الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إسْرائِيلَ مُبَوَّأ صِدْقٍ ورَزَقْناهم مِنَ الطَيِّباتِ فَما اخْتَلَفُوا حَتّى جاءَهُمُ العِلْمُ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ﴿فَإنْ كُنْتَ في شَكٍّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْألِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِن المُمْتَرِينَ﴾ ﴿وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الخاسِرِينَ﴾
المَعْنى: لَقَدِ اخْتَرْنا لِبَنِي إسْرائِيلَ أحْسَنَ اخْتِيارٍ، وأحْلَلْناهم مِنَ الأماكِنِ أحْسَنَ مَحَلٍّ، و﴿مُبَوَّأ صِدْقٍ﴾ أيْ: يُصَدَّقُ فِيهِ ظَنُّ قاصِدِهِ وساكِنِهِ وأهْلِهِ، ويَعْنِي بِهَذِهِ الآيَةِ: إحْلالَهم بِلادَ الشامِ وبَيْتَ المَقْدِسِ. قالَهُ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ، وقِيلَ: بِلادُ مِصْرَ والشامِ، قالَهُ الضَحّاكُ، والأوَّلُ أصَحُّ بِحَسَبِ ما حُفِظَ مِن أنَّهم لَنْ يَعُودُوا إلى مِصْرَ، عَلى أنَّ في القُرْآنِ: ﴿كَذَلِكَ وأورَثْناها بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [الشعراء: ٥٩]، يَعْنِي ما تَرَكَ القِبْطُ مِن جَنّاتٍ وعُيُونٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، وقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ( أورَثْناها ) مَعْناهُ: الحالَةُ مِنَ النِعْمَةِ وإنْ لَمْ يَكُنْ في قُطْرٍ واحِدٍ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما اخْتَلَفُوا حَتّى جاءَهُمُ العِلْمُ﴾ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ؛ أحَدُهُما: فَما اخْتَلَفُوا (p-٥٢٦)فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ حَتّى جاءَهم وبانَ عِلْمُهُ وأمْرُهُ فاخْتَلَفُوا حِينَئِذٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا التَخْصِيصُ هو الَّذِي وقَعَ في كُتُبِ المُتَأوِّلِينَ، وهَذا التَأْوِيلُ يَحْتاجُ إلى سَنَدٍ. والتَأْوِيلُ الآخَرُ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ اللَفْظُ: أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اخْتِلافٌ عَلى مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ في أوَّلِ حالِهِ، فَلَمّا جاءَهُمُ العِلْمُ والأوامِرُ وغَرِقَ فِرْعَوْنُ اخْتَلَفُوا.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَمَعْنى الآيَةِ مَذَمَّةُ ذَلِكَ الصَدْرِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ. ثُمَّ أوجَبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهم ويَفْصِلُ بِعِقابِ مَن يُعاقِبُ ورَحْمَةِ مَن يَرْحَمُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ كُنْتَ في شَكٍّ﴾ الآيَةُ، قالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ -وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الحُسْنِ-: إنَّ "إنْ" نافِيَةٌ بِمَعْنى "ما"، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ "إنْ" شَرْطِيَّةٌ، والصَوابُ في مَعْنى الآيَةِ أنَّها مُخاطَبَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، والمُرادُ بِها سِواهُ مِن كُلٍّ مَن يُمْكِنُ أنْ يَشُكَّ أو يُعارِضَ، وقالَ قَوْمٌ: الكَلامُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ: "إنْ كُنْتَ ابْنِي فَبَرَّنِي".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ولَيْسَ هَذا المِثالُ بِجَيِّدٍ، وإنَّما مِثالُ هَذِهِ قَوْلُهُ تَعالى لِعِيسى: ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي﴾ [المائدة: ١١٦]، ورُوِيَ أنَّ رَجُلًا سَألَ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما عَمّا يَحِيكُ في الصَدْرِ مِنَ الشَكِّ فَقالَ لَهُ: ما نَجا مِن ذَلِكَ أحَدٌ ولا النَبِيُّ ﷺ حَتّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ: ﴿فَإنْ كُنْتَ في شَكٍّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ.﴾.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وذَكَرَ الزَهْراوِيُّ أنَّ هَذِهِ المَقالَةَ أُنْكِرَتْ أنْ يَقُولَها ابْنُ عَبّاسٍ، وبِذَلِكَ أقُولُ، لِأنَّ (p-٥٢٧)الخَواطِرَ لا يَنْجُو مِنها أحَدٌ، وهي خِلافُ الشَكِّ الَّذِي يُجالُ فِيهِ عَلى الِاسْتِشْفاءِ بِالسُؤالِ. و﴿الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتابَ مِن قَبْلِكَ﴾ هم مَن أسْلَمَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ، ورُوِيَ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: "أنا لا أشُكُّ ولا أسْألُ"».
وقَرَأ "فَسَلْ" دُونَ هَمْزٍ الحَسَنُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وأهْلُ المَدِينَةِ، وأبُو عَمْرٍو، وعِيسى، وعاصِمٌ، وقَرَأ جُمْهُورٌ عَظِيمٌ بِالهَمْزِ. ثُمَّ جَزَمَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى الخَبَرَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ جاءَكَ الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾، واللامُ في "لَقَدْ" لامُ قَسَمٍ، و"المُمْتَرِينَ": مَعْناهُ: الشاكِّينَ الَّذِينَ يَحْتاجُونَ في اعْتِقادِهِمْ إلى المُماراةِ فِيها، وقَوْلُهُ: ﴿مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ﴾ يُرِيدُ بِهِ: مِن أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ لَمْ يَخْتَلِفُوا في أمْرِهِ إلّا مِن بَعْدِ مَجِيئِهِ، وهَذا قَوْلُ أهْلِ التَأْوِيلِ قاطِبَةً.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا هو الَّذِي يُشْبِهُ أنْ تُرْتَجى إزالَةُ الشَكِّ فِيهِ مِن قِبَلِ أهْلِ الكِتابِ، ويَحْتَمِلُ اللَفْظُ أنْ يُرِيدَ: بِما أنْزَلْنا جَمِيعَ الشَرْعِ، ولَكِنَّهُ بَعِيدٌ بِالمَعْنى لِأنَّ ذَلِكَ لا يُعْرَفُ ويَزُولُ الشَكُّ فِيهِ إلّا بِأدِلَّةِ العَقْلِ لا بِالسَماعِ مِن مُؤْمِنِي بَنِي إسْرائِيلَ، وقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا﴾ الآيَةُ، مِمّا خُوطِبَ بِهِ النَبِيُّ ﷺ والمُرادُ سِواهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ولِهَذا فائِدَةٌ لَيْسَتْ في مُخاطَبَةِ الناسِ بِهِ، وذَلِكَ شِدَّةُ التَخْوِيفِ، لِأنَّهُ إذا كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُحَذَّرُ مِن مِثْلِ هَذا فَغَيْرُهُ مِنَ الناسِ أولى أنْ يَحْذَرَ ويَتَّقِيَ عَلى نَفْسِهِ.
{"ayahs_start":93,"ayahs":["وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ مُبَوَّأَ صِدۡقࣲ وَرَزَقۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ فَمَا ٱخۡتَلَفُوا۟ حَتَّىٰ جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُۚ إِنَّ رَبَّكَ یَقۡضِی بَیۡنَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ فِیمَا كَانُوا۟ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ","فَإِن كُنتَ فِی شَكࣲّ مِّمَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ فَسۡـَٔلِ ٱلَّذِینَ یَقۡرَءُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَاۤءَكَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِینَ","وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ"],"ayah":"وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق