهِ تَقْرِيعٌ وتَوْبِيخٌ وتَحَسُّرٌ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ، وأبُو صالِحٍ: "آلْهاكُمْ" عَلى الِاسْتِفْهامِ. و"التَكاثُرُ" هو المُفاخَرَةُ بِالأمْوالِ والأولادِ والعَدَدِ جُمْلَةً، وهَذا هِجِّيرى أهْلِ الدُنْيا وأبْنائِها العَرَبِ وغَيْرِهِمْ، لا يَتَخَلَّصُ مِنهُ إلّا العُلَماءُ المُتَّقُونَ، وقَدْ قالَ الأعْشى: ؎ ولِسْتُ بِالأكْثَرِ مِنهم حَصًى وإنَّما العِزَّةُ لِلْكاثِرِ وقالَ النَبِيُّ ﷺ: « "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مالِي مالِي، وهَلْ لَكَ مِن مالِكَ إلّا ما أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أو لَبِسْتَ فَأبْلَيْتَ، أو تَصَدَّقْتَ فَأمْضَيْتَ"؟». (p-٦٨١)واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى زُرْتُمُ المَقابِرَ﴾، فَقالَ بَعْضُهُمْ: حَتّى ذَكَرْتُمُ المَوْتى في تَفاخُرِكم بِالآباءِ والسَلَفِ، وتَكَثَّرْتُمْ بِالعِظامِ الرَمِيمِ، وقالَ آخَرُونَ: المَعْنى: حَتّى مُتُّمْ وزُرْتُمْ بِأجْسادِكم مَقابِرَكُمْ، أيْ قَطَعْتُمْ بِالتَكاثُرِ أعْمارَهُمْ، وعَلى هَذا التَأْوِيلِ رُوِيَ أنَّ أعْرابِيًّا سَمِعَ هَذِهِ الآيَةَ فَقالَ: بُعِثَ القَوْمُ لِلْقِيامَةِ ورَبِّ الكَعْبَةِ، فَإنَّ الزائِرَ مُنْصَرِفٌ لا يُقِيمُ، وحَكى النَقّاشُ هَذِهِ النَزْعَة عن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وقالَ آخَرُونَ: هَذا تَأْنِيبٌ عَلى الإكْثارِ مِن زِيارَةِ القُبُورِ، أيْ: جَعَلْتُمْ أشْغالَكُمُ القاطِعَةَ لَكم عَنِ العِلْمِ والتَعَلُّمِ زِيارَةُ القُبُورِ تَكَثُّرًا بِمَن سَلَفَ وإشادَةً بِذِكْرِهِ، وقالَ: ثُمَّ قالَ النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "كُنْتُ نَهَيْتُكم عن زِيارَةِ القُبُورِ فَزُورُوها ولا تَقُولُوا هَجْرًا".» فَكانَ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ في مَعْنى الآيَةِ، ثُمَّ أباحَ بَعْدُ لِمَعْنى الِاتِّعاظِ لا لِمَعْنى المُباهاةِ والِافْتِخارِ كَما يَفْعَلُ الناسُ في مُلازَمَتِها وتَسْنِيمِها بِالرُخامِ والحِجارَةِ، تَلْوِينُها سَرَفًا، وبُنْيانَ النَواوِيسِ عَلَيْها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ زَجْرٌ ووَعِيدٌ، ثُمَّ كَرَّرَ تَعالى: "كَلّا" تَأْكِيدًا، ويَأْخُذُ الناسَ مِن هَذا الزَجْرِ والوَعِيدِ المُكَرَّرَيْنِ كُلُّ أحَدٍ عَلى قَدْرِ حَظِّهِ مِنَ التَوَغُّلِ فِيما يَكْرَهُ، هَذا تَأْوِيلُ جُمْهُورِ الناسِ، وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ "كَلّا سَتَعْلَمُونَ في القُبُورِ، كَلّا سَتَعْلَمُونَ في البَعْثِ، وقالَ الضَحّاكُ: الزَجْرُ الأوَّلُ وعِيدُهُ هو لِلْكُفّارِ والثانِي لِلْمُؤْمِنِينَ. وقَرَأ مالِكُ بْنُ دِينارٍ: "كَلّا سَيَعْلَمُونَ" فِيهِما. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ﴾ جَوابُ "لَوْ" مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ في القَوْلِ، أيْ: (p-٦٨٢)لازْدَجَرْتُمْ وبادَرْتُمْ إنْقاذَ أنْفُسِكم مِنَ الهَلَكَةِ، و"اليَقِينُ" أعْلى مَراتِبِ العِلْمِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى الناسَ أنَّهم يَرَوْنَ الجَحِيمَ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والكِسائِيُّ: "لَتُرَوْنَ" بِضَمِّ التاءِ، وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِها، وهي الأرْجَحُ، وكَذَلِكَ في الثانِيَةِ، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ بِفَتْحِ التاءِ الأُولى وضَمِّها في الثانِيَةِ، ورُوِيَ ضَمُّها عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وعاصِمٍ. و"تَرَوْنَ" أصْلُهُ تَرْأيُونَّ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الهَمْزَةِ إلى الراءِ، وقُلِبَتِ الياءُ ألِفًا لِحَرَكَتِها بَعْدَ مَفْتُوحٍ ثُمَّ حُذِفَتِ الألِفُ لِسُكُونِها وسُكُونِ الواوِ بَعْدَها ثُمَّ جُلِبَتِ النُونُ المُشَدَّدَةُ فَحُرِّكَتِ الواوُ بِالضَمِّ لِسُكُونِها وسُكُونِ النُونِ الأُولى مِنَ المُشَدَّدَةِ؛ إذْ قَدْ حُذِفَتْ نُونُ الإعْرابِ لِلْبِناءِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هَذا خِطابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، فالمَعْنى -عَلى هَذا- أنَّها رُؤْيَةُ دُخُولِ وصْلِي، وهو عَيْنُ اليَقِينِ، وقالَ آخَرُونَ: الخِطابُ لِلنّاسِ كُلِّهِمْ، فَهي كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنْ مِنكم إلا وارِدُها﴾ [مريم: ٧١]، فالمَعْنى أنَّ الجَمِيعَ يَراها، ويَجُوزُ الناجِي ويَتَكَرْدَسُ فِيها الكافِرُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ اليَقِينِ﴾ تَأْكِيدٌ في الخَبَرِ، و"عَيْنَ اليَقِينِ" حَقِيقَتُهُ وغايَتُهُ. ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ وأبِي عَمْرٍو أنَّهُما هَمْزا "لَتَرَؤُنَّ" و"لَتَرَؤُنَّها" بِخِلافٍ عنهُما، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: "ثُمَّ لَتَرَوُنَّها" بِضَمِّ التاءِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ الناسَ مَسْؤُولُونَ يَوْمَئِذٍ عن نَعِيمِهِمْ في الدُنْيا، كَيْفَ نالُوهُ؟ ولِمَ آثَرُوهُ؟ ويَتَوَجَّهُ في هَذا أسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ بِحَسَبِ شَخْصٍ شَخْصٍ، مِن مُنْقادَةٍ لِمَن أُعْطِيَ فَهُما في كِتابِ اللهِ تَعالى، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، والشَعْبِيُّ، وسُفْيانُ، ومُجاهِدٌ: النَعِيمُ هو الأمْنُ والصِحَّةُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو البَدَنُ والحَواسُّ، يُسْألُ المَرْءُ فِيما اسْتَعْمَلَها؟ وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هو كُلُّ ما يُتَلَذَّذُ بِهِ مِن طَعامٍ وشَرابٍ، «وَأكَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ هو وبَعْضُ أصْحابِهِ رُطَبًا، وشَرِبُوا عَلَيْها ماءً فَقالَ لَهُمْ: هَذا مِنَ النَعِيمِ الَّذِي تَسْألُونَ عنهُ،»«وَمَضى عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ يَوْمًا هو وأبُو بَكْرٍ وعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُما -وَقَدْ جاعُوا- إلى مَنزِلِ (p-٦٨٣)أبِي الهَيْثَمِ بْنِ التِيهانِ، فَذَبَحَ لَهُما شاةً، وأطْعَمَهم خُبْزًا ورُطَبًا، واسْتَعْذَبَ لَهم ماءً، وكانُوا في ظِلٍّ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْألُنَّ عن نَعِيمِ هَذا اليَوْمِ".» ورُوِيَ عنهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ أنَّهُ قالَ: « "النَعِيمُ المَسْئُوولُ عنهُ كَسْرَةٌ تَقُوتُهُ، وماءٌ يَرْوِيهِ، وثَوْبٌ يُوارِيهِ".» ورَوى أبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ «أنَّ النَعِيمَ المَسْؤُولَ عنهُ الماءُ البارِدُ في الصَيْفِ،» وقالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "مِن أكَلَ خُبْزَ البُرِّ، وشَرِبَ الماءَ البارِدَ في ظِلٍّ، فَذَلِكَ النَعِيمُ الَّذِي يُسْألُ عنهُ"،» وقالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: (p-٦٨٤)« "بَيْتٌ يُكَنِّكَ، وخِرْقَةٌ تُوارِيكَ، وكَسْرَةٌ تَشُدُّ قَلْبَكَ، وما سِوى ذَلِكَ فَهو نَعِيمٌ"». وقالَ النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "كُلُّ نَعِيمٍ فَهو مَسْؤُولٌ عنهُ، إلّا نَعِيمًا في سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ"». كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ [التَكاثُرِ] والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب