الباحث القرآني

(p-٤٥١)قوله عزّ وجلّ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَمْسَ ضِياءً والقَمَرَ نُورًا وقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِنِينَ والحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إلا بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿إنَّ في اخْتِلافِ اللَيْلِ والنَهارِ وما خَلَقَ اللهُ في السَماواتِ والأرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ هَذا اسْتِمْرارٌ عَلى وصْفِ آياتِ اللهِ والتَنْبِيهِ عَلى صَنْعَتِهِ الدالَّةِ عَلى الصانِعِ، وهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي أنَّ الضِياءَ أعْظَمُ مِنَ النُورِ وأبْهى بِحَسَبِ الشَمْسِ والقَمَرِ، ويَلْحَقُ هاهُنا اعْتِراضٌ وهو أنّا وجَدْنا اللهَ تَعالى شَبَّهَ هُداهُ ولُطْفَهُ بِخَلْقِهِ بِالنُورِ، فَقالَ: ﴿اللهُ نُورُ السَماواتِ والأرْضِ﴾ [النور: ٣٥]، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ النُورَ أعْظَمُ هَذِهِ الأشْياءِ وأبْلَغُها في الشُرُوقِ، وإلّا فَلِمَ تُرِكَ التَشْبِيهُ الأعْلى الَّذِي هو الضِياءُ وعُدِلَ إلى الأقَلِّ الَّذِي هو النُورُ؟ فالجَوابُ عن هَذا والِانْفِصالُ أنْ تَقُولَ: إنَّ لَفْظَةَ النُورِ أحْكَمُ وأبْلَغُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿اللهُ نُورُ السَماواتِ والأرْضِ﴾ [النور: ٣٥] وذَلِكَ أنَّهُ تَعالى شَبَّهَ هُداهُ ولُطْفَهُ الَّذِي نَصَبَهُ لِقَوْمٍ يَهْتَدُونَ وآخَرِينَ يَضِلُّونَ مَعَهُ بِالنُورِ الَّذِي هو أبَدًا مَوْجُودٌ في اللَيْلِ وأثْناءَ الظَلامِ، ولَوْ شَبَّهَهُ بِالضِياءِ لَوَجَبَ ألّا يَضِلَّ أحَدٌ إذْ كانَ الهُدى يَكُونُ مِثْلَ الشَمْسِ الَّتِي لا تَبْقى مَعَها ظُلْمَةٌ، فَمَعْنى الآيَةِ: أنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى قَدْ جَعَلَ هُداهُ في الكُفْرِ كالنُورِ في الظَلامِ فَيَهْتَدِي قَوْمٌ ويَضِلُّ آخَرُونَ، ولَوْ جَعَلَهُ كالضِياءِ لَوَجَبَ ألّا يَضِلَّ أحَدٌ، وبَقِيَ الضِياءُ عَلى هَذا الِانْفِصالِ أبْلَغَ في الشُرُوقِ كَما اقْتَضَتْ آيَتُنا هَذِهِ، واللهُ عَزَّ وجَلَّ هو ضِياءُ السَماواتِ والأرْضِ ونُورُها وقَيُّومُها، ويُحْتَمَلُ أنْ يُعْتَرَضَ هَذا الِانْفِصالُ، واللهُ المُسْتَعانُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ﴾ يُرِيدُ البُرُوجَ المَذْكُورَةَ في غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ. وأمّا الضَمِيرُ الَّذِي رَدَّهُ عَلى القَمَرِ وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الشَمْسِ مَعَهُ فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالضَمِيرِ القَمَرَ وحْدَهُ لِأنَّهُ هو المُراعى في مَعْرِفَةِ عَدَدِ السِنِينَ والحِسابِ عِنْدَ العَرَبِ، لَكِنَّهُ اجْتَزَأ بِذِكْرِ (p-٤٥٢)الواحِدِ كَما قالَ: ﴿واللهُ ورَسُولُهُ أحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢]، وكَما قالَ الشاعِرُ: ؎ رَمانِي بِذَنْبٍ كُنْتُ مِنهُ ووالِدِي ∗∗∗ بَرِيئًا، ومِن أجْلِ الطَوِيِّ رَمانِي قالَ الزَجّاجُ: وكَما قالَ الآخَرُ: ؎ نَحْنُ بِما عِنْدَنا وأنْتَ بِما ∗∗∗ ∗∗∗ عِنْدَكَ راضٍ والرَأْيُ مُخْتَلِفٌ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِتَعْلَمُوا﴾ المَعْنى: قُدَّرَ هَذَيْنِ النَيِّرَيْنِ مَنازِلَ لِكَيْ تَعْلَمُوا بِها عَدَدَ السِنِينَ والحِسابَ رِفْقًا بِكُمْ، ورَفْعًا لِلِالتِباسِ في مَعاشِكم وتَجْرِكم وإجاراتِكِمْ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يُضْطَرُّ فِيهِ إلى مَعْرِفَةِ التَوارِيخِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إلا بِالحَقِّ﴾ أيْ لِلْفائِدَةِ لا لِلَّعِبِ والإهْمالِ، فَهي إذًا يَحِقُّ أنْ تَكُونَ كَما هي. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ: "يُفَصِّلُ الآياتِ"، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ أيْضًا، وعاصِمٌ، والباقُونَ، والأعْرَجُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، وأهْلُ مَكَّةَ، والحَسَنُ، والأعْمَشُ: "نُفَصِّلُ" بِنُونِ العَظَمَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ إنَّما خَصَّهم لِأنَّ نَفْعَ التَفْصِيلِ فِيهِمْ ظَهَرَ وعَلَيْهِمْ أضاءَ (p-٤٥٣)وَإنْ كانَ التَفْصِيلُ إنَّما وقَعَ مُجْمَلًا لِلْكُلِّ مُعَدًّا لِيُحَصِّلَهُ الجَمِيعُ. وقَرَأ جُمْهُورُ السَبْعَةِ، وقَدْ رُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: "ضِياءً"، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحْدَهُ فِيما رُوِيَ أيْضًا عنهُ: "ضِئاءً" بِهَمْزَتَيْنِ، وأصْلُهُ ضِياءٌ فَقُلِبَتْ، فَجاءَتْ "ضِئاءًا"، فَقُلِبَتِ الياءُ هَمْزَةً لِوُقُوعِها بَيْنَ ألِفَيْنِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهي غَلَطٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ في اخْتِلافِ اللَيْلِ والنَهارِ﴾ الآيَةُ، آيَةُ اعْتِبارٍ وتَنْبِيهٍ، ولَفْظَةُ (الِاخْتِلافِ) تَعُمُّ تَعاقُبَ اللَيْلِ والنَهارِ وكَوْنَهُما خَلْفَهُ وما يَتَعاوَرانِهِ مِنَ الزِيادَةِ والنَقْصِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن لَواحِقِ سَيْرِ الشَمْسِ وبِحَسَبِ أقْطارِ الأرْضِ، قَوْلُهُ: ﴿وَما خَلَقَ اللهُ في السَماواتِ والأرْضِ﴾ لَفْظٌ عامٌّ لِجَمِيعِ المَخْلُوقاتِ، والآياتُ: العَلاماتُ والدَلائِلُ، وخَصَّصَ القَوْمَ المُتَّقِينَ تَشْرِيفًا لَهم إذِ الِاعْتِبارُ فِيهِمْ يَقَعُ، ونِسْبَتُهم إلى هَذِهِ الأشْياءِ المَنظُورِ فِيها أفْضَلُ مِن نِسْبَةِ مَن لَمْ يَهْتَدِ ولا اتَّقى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب