الباحث القرآني
(p-٤٩٦)قوله عزّ وجلّ:
﴿وَما تَكُونُ في شَأْنٍ وما تَتْلُو مِنهُ مِن قُرْآنٍ ولا تَعْمَلُونَ مِن عَمَلٍ إلا كُنّا عَلَيْكم شُهُودًا إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وما يَعْزُبُ عن رَبِّكَ مِن مِثْقالِ ذَرَّةٍ في الأرْضِ ولا في السَماءِ ولا أصْغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أكْبَرَ إلا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ ﴿ألا إنَّ أولِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾
قَصْدُ الآيَةِ وصْفُ إحاطَةِ اللهِ بِكُلِّ شَيْءٍ، ومَعْنى اللَفْظِ: وما تَكُونُ يا مُحَمَّدُ -والمُرادُ هو وغَيْرُهُ- في شَأْنٍ مِن جَمِيعِ الشُؤُونِ، ﴿وَما تَتْلُو مِنهُ﴾ الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى "شَأْنٍ" أيْ فِيهِ وبِسَبَبِهِ مِن قُرْآنٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ عَلى جَمِيعِ القُرْآنِ، ثُمَّ عَمَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَعْمَلُونَ مِن عَمَلٍ﴾، وفي قَوْلِهِ: ﴿إلا كُنّا عَلَيْكم شُهُودًا﴾ تَحْذِيرٌ وتَنْبِيهٌ، و﴿تُفِيضُونَ﴾: تَأْخُذُونَ وتَنْهَضُونَ بِجِدٍّ، يُقالُ: أفاضَ الرَجُلُ في سَيْرِهِ وفي حَدِيثِهِ، ومِنهُ الإفاضَةُ في الحَجِّ، ومُفِيضُ القِداحِ، ويُحْتَمَلُ أنَّ "فاضَ" عُدِّيَ بِالهَمْزَةِ.
و"يَعْزُبُ" مَعْناهُ: يَغِيبُ حَتّى يَخْفى، حَتّى قالُوا لِلْبَعِيدِ: عازِبٌ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ عَوازِبُ لَمْ تَسْمَعْ نُبُوحَ مُقامَةٍ ∗∗∗ ولَمْ تَرَ نارًا تِمَّ حَوْلٍ مُجَرَّمِ
وقِيلَ لِلْغائِبِ عن أهْلِهِ: عازِبٌ، حَتّى قالُوهُ لِمَن لا زَوْجَةَ لَهُ، وفي السِيَرِ أنَّ بَيْتَ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ كانَ يُقالُ لَهُ: بَيْتُ العُزّابِ، وقَرَأ جُمْهُورُ السَبْعَةِ، والناسُ: "يَعْزُبُ" بِضَمِّ الزايِ، وقَرَأ الكِسائِيُّ وحْدَهُ مِنهُمْ: "يَعْزِبُ" بِكَسْرِها، وهي قِراءَةُ ابْنِ وثّابٍ، والأعْمَشُ، وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، قالَ أبُو حاتِمٍ: القِراءَةُ بِالضَمِّ والكَسْرِ لُغَةٌ. والمِثْقالُ: الوَزْنُ، وهو اسْمٌ لا صِفَةٌ كَمِعْطارٍ ومِضْرابٍ، والذَرُّ: صِغارُ النَمْلِ، جَعَلَها اللهُ مِثالًا إذْ لا يُعْرَفُ في الحَيَوانِ المُتَغَذِّي المُتَناسِلِ المَشْهُورِ النَوْعِ والمَوْضِعِ أصْغَرُ مِنهُ. وقَرَأ (p-٤٩٧)جُمْهُورُ الناسِ، وأكْثَرُ السَبْعَةِ: "وَلا أصْغَرَ" "وَلا أكْبَرَ" بِفَتْحِ الراءِ عَطْفًا عَلى "ذَرَّةٍ" في مَوْضِعِ خَفْضٍ لَكِنْ مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ امْتِناعُ الصَرْفِ، وقَرَأ حَمْزَةُ وحْدَهُ: "وَلا أصْغَرُ" "وَلا أكْبَرُ" عَطْفًا عَلى مَوْضِعِ قَوْلِهِ: "مِثْقالِ"، لِأنَّ التَقْدِيرَ: وما يَعْزُبُ عن رَبِّكِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ، والكِتابُ المُبِينُ: اللَوْحُ المَحْفُوظُ، كَذا قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ تَحْصِيلَ الكَتَبَةِ، ويَكُونُ القَصْدُ ذِكْرَ الأعْمالِ المَذْكُورَةِ قَبْلُ، وتَقْدِيمُ الأصْغَرِ في التَرْتِيبِ جَرى عَلى قَوْلِهِمُ:القَمَرَيْنِ والعُمَرَيْنِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً﴾ [الكهف: ٤٩]، والقَصْدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ تَنْبِيهُ الأقَلِّ، وأنَّ الحُكْمَ المَقْصُودَ إذا وقَعَ عَلى الأقَلِّ فَأحْرى أنْ يَقَعَ عَلى الأعْظَمِ.
و"ألا" اسْتِفْتاحٌ وتَنْبِيهٌ، وأولِياءُ اللهِ هُمُ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ والَوْهُ بِالطاعَةِ والعِبادَةِ، وهَذِهِ الآيَةُ يُعْطِي ظاهِرُها أنَّ مَن آمَنَ واتَّقى فَهو داخِلٌ في أولِياءِ اللهِ، وهَذا هو الَّذِي تَقْتَضِيهِ الشَرِيعَةُ في الوَلِيِّ، وإنَّما نَبَّهْنا هَذا التَنْبِيهَ حَذَرًا مِن بَعْضِ الوَصْفِيَّةِ وبَعْضِ المُلْحِدِينَ في الوَلِيِّ، ورُوِيَ «عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ سُئِلَ: عن أولِياءِ اللهِ؟ فَقالَ: "الَّذِينَ إذا رَأيْتَهم ذَكَرْتَ اللهَ".»
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا وصْفٌ لازِمٌ لِلْمُتَّقِينَ لِأنَّهم يَخْشَعُونَ ويُخْشِعُونَ، ورُوِيَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أيْضًا أنَّهُ قالَ:« "أولِياءُ اللهِ قَوْمٌ تَحابُّوا في اللهِ واجْتَمَعُوا في ذاتِهِ، لَمْ تَجْمَعْهم قَرابَةٌ ولا مالٌ يَتَعاطَوْنَهُ".» وقَوْلُهُ: ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في الآخِرَةِ، أيْ: لا يَهْتَمُّونَ بِهَمِّها، ولا يَخافُونَ عَذابًا ولا عِقابًا ولا يَحْزَنُونَ لِذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ (p-٤٩٨)يَكُونُ ذَلِكَ في الدُنْيا، أيْ: لا يَخافُونَ أحَدًا مِن أهْلِ الدُنْيا ولا مِن أعْراضِها، ولا يَحْزَنُونَ عَلى ما فاتَهم مِنها، والأوَّلُ أظْهَرُ، والعُمُومُ في ذَلِكَ صَحِيحٌ، لا يَخافُونَ في الآخِرَةِ جُمْلَةً، ولا في الدُنْيا الخَوْفَ الدُنْيَوِيَّ الَّذِي هو في فَوْتِ آمالِها، وزَوالِ مَنازِلِها، وكَذَلِكَ في الحُزْنِ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ عن جَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ مِثْلَ ما في الحَدِيثِ مِنَ الأولِياءِ الَّذِينَ إذا رَآهم أحَدٌ ذَكَرَ اللهَ، ورُوِيَ فِيهِمْ حَدِيثٌ: « "إنَّ أولِياءَ اللهِ هم قَوْمٌ يَتَحابُّونَ في اللهِ، وتُجْعَلُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ مَنابِرُ مِن نُورٍ، وتُنِيرُ وُجُوهُهُمْ، فَهم في عَرْصَةِ القِيامَةِ لا يَخافُونَ ولا يَحْزَنُونَ"». ورُوِيَ «عن عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: "إنَّ مِن عِبادِ اللهِ عِبادًا ما هم بِأنْبِياءَ ولا شُهَداءَ، يَغْبِطُهُمُ الأنْبِياءُ والشُهَداءُ بِمَكانِهِمْ مِنَ اللهِ، قالُوا: ومَن هم يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: "قَوْمٌ تَحابُّوا بِرُوحِ اللهِ عَلى غَيْرِ أرْحامٍ ولا أمْوالٍ" الحَدِيثُ، ثُمَّ قَرَأ: ﴿ألا إنَّ أولِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾».
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى البَدَلِ مِنَ "الأولِياءِ". ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ عَلى تَقْدِيرِ: "هُمُ الَّذِينَ"، وكَثِيرًا ما يُفْعَلُ ذَلِكَ بِنَعْتِ ما عَمِلَتْ فِيهِ "إنَّ" إذا جاءَ بَعْدَ خَبَرِها، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ "الَّذِينَ" ابْتِداءً وخَبَرُهُ في قَوْلِهِ: ( هُمُ البُشْرى )، وقَوْلُهُ: ﴿وَكانُوا يَتَّقُونَ﴾ لَفْظٌ عامٌّ في تَقْوى الشِرْكِ والمَعاصِي.
{"ayahs_start":61,"ayahs":["وَمَا تَكُونُ فِی شَأۡنࣲ وَمَا تَتۡلُوا۟ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانࣲ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَیۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِیضُونَ فِیهِۚ وَمَا یَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ وَلَاۤ أَصۡغَرَ مِن ذَ ٰلِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرَ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینٍ","أَلَاۤ إِنَّ أَوۡلِیَاۤءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ","ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَكَانُوا۟ یَتَّقُونَ"],"ayah":"وَمَا تَكُونُ فِی شَأۡنࣲ وَمَا تَتۡلُوا۟ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانࣲ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَیۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِیضُونَ فِیهِۚ وَمَا یَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ وَلَاۤ أَصۡغَرَ مِن ذَ ٰلِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرَ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق