الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وَلَوْ جاءَتْهم كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ﴾ ﴿فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلا قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عنهم عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةِ الدُنْيا ومَتَّعْناهم إلى حِينٍ﴾ (p-٥٢٨)جاءَ هَذا تَحْذِيرًا مُرَدَّدًا وإعْلامًا بِسُوءِ حالِ المَحْتُومِ عَلَيْهِمْ، والمَعْنى: إنَّ اللهَ أوجَبَ لَهم سُخْطَهُ في الأزَلِ وخَلَقَهم لِعَذابِهِ، فَلا يُؤْمِنُونَ ولَوْ جاءَهم كُلُّ بَيانٍ وكُلُّ وُضُوحٍ إلّا في الوَقْتِ الَّذِي لا يَنْفَعُهم فِيهِ إيمانٌ، كَما صَنَعَ فِرْعَوْنُ وأشْباهُهُ مِنَ الخَلْقِ، وذَلِكَ وقْتَ المُعايَنَةِ، وفي ضِمْنِ الألْفاظِ التَحْذِيرُ مِن هَذِهِ الحالِ، وبَعْثُ الكُلِّ عَلى المُبادَرَةِ إلى الإيمانِ، والفِرارِ مِن سُخْطِ اللهِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، والحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ: "كَلِمَةُ" بِالإفْرادِ، وقَرَأ نافِعٌ، وأهْلُ المَدِينَةِ: "كَلِماتُ" بِالجَمْعِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ التَرْجَمَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ﴾ الآيَةُ. في مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وابْنِ مَسْعُودٍ: "فَهَلّا"، والمَعْنى فِيهِما واحِدٌ، وأصْلُ "لَوْلا" في الكَلامِ التَحْضِيضُ أوِ الدَلالَةُ عَلى مَنعِ أمْرٍ لِوُجُودِ غَيْرِهِ، فَأمّا هَذِهِ فَبَعِيدَةٌ عن هَذِهِ الآيَةِ، لَكِنَّها مِن جُمْلَةِ الَّتِي هي لِلتَّحْضِيضِ، وحَقِيقَةُ التَحْضِيضِ بِها أنْ يَكُونَ المُحَضِّضُ يُرِيدُ مِنَ المُخاطَبِ فِعْلَ ذَلِكَ الشَيْءِ الَّذِي يَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وقَدْ تَجِيءُ "لَوْلا" ولَيْسَ مِن قَصْدِ المُخاطَبِ أنْ يَحُضَّ المُخاطَبَ عَلى فِعْلِ ذَلِكَ الشَيْءِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ المَعْنى تَوْبِيخًا، كَقَوْلِ جَرِيرٍ: ؎ .......................... ∗∗∗ لَوْلا الكَمِّيَّ المُقَنَّعا وذَلِكَ أنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ حَضَّهم عَلى عَقْرِ الكَمِّيِّ، كَقَوْلِكَ لِرَجُلٍ قَدْ وقَعَ في أمْرٍ صَعْبٍ: "لَوْلا تَحَرَّزْتَ"، وهَذِهِ الآيَةُ مِن هَذا القَبِيلِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومَفْهُومٌ مِن مَعْنى الآيَةِ نَفْيُ إيمانِ أهْلِ القُرى، ومَعْنى الآيَةِ: فَهَلّا آمَنَ مِن أهْلِ القَرْيَةِ (p-٥٢٩)وَهم عَلى مَهَلٍ لَمْ يَلْتَبِسِ العَذابُ بِهِمْ فَيَكُونَ الإيمانُ نافِعًا في هَذِهِ الحالَةِ، ثُمَّ اسْتَثْنى قَوْمَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَلامُ، فَهو بِحَسَبِ اللَفْظِ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، وكَذَلِكَ رَسَمَهُ النَحْوِيُّونَ أجْمَعَ، وهو بِحَسَبِ المَعْنى مُتَّصِلٌ لِأنَّ تَقْدِيرَهُ: ما آمَنَ مِن أهْلِ قَرْيَةٍ إلّا قَوْمَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَلامُ، والنَصْبُ في قَوْلِهِ: ﴿إلا قَوْمَ﴾ هو الوَجْهُ، ولِذَلِكَ أدْخَلَهُ سِيبَوَيْهِ في بابِ "ما لا يَكُونُ فِيهِ إلّا النَصْبُ"، وكَذَلِكَ مَعَ انْقِطاعِ الِاسْتِثْناءِ، ويُشْبِهُ الآيَةَ قَوْلُ النابِغَةِ: ؎ إلّا الأُوارِيَّ............... ∗∗∗ ∗∗∗....................... وذَلِكَ هو حُكْمُ لَفْظِ الآيَةِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: يَجُوزُ فِيهِ الرَفْعُ وهَذا اتِّصالُ الِاسْتِثْناءِ، وقالَ المَهْدَوِيُّ: والرَفْعُ عَلى البَدَلِ مِن "قَرْيَةٌ". ورُوِيَ في قِصَّةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَلامُ: أنَّ القَوْمَ لَمّا كَفَرُوا أوحى اللهُ إلَيْهِ أنْ أنْذِرْهم بِالعَذابِ لِثَلاثَةٍ، فَفَعَلَ فَقالُوا: هو رَجُلٌ لا يَكْذِبُ فارْقُبُوهُ، فَإنْ أقامَ بَيْنَأظْهُرِكم فَلا عَلَيْكُمْ، وإنِ ارْتَحَلَ عنكم فَهو نُزُولُ العَذابِ لا شَكَّ، فَلَمّا كانَ اللَيْلُ تَزَوَّدَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَلامُ وخَرَجَ عنهُمْ، فَأصْبَحُوا فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَتابُوا ودَعَوُا اللهَ وآمَنُوا ولَبِسُوا المُسُوحَ وفَرَّقُوا بَيْنَ الأُمَّهاتِ والأولادِ مِنَ الناسِ والبَهائِمِ، والعَذابُ مِنهم -فِيما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما- عَلى ثُلُثَيْ مِيلٍ. ورُوِيَ عن عَلِيٍّ مِيلٌ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: غَشِيَهُمُ (p-٥٣٠)العَذابُ كَما يُغْشِي الثَوْبُ القَبْرَ، فَرَفَعَ اللهُ عنهُمُ العَذابَ، فَلَمّا مَضَتِ الثَلاثَةُ وعَلِمَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَلامُ أنَّ العَذابَ لَمْ يَنْزِلْ قالَ: كَيْفَ أنْصَرِفُ وقَدْ وجَدُونِي في كَذِبٍ؟ فَذَهَبَ مُغاضِبًا كَما ذَكَرَ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وذَهَبَ الطَبَرِيُّ إلى أنَّ قَوْمَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَلامُ خُصُّوا مِن بَيْنِ الأُمَمِ بِأنْ تِيبَ عَلَيْهِمْ مِن بَعْدِ مُعايَنَةِ العَذابِ، ذَكَرَ ذَلِكَ عن جَماعَةٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، ولَيْسَ كَذَلِكَ، والمُعايِنَةُ الَّتِي لا تَنْفَعُ التَوْبَةُ مَعَها هي تَلَبُّسُ العَذابِ أوِ المَوْتِ بِشَخْصِ الإنْسانِ كَقِصَّةِ فِرْعَوْنَ، وأمّا قَوْمُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَلامُ فَلَمْ يَصِلُوا هَذا الحَدَّ. وقَرَأ الحَسَنُ، وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ، وابْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ: "يُونِسَ" بِكَسْرِ النُونِ، وفِيهِ لِلْعَرَبِ ثَلاثُ لُغاتٍ: ضَمُّ النُونِ وفَتْحُها وكَسْرُها، وكَذَلِكَ في "يُوسُفَ"، وقَوْلُهُ: ﴿إلى حِينٍ﴾ يُرِيدُ: إلى آجالِهِمُ المَفْرُوضَةِ في الأزَلِ. ورُوِيَ أنَّ قَوْمَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَلامُ كانُوا بِنَيْنَوى مِن أرْضِ المُوصِلِ، ويَقْتَضِي ذَلِكَ «قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ لِعَدّاسٍ حِينَ قالَ لَهُ إنَّهُ مِن أهْلِ نَيْنَوى: "مِن قَرْيَةِ الرَجُلِ الصالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتّى؟"» الحَدِيثُ الَّذِي في السِيرَةِ لِابْنِ إسْحاقَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب