الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُنْيا وفي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ ﴿وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهم إنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هو السَمِيعُ العَلِيمُ﴾ ﴿ألا إنَّ لِلَّهِ مَن في السَماواتِ ومَن في الأرْضِ وما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَن دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إنَّ يَتَّبِعُونَ إلا الظَنَّ وإنْ هم إلا يَخْرُصُونَ﴾ أمّا بُشْرى الآخِرَةِ فَهي بِالجَنَّةِ قَوْلًا واحِدًا، وتِلْكَ هي الفَضْلُ الكَبِيرُ الَّذِي في قَوْلِهِ: (p-٤٩٩)﴿وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأنَّ لَهم مِنَ اللهِ فَضْلا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٧]، وأمّا بُشْرى الدُنْيا فَتَظاهَرَتِ الأحادِيثُ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّها الرُؤْيا الصالِحَةُ يَراها المُؤْمِنُ أو تُرى لَهُ، رَوى ذَلِكَ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أبُو الدَرْداءِ، وعِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاسٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنهم جَمِيعًا-، وغَيْرُهم عَلى أنَّهُ سُئِلَ عن ذَلِكَ فَفَسَّرَهُ بِالرُؤْيا، وعَنِ النَبِيِّ ﷺ في صَحِيحٍ مُسْلِمٍ أنَّهُ قالَ: «لَمْ يَبْقَ مِنَ المُبَشِّراتِ إلّا الرُؤْيا الصالِحَةُ،» ورَوَتْ عنهُ أمُّ كِنْدٍ الكَعْبِيَّةُ أنَّهُ قالَ: « "ذَهَبَتِ النُبُوءَةُ وبَقِيَتِ المُبَشِّراتُ"»، وقالَ قَتادَةُ، والضَحّاكُ: البُشْرى في الدُنْيا هي ما يُبَشَّرُ بِهِ المُؤْمِنُ عِنْدَ مَوْتِهِ وهو حَيٌّ عِنْدَ المُعايَنَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ بُشْرى الدُنْيا ما في القُرْآنِ مِنَ الآياتِ المُبَشِّراتِ، ويُقَوّى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ﴾ وإنْ كانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يُعارِضُهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: "هِيَ الرُؤْيا" إلّا إنْ قُلْنا: إنَّ النَبِيَّ ﷺ أعْطى مِثالًا مِنَ البُشْرى، وهي تَعُمُّ جَمِيعَ الناسِ، وقَوْلُهُ: ﴿لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ﴾ يُرِيدُ: لا خُلْفَ لِمَواعِيدِهِ ولا رَدَّ في أمْرِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ أخَذَ ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما عَلى نَحْوٍ غَيْرِ هَذا، وجَعَلَ التَبْدِيلَ المَنفِيَّ في الألْفاظِ، وذَلِكَ أنَّهُ رُوِيَ أنَّ الحَجّاجَ بْنَ يُوسُفَ خَطَبَ فَأطالَ خُطْبَتَهُ حَتّى قالَ: إنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُبَيْرِ قَدْ بَدَّلَ كِتابَ اللهِ، فَقالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: إنَّكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ أنْتَ ولا ابْنُ الزُبَيْرِ ﴿لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ﴾، فَقالَ لَهُ الحَجّاجُ: لَقَدْ أُعْطِيتَ (p-٥٠٠)عِلْمًا، فَلَمّا انْصَرَفَ إلَيْهِ في خاصَّتِهِ سَكَتَ عنهُ، وقَدْ رُوِيَ هَذا النَظَرُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في غَيْرِ مُقاوَلَةِ الحَجّاجِ، ذَكَرَهُ البُخارِيُّ. وقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ إشارَةٌ إلى النَعِيمِ الَّذِي بِهِ وقَعَتِ البُشْرى. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا يَحْزُنْكَ﴾ الآيَةُ. هَذِهِ آيَةُ تَسْلِيَةٍ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، والمَعْنى: ولا يَحْزُنْكَ يا مُحَمَّدُ ويُهِمُّكَ قَوْلُهُمْ، أيْ قَوْلُ كُفّارِ قُرَيْشٍ، ولَفْظَةُ "القَوْلِ" تَعُمُّ جُحُودَهم واسْتِهْزاءَهم وخِداعَهم وغَيْرَ ذَلِكَ. ثُمَّ ابْتَدَأ بِوُجُوبِ أنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، أيْ: فَهم لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ ولا يُؤْذُونَكَ إلّا بِما شاءَ اللهُ، وهو القادِرُ عَلى عِقابِهِمْ، لا يُعازُّهُ شَيْءٌ، فَفي الآيَةِ وعِيدٌ لَهم. وكَسْرُ "إنَّ" في الِابْتِداءِ ولا ارْتِباطَ لَها بِالقَوْلِ المُتَقَدِّمِ لَها. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لا يَجُوزُ فَتْحُ "إنَّ" في هَذا المَوْضِعِ وهو كُفْرٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَوْلُهُ: "وَهُوَ كُفْرٌ" غُلُوٌّ، وكَأنَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ عَلى تَقْدِيرِ: لِأجْلِ أنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ. وقَوْلُهُ: ﴿هُوَ السَمِيعُ﴾ أيْ لِجَمِيعِ ما يَقُولُونَهُ، ﴿العَلِيمُ﴾ بِما في نُفُوسِهِمْ مِن ذَلِكَ، وفي ضِمْنِ هَذِهِ الصِفاتِ تَهْدِيدٌ. ثُمَّ اسْتَفْتَحَ بِقَوْلِهِ: ﴿ألا إنَّ لِلَّهِ مَن في السَماواتِ ومَن في الأرْضِ﴾ أيْ بِالمِلْكِ والإحاطَةِ، وغَلَّبَ مَن يَعْقِلُ في قَوْلِهِ: "مَن" إذْ لَهُ مُلْكُ الجَمِيعِ ما فِيها ومَن فِيها، وإذْ جاءَتِ العِبارَةُ بِما فَذَلِكَ تَغْلِيبٌ لِلْكَثْرَةِ، إذِ الأكْثَرُ عَدَدًا مِنَ المَخْلُوقاتِ لا يَعْقِلُ، فَـ"مَن" تَقَعُ لِلصِّنْفَيْنِ بِمَجْمُوعِهِما، و"ما" كَذَلِكَ"، ولا تَقَعُ لِما يَعْقِلُ إذا تَجَرَّدَ مِنَ الصِفاتِ والأحْوالِ، ألا تَرى لَوْ ذَكَرْتُ لَكَ قَوْلَةً في مَسْألَةٍ فَأرَدْتَ أنْ تَسْألَ عن قائِلِها، أيَجُوزُ في كَلامِ العَرَبِ أنْ تَقُولَ: "ما قائِلُ هَذا القَوْلِ؟" هَذا ما يَتَقَلَّدُهُ مَن يَفْهَمُ كَلامَ العَرَبِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَما يَتَّبِعُ﴾ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ "ما" اسْتِفْهامًا بِمَعْنى التَقْرِيرِ وتَوْقِيفِ نَظَرِ المُخاطَبِ، ويَعْمَلُ "يَدْعُونَ" في قَوْلِهِ: "شُرَكاءَ". ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ نافِيَةً (p-٥٠١)وَيَعْمَلُ "يَتَّبِعُ" في "شُرَكاءَ" عَلى مَعْنى أنَّهم لا يَتَّبِعُونَ شُرَكاءَ حَقًّا، ويَكُونُ مَفْعُولُ "يَدْعُونَ" مَحْذُوفًا، وفي هَذا الوَجْهِ عِنْدِي تَكَلُّفٌ. وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ السُلَمِيُّ: "تَدْعُونَ" بِالتاءِ، وهي قِراءَةٌ غَيْرُ مُتَّجِهَةٍ، وقَوْلُهُ: "إنْ" نافِيَةٌ، و"يَخْرُصُونَ" مَعْناهُ: يَحْدِسُونَ ويُخَمِّنُونَ، لا يَقُولُونَ بِقِياسٍ ولا نَظَرٍ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَلا يُحْزِنْكَ" مِن أحْزَنَ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَلا يَحْزُنْكَ" مِن حَزَنَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب