الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ورَضُوا بِالحَياةِ الدُنْيا واطْمَأنُّوا بِها والَّذِينَ هم عن آياتِنا غافِلُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ مَأْواهُمُ النارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ في جَنّاتِ النَعِيمِ﴾ ﴿دَعْواهم فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وتَحِيَّتُهم فِيها سَلامٌ وآخِرُ دَعْواهم أنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ، وتابَعَهُ القُتَبِيُّ وغَيْرُهُ: "يَرْجُونَ" في هَذِهِ الآيَةِ بِمَعْنى يَخافُونَ، واحْتَجُّوا بِبَيْتِ أبِي ذُؤَيْبٍ: ؎ إذا لَسَعَتْهُ النَحْلُ لَمْ يَرُجْ لَسْعَها ∗∗∗ وخالَفَها في بَيْتِ نُوبٍ عَواسِلِ (p-٤٥٤)وَحَكى المَهْدَوِيُّ عن بَعْضِ أهْلِ اللُغَةِ -وَقالَ ابْنُ سِيدَهْ: هو الفَرّاءُ -: إنَّ لَفْظَةَ الرَجاءِ إذا جاءَتْ مَنفِيَّةً فَإنَّها تَكُونُ بِمَعْنى الخَوْفِ، وحُكِيَ عن بَعْضِهِمْ: إنَّها تَكُونُ بِمَعْناها في كُلِّ مَوْضِعٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ قَرائِنُ ما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ، فَعَلى هَذا التَأْوِيلِ مَعْنى الآيَةِ: "إنَّ الَّذِينَ لا يَخافُونَ لِقاءَنا". وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَذِهِ الآيَةُ في الكُفّارِ، وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: الرَجاءُ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى بابِهِ، وذَلِكَ أنَّ الكافِرَ المُكَذِّبَ بِالبَعْثِ لَيْسَ يَرْجُو رَحْمَةَ اللهِ في الآخِرَةِ، ولا يُحْسِنُ ظَنًّا بِأنَّهُ يَلْقى اللهَ، ولا لَهُ في الآخِرَةِ أمَلٌ، فَإنَّهُ لَوْ كانَ لَهُ فِيها أمَلٌ لَقارَنَهُ لا مَحالَةَ خَوْفٌ، وهَذِهِ الحالُ مِنَ الخَوْفِ المُقارِنِ هي القائِدَةُ مِنَ النَجاةِ، والَّذِي أقُولُ: إنَّ الرَجاءَ في كُلِّ مَوْضِعٍ عَلى بابِهِ، وإنَّ بَيْتَ الهُذَلِيِّ مَعْناهُ: لَمْ يَرُجْ فَقَدْ لَسَعَها فَهو يَبْنِي عَلَيْهِ ويَصْبِرُ إذْ يَعْلَمُ أنَّهُ لا بُدَّ مِنهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَرَضُوا بِالحَياةِ الدُنْيا﴾ يُرِيدُ: كانَتْ آخِرَ هَمِّهِمْ ومُنْتَهى غَرَضِهِمْ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ عن قَتادَةَ أنَّهُ قالَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: "إذا شِئْتَ رَأيْتَ هَذا المَوْصُوفَ، صاحِبَ دُنْيا، لَها يَغْضَبُ، ولَها يَرْضى، ولَها يَفْرَحُ، ولَها يَهْتَمُّ ويَحْزَنُ". فَكَأنَّ قَتادَةَ صَوَّرَها في العُصاةِ، ولا يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ إلّا مَعَ تَأوُّلِ الرَجاءِ عَلى بابِهِ، إذْ قَدْ يَكُونُ العاصِي المُجَلِّحُ مُسْتَوْحِشًا مِن آخِرَتِهِ، فَأمّا عَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ فَمَن لا يَخافُ لِقاءَ اللهِ فَهو كافِرٌ، وقَوْلُهُ: ﴿واطْمَأنُّوا بِها﴾ تَكْمِيلٌ في مَعْنى القَناعَةِ بِها والرَفْضِ لِغَيْرِها، لِأنَّ الطُمَأْنِينَةَ بِالشَيْءِ هي زَوالُ التَحَرُّكِ إلى غَيْرِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ هم عن آياتِنا غافِلُونَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ابْتِداءَ إشارَةٍ إلى فِرْقَةٍ أُخْرى مِنَ الكُفّارِ، وهَؤُلاءِ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- أضَلُّ صَفْقَةً لِأنَّهم لَيْسُوا أهْلَ دُنْيا بَلْ أهْلُ غَفْلَةٍ فَقَطْ، ثُمَّ حَتَّمَ عَلَيْهِمْ بِالنارِ، وجَعَلَها مَأْواهُمُ، وهو حَيْثُ يَأْوِي الإنْسانُ ويَسْتَقِرُّ، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ واجْتِراحِهِمْ، وفي هَذِهِ اللَفْظَةِ رَدٌّ عَلى الجَبْرِيَّةِ ونَصٌّ عَلى تَعَلُّقِ العِقابِ بِالتَكَسُّبِ الَّذِي لِلْإنْسانِ. (p-٤٥٥)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآيَةُ. لَمّا قَرَّرَ تَبارَكَ وتَعالى حالَةَ الفِرْقَةِ الهالِكَةِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حالَةِ الفِرْقَةِ الناجِيَةِ لِيَتَّضِحَ الطَرِيقانِ ويَرى الناظِرُ فَرْقَ ما بَيْنَ الهُدى والضَلالِ، وهَذا كُلُّهُ لُطْفٌ مِنهُ بِعِبادِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿يَهْدِيهِمْ﴾ لا يَتَرَتَّبُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: يُرْشِدُهم إلى الإيمانِ، لِأنَّهُ قَدْ قَرَّرَهم مُؤْمِنِينَ، فَإنَّما الهُدى في هَذِهِ الآيَةِ إنَّما عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ، إمّا أنْ يُرِيدَ أنَّهُ يُدِيمُهم ويُثَبِّتَهُمْ، كَما قالَ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمَنُوا﴾ [النساء: ١٣٦] فَإنَّما مَعْناهُ: اثْبُتُوا، وإمّا أنْ يُرِيدَ بِهِ: يُرْشِدُهم إلى طُرُقِ الجِنانِ في الآخِرَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿بِإيمانِهِمْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: بِسَبَبِ إيمانِهِمْ ويَكُونُ مُقابِلًا لِقَوْلِهِ قَبِلَ: ﴿مَأْواهُمُ النارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الإيمانُ هو نَفْسُ الهُدى، أيْ: يَهْدِيهِمْ إلى طُرُقِ الجَنَّةِ بِنُورِ إيمانِهِمْ، قالَ مُجاهِدٌ: يَكُونُ لَهم إيمانُهم نُورًا يَمْشُونَ بِهِ، ويَتَرَكَّبُ هَذا التَأْوِيلُ عَلى ما رُوِيَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ: « "إنَّ العَبْدَ المُؤْمِنَ إذا قامَ مِن قَبْرِهِ لِلْحَشْرِ تُمُثِّلَ لَهُ رَجُلٌ جَمِيلُ الوَجْهِ طَيِّبُ الرائِحَةِ، فَيَقُولُ: مَن أنْتَ؟ فَيَقُولُ: أنا عَمَلُكَ الصالِحُ فَيَقُودُهُ إلى الجَنَّةِ"،» وبِعَكْسِ هَذا في الكافِرِ، ونَحْوُ هَذا مِمّا أسْنَدَهُ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ. وقَوْلُهُ: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ﴾ يُرِيدُ؛ مِن تَحْتِ عِلِّيّاتِهِمْ وغُرَفِهِمْ، ولَيْسَ التَحْتُ الَّذِي هو بِالمُسامَتَةِ، بَلْ يَكُونُ مِن ناحِيَةِ الإنْسانِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ [مريم: ٢٤]، وكَما قالَ حِكايَةً عن فِرْعَوْنَ: ﴿وَهَذِهِ الأنْهارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾ [الزخرف: ٥١]. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿دَعْواهم فِيها﴾ الآيَةُ، الدَعْوى بِمَعْنى الدُعاءِ، يُقالُ: دَعا الرَجُلُ وادَّعى بِمَعْنًى واحِدٍ، قالَهُ سِيبَوَيْهِ: و﴿سُبْحانَكَ اللهُمَّ﴾ تَقْدِيسٌ وتَسْبِيحٌ وتَنْزِيهٌ لِجَلالِهِ عن كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِهِ، وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- في ذَلِكَ: "هِيَ (p-٤٥٦)كَلِماتٌ رَضِيَها اللهُ تَعالى لِنَفْسِهِ"، «وَقالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ما مَعْنى "سُبْحانَ اللهِ"؟ فَقالَ: "مَعْناها تَنْزِيهُ اللهِ مِنَ السُوءِ"،» وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ خِلافِ النُحاةِ في "اللهُمَّ"، وحُكِيَ عن بَعْضِ المُفَسِّرِينَ أنَّهم رَأوا أنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ إنَّما يَقُولُها المُؤْمِنُ في الجَنَّةِ عِنْدَما يَشْتَهِي الطَعامَ، فَإنَّهُ إذا رَأى طائِرًا أو غَيْرَ ذَلِكَ قالَ: "سُبْحانَكَ اللهُمَّ" فَنَزَلَتْ تِلْكَ الإرادَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَوْقَ ما اشْتَهى، رَواهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وسُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. وقَوْلُهُ: ﴿وَتَحِيَّتُهم فِيها سَلامٌ﴾ يُرِيدُ: تَسْلِيمُ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ، والتَحِيَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِن تَمَنِّي الحَياةِ لِلْإنْسانِ والدُعاءِ بِها، يُقالُ: حَيّاهُ يُحَيِّيهِ، ومِنهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ جَنابٍ: ؎ مِن كُلِّ ما نالَ الفَتى ∗∗∗ ∗∗∗ قَدْ نِلْتُهُ إلّا التَحَيَّهْ يُرِيدُ دُعاءَ الناسِ لِلْمُلُوكِ بِالحَياةِ، وقَدْ سُمِّيَ المَلِكُ تَحِيَّةً بِهَذا التَدْرِيجِ، ومِنهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيَكْرِبَ: ؎ أزُورُ أبا قابُوسَ حَتّى ∗∗∗ ∗∗∗ أُنِيخَ عَلى تَحِيَّتِهِ بِجُنْدِي أرادَ: عَلى مَمْلَكَتِهِ. وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ﴾ يُرِيدُ تَسْلِيمَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، والسَلامُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَلامَةِ. (p-٤٥٧)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَآخِرُ دَعْواهُمْ﴾ يُرِيدُ: وخاتِمَةُ دَعْواهم في كُلِّ مَوْطِنٍ وكَلامُهم شُكْرُ اللهِ تَعالى وحَمْدُهُ عَلى سابِغِ نِعَمِهِ، وكانَتْ بَدَأتُهم بِالتَنْزِيهِ والتَعْظِيمِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "أنِ الحَمْدُ لِلَّهِ" وهي عِنْدَ سِيبَوَيْهِ "أنْ" المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَقِيلَةِ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وبِلالُ بْنُ أبِي بُرْدَةَ، ويَعْقُوبُ، وأبُو حَيَوَةَ: "أنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ"، وهي -عَلى الوَجْهَيْنِ- رَفْعٌ عَلى خَبَرِ الِابْتِداءِ، قالَ أبُو الفَتْحِ: هَذِهِ القِراءَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ قِراءَةَ الجَماعَةِ هي "أنَّ" المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَقِيلَةِ بِمَنزِلَةِ قَوْلِ الأعْشى: ؎ في فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ∗∗∗ ∗∗∗ أنْ هالِكٌ كُلُّ مَن يَحْفى ويَنْتَعِلُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب