الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأوحَيْنا إلى مُوسى وأخِيهِ أنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتًا واجْعَلُوا بُيُوتَكم قِبْلَةً وأقِيمُوا الصَلاةَ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَقالَ مُوسى رَبَّنا إنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلأهُ زِينَةً وأمْوالا في الحَياةِ الدُنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عن سَبِيلِكَ رَبَّنا اطْمِسْ عَلى أمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ﴾ ﴿قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فاسْتَقِيما ولا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ رُوِيَ أنَّ فِرْعَوْنَ أخافَ بَنِي إسْرائِيلَ وهَدَمَ لَهم مَواضِعَ كانُوا اتَّخَذُوها لِلصَّلاةِ ونَحْوِ (p-٥١٧)هَذا، فَأوحى اللهُ إلى مُوسى وهارُونَ أنِ اتَّخَذا وتَخَيَّرا لِبَنِي إسْرائِيلَ بُيُوتًا بِمِصْرَ، قالَ مُجاهِدٌ: مِصْرُ في هَذِهِ الآيَةِ: الإسْكَنْدَرِيَّةُ، ومِصْرُ ما بَيْنَ البَحْرِ إلى أسْوانَ، والإسْكَنْدَرِيَّةُ مِن أرْضِ مِصْرَ، و"تَبَوَّءا" مَعْناهُ: كَما قُلْنا: تَخَيَّرا واتَّخِذا، وهي لَفْظَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ في الأماكِنِ وما يُشَبَّهُ بِها، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ لَها أمْرُها حَتّى إذا ما تَبَوَّأتْ ∗∗∗ لِأقْحافِها مَرْعًى تَبَوَّأ مَضْجَعا وهَذا البَيْتُ لِلرّاعِي، وبِهِ سُمِّيَ الراعِي، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ يَتَبَوَّءُونَ مَقاعِدًا لِقِتالِكم ∗∗∗ ∗∗∗ كَلُيُوثِ غابٍ لَيْلُهُنَّ زَئِيرُ وقَرَأ الناسُ: "تَبَوَّءا" بِهَمْزَةٍ عَلى تَقْدِيرِ (.....)، وقَرَأ حَفْصٌ في رِوايَةِ هُبَيْرَةَ: "تَبَوَّيا"، وهَذا تَسْهِيلٌ لَيْسَ بِقِياسِيٍّ، ولَوْ جَرى عَلى القِياسِ لَكانَ بَيْنَ الهَمْزَةِ والألِفِ، وقَوْلُهُ:﴿قِبْلَةً﴾ مَعْناهُ: مَساجِدَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والرَبِيعُ، والضَحّاكُ، والنَخْعِيُّ، وغَيْرُهُمْ، قالُوا: خافُوا فَأُمِرُوا بِالصَلاةِ في بُيُوتِهِمْ، وقِيلَ: يُقابِلُ بَعْضُها بَعْضًا، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والأوَّلُ أصْوَبُ، وقِيلَ: مَعْناهُ: مُوَجَّهَةٌ إلى القِبْلَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، ومِن هَذا حَدِيثٌ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "خَيْرُ بُيُوتِكم ما اسْتُقْبِلَ بِهِ القِبْلَةَ"»، وقَوْلُهُ: ﴿وَأقِيمُوا الصَلاةَ﴾ خِطابٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ، هَذا قَبْلَ نُزُولِ التَوْراةِ لِأنَّها لَمْ تَنْزِلْ إلّا بَعْدَ إجازَةِ البَحْرِ، وقَوْلُهُ: ﴿وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ أمْرٌ لِمُوسى عَلَيْهِ السَلامُ. وقالَ مَكِّيٌّ، والطَبَرِيُّ: هو أمْرٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وهَذا غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالَ مُوسى﴾ الآيَةُ، غَضَبٌ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ عَلى القِبْطِ (p-٥١٨)وَدُعاءٌ عَلَيْهِمْ، فَقَدَّمَ لِلدُّعاءِ تَقْرِيرَ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ وكُفْرِهِمْ بِها. و"آتَيْتَ" مَعْناهُ: أعْطَيْتَ ومَلَّكْتَ، وتَكَرَّرَ قَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا﴾ اسْتِغاثَةٌ، كَما يَقُولُ الداعِي بِاللهِ، وقَوْلُهُ: ﴿لِيُضِلُّوا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لامَ كَيْ عَلى بابِها، عَلى مَعْنى: آتَيْتَهُمُ الأمْوالَ إمْلاءً لَهم واسْتِدْراجًا، فَكانَ الإيتاءُ كَيْ يَضِلُّوا، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لامَ الصَيْرُورَةِ والعاقِبَةِ، كَما قالَ: ﴿فالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهم عَدُوًّا وحَزَنًا﴾ [القصص: ٨]، والمَعْنى: آتَيْتَهم ذَلِكَ فَصارَ أمْرُهم إلى كَذا، ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: هو دُعاءٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى عَلى جِهَةِ الِاسْتِفْهامِ، أيْ: رَبَّنا لِيَضِلُّوا فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ وفي هَذا تَقْرِيرُ الشُنْعَةِ عَلَيْهِمْ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، والحَسَنُ، والأعْرَجُ، وشَيْبَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، ومُجاهِدٌ، وأبُو رَجاءٍ، وأهْلُ مَكَّةَ: "لِيَضِلُّوا" بِفَتْحِ الياءِ عَلى مَعْنى: لِيَضِلُّوا في أنْفُسِهِمْ. وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، والأعْمَشُ، وقَتادَةُ، وعِيسى، والحَسَنُ، والأعْرَجُ -بِخِلافٍ عنهُ-: "لِيُضِلُّوا" بِضَمِّ الياءِ، عَلى مَعْنى: لِيُضِلُّوا غَيْرَهُمْ، وقَرَأ الشَعْبِيُّ: "لِيِضِلُّوا" بِكَسْرِ الياءِ. وقَرَأ الشَعْبِيُّ أيْضًا، وغَيْرُهُ: "اطْمُسْ" بِضَمِّ المِيمِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "اطْمِسْ" بِكَسْرِ المِيمِ، وهُما لُغَتانِ، يُقالُ: طَمَسَ يَطْمِسُ ويَطْمُسُ، قالَ أبُو حاتِمٍ: وقِراءَةُ الناسِ بِكَسْرِ المِيمِ، والضَمُّ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ، ومَعْناهُ: عَفَّ وغَيَّرَ، وهو مِن طُمُوسِ الأثَرِ والعَيْنِ وطَمْسِ الوُجُوهِ، ومِنهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: ؎ مِن كُلِّ نَضّاخَةِ الذِفْرَيِّ إذا عَرِقَتْ ∗∗∗ ∗∗∗ عُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ (p-٥١٩)وَرُوِيَ أنَّهم حِينَ دَعا مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ بِهَذِهِ الدَعْوَةِ رَجَعَ سُكَّرُهم حِجارَةً، وزادُهم ودَنانِيرُهم وحُبُوبُهم مِنَ الأطْعِمَةِ رَجَعَتْ حِجارَةً، قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ. وقالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: مَعْناهُ: أهْلَكَها ودَمَّرَها، ورُوِيَ أنَّ الطَمْسَةَ مِن آياتِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ التِسْعِ، وقَوْلُهُ: ﴿واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ بِمَعْنى: اطْبَعْ واخْتِمْ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ، قالَهُ مُجاهِدٌ والضَحّاكُ، ولَمّا أشارَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِقَتْلِ أسْرى بَدْرٍ شَبَّهَهُ بِمُوسى عَلَيْهِ السَلامُ في دُعائِهِ عَلى قَوْمِهِ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ في هَذِهِ الآيَةِ، وبِنُوحٍ عَلَيْهِ السَلامُ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا﴾ [نوح: ٢٦]. وقَوْلُهُ: ﴿فَلا يُؤْمِنُوا﴾ مَذْهَبُ الأخْفَشِ وغَيْرِهِ أنَّ الفِعْلَ مَنصُوبٌ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: "لِيُضِلُّوا"، وقِيلَ: هو مَنصُوبٌ في جَوابِ الأمْرِ، وقالَ الفَرّاءُ والكِسائِيُّ: هو مَجْزُومٌ عَلى الدُعاءِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ فَلا يَنْبَسِطْ مِن بَيْنِ عَيْنَيْكَ ما انْزَوى ∗∗∗ ∗∗∗ ولا تَلْقَنِي إلّا وأنْفُكَ راغِمُ وجَعَلَ رُؤْيَةَ العَذابِ نِهايَةً وغايَةً، وذَلِكَ لِعِلْمِهِ مِن قِبَلِ اللهِ تَعالى أنَّ المُؤْمِنَ عِنْدَ رُؤْيَةِ العَذابِ لا يَنْفَعُهُ إيمانُهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ ولا يُخْرِجُهُ مِن كُفْرِهِ، ثُمَّ أجابَ اللهُ هَذِهِ الدَعْوَةَ في فِرْعَوْنَ نَفْسِهِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: العَذابُ هُنا: الغَرَقُ، وقَرَأ الناسُ: "دَعْوَتُكُما"، وقَرَأ السُدِّيُّ، والضَحّاكُ: "دَعَواتُكُما"، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيجٍ، ومُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، والضَحّاكِ أنَّ الدَعْوَةَ لَمْ تَظْهَرْ إجابَتُها إلّا بَعْدَ أرْبَعِينَ سَنَةً. وحِينَئِذٍ كانَ الغَرَقُ. (p-٥٢٠) قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وأُعْلِما أنَّ دُعاءَهُما صادَفَ مَقْدُورًا، وهَذا مَعْنى إجابَةِ الدُعاءِ، وقِيلَ لَهُما: ( لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )، أيْ في أنْ تَسْتَعْجِلا قَضائِي فَإنَّ وعْدِي لا خُلْفَ لَهُ، وقَوْلُهُ: "دَعْوَتُكُما" ولَمْ يَتَقَدَّمِ الدُعاءُ إلّا لِمُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، ورُوِيَ أنَّ هارُونَ كانَ يُؤَمِّنُ عَلى دُعاءِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، نُسِبَ الدَعْوَةُ إلَيْهِما، وقِيلَ: كَنّى عَنِ الواحِدِ بِلَفْظِ التَثْنِيَةِ، كَما قالَ: ؎ قِفا نَبْكِ............. ∗∗∗ ∗∗∗....................... ونَحْوُ هَذا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّ الآيَةَ تَتَضَمَّنُ بَعْدُ مُخاطَبَتَهُما مِن غَيْرِ شَيْءٍ، قالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمانَ: قَوْلُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ: "رَبَّنا" دالُّ عَلى أنَّهُما دَعَوا مَعًا، وقَوْلُهُ: "فاسْتَقِيما" أيْ عَلى ما أُمِرْتُما بِهِ مِنَ الدُعاءِ إلى اللهِ. وأُمِرا بِالِاسْتِقامَةِ وهُما عَلَيْها لِلْإدامَةِ والتَمادِي. وقَرَأ نافِعٌ والناسُ: "تَتَّبِعانِّ" بِشَدِّ التاءِ والنُونِ عَلى النَهْيِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وابْنُ ذَكْوانَ: "تَتْبَعانِّ" بِتَخْفِيفِ التاءِ وشَدِّ النُونِ، وقَرَأ ابْنُ ذَكْوانَ أيْضًا: "تَتَّبِعانِ" بِشَدِّ التاءِ وتَخْفِيفِ النُونِ وكَسْرِها، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "تَتْبَعانْ" بِتَخْفِيفِها وسُكُونِ النُونِ، رَواهُ الأخْفَشُ الدِمَشْقِيُّ عن أصْحابِهِ عَنِ ابْنِ عامِرٍ، فَأمّا شَدُّ النُونِ فَهي النُونُ (p-٥٢١)الثَقِيلَةُ حُذِفَتْ مَعَها نُونُ التَثْنِيَةِ لِلْجَزْمِ، كَما تُحْذَفُ مَعَها الضَمَّةُ في "لَتَفْعَلَنَّ" حَيْثُ بُنِيَ الفِعْلُ مَعَها عَلى الفَتْحِ، وإنَّما كُسِرَتْ هَذِهِ النُونُ الثَقِيلَةُ بَعْدَ ألِفِ التَثْنِيَةِ. وأمّا تَخْفِيفُها فَيَصِحُّ أنْ تَكُونَ الثَقِيلَةُ خُفِّفَتْ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ نُونَ التَثْنِيَةِ ويَكُونَ الكَلامُ خَبَرًا مَعْناهُ الأمْرُ، أيْ: لا يَنْبَغِي أنْ تَتَّبِعا، قالَ أبُو عَلِيٍّ: إنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ حالًا مِن:فاسْتَقِيما" كَأنَّهُ قالَ: غَيْرَ مُتَّبِعَيْنِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والعَطْفُ يُمانِعُ في هَذا فَتَأمَّلْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب