الباحث القرآني
(p-٤٨٤)قوله عزّ وجلّ:
﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظالِمِينَ﴾ ﴿وَمِنهم مَن يُؤْمِنُ بِهِ ومِنهم مَن لا يُؤْمِنُ بِهِ ورَبُّكَ أعْلَمُ بِالمُفْسِدِينَ﴾ ﴿وَإنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي ولَكم عَمَلُكم أنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أعْمَلُ وأنا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ ﴿وَمِنهم مَن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُمَّ ولَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ﴾ ﴿وَمِنهم مَن يَنْظُرُ إلَيْكَ أفَأنْتَ تَهْدِي العُمْيَ ولَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ﴾
المَعْنى: لَيْسَ الأمْرُ كَما قالُوا في أنَّهُ مُفْتَرًى، ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾، وهَذا اللَفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ؛ أحَدُهُما: أنْ يُرِيدَ بِها الوَعِيدَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عَلى الكُفْرِ، و"تَأْوِيلُهُ" -عَلى هَذا- يُرادُ بِهِ ما يَؤُولُ إلَيْهِ أمْرُهُ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا تَأْوِيلَهُ﴾ [الأعراف: ٥٣]، والآيَةُ بِجُمْلَتِها -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- تَتَضَمَّنُ وعِيدًا، والمَعْنى الثانِي: أنَّهُ أرادَ: بَلْ كَذَّبُوا بِهَذا القُرْآنِ العَظِيمِ المُنَبِّئِ بِالغُيُوبِ الَّذِي لَمْ تَتَقَدَّمْ لَهم بِهِ مَعْرِفَةٌ، ولا أحاطُوا بِعِلْمِ غُيُوبِهِ وحُسْنِ نَظْمِهِ، ولا جاءَهم تَفْسِيرُ ذَلِكَ وبَيانُهُ. و﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ يُرِيدُ مَن سَلَفَ مِن أُمَمِ الأنْبِياءِ، قالَ الزَجّاجُ: "كَيْفَ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى خَبَرِ "كانَ"، ولا يَجُوزُ أنْ يَعْمَلَ فِيها "فانْظُرْ" لِأنَّ ما قَبْلَ الِاسْتِفْهامِ لا يَعْمَلُ فِيهِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
هَذا قانُونُ النَحْوِيِّينَ لِأنَّهم عامَلُوا "كَيْفَ" في كُلِّ مَكانٍ مُعامَلَةَ الِاسْتِفْهامِ المَحْضِ في قَوْلِكَ: "كَيْفَ زَيْدٌ؟"، ولِـ "كَيْفَ" تَصَرُّفاتٌ غَيْرُ هَذا، تَحُلُّ مَحَلَّ المَصْدَرِ الَّذِي هو "كَيْفِيَّةُ" وتُخْلَعُ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ، ويُحْتَمَلُ هَذا أنْ يَكُونَ مِنها، ومِن تَصَرُّفاتِها قَوْلُهُمْ: "كُنْ كَيْفَ شِئْتَ"، وانْظُرْ قَوْلَ البُخارِيِّ: "كَيْفَ كانَ بَدْءُ الوَحْيِ"، فَإنَّهُ لَمْ يَسْتَفْهِمْ. (p-٤٨٥)وَذُكِّرَ الفِعْلُ المُسْنَدُ إلى "العاقِبَةِ" لَمّا كانَتْ بِمَعْنى المَآلِ ونَحْوِهِ، ولَيْسَ تَأْنِيثُها بِحَقِيقِيٍّ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنهم مَن يُؤْمِنُ بِهِ﴾ الآيَةُ، الضَمِيرُ في "وَمِنهُمْ" عائِدٌ عَلى قُرَيْشٍ، ولِهَذا الكَلامِ مَعْنَيانِ: قالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: مِن هَؤُلاءِ القَوْمِ مَن سَيُؤْمِنُ في المُسْتَقْبَلِ، ومِنهم مَن حَتَّمَ اللهُ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ بِهِ أبَدًا، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: مِن هَؤُلاءِ القَوْمِ مَن هو مُؤْمِنٌ بِهَذا الرَسُولِ إلّا أنَّهُ يَكْتُمُ إيمانَهُ وعِلْمَهُ بِأنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ وإعْجازَ القُرْآنِ حَقٌّ، حِفْظًا لِرِياسَتِهِ أو خَوْفًا مِن قَوْمِهِ، كالفِتْيَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا إلى بَدْرٍ مَعَ الكُفّارِ فَقُتِلُوا فَنَزَلَ فِيهِمْ: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ﴾ [النساء: ٩٧]، وكالعَبّاسِ ونَحْوِ هَذا، ومِنهم مَن لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وفائِدَةُ الآيَةِ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- التَفَرُّقُ لِكَلِمَةِ الكُفّارِ، وإضْعافُ نُفُوسِهِمْ، وأنْ يَكُونَ بَعْضُهم عَلى وجَلٍ مِن بَعْضٍ. وفي قَوْلِهِ: ﴿وَرَبُّكَ أعْلَمُ بِالمُفْسِدِينَ﴾ تَهْدِيدٌ ووَعِيدٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ كَذَّبُوكَ﴾ آيَةُ مُناجَزَةٍ لَهم ومُتارَكَةٍ، وفي ضِمْنِها وعِيدٌ وتَهْدِيدٌ، وهَذِهِ الآيَةُ نَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ﴾ [الكافرون: ١] إلى آخِرِ السُورَةِ، وقالَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ مِنهُمُ ابْنُ زَيْدٍ: هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِالقِتالِ لِأنَّ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ، وهَذا صَحِيحٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنهم مَن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ﴾، جَمَعَ "يَسْتَمِعُونَ" عَلى مَعْنى "مَن" لا عَلى لَفْظِها، ومَعْنى الآيَةِ: ومِن هَؤُلاءِ الكُفّارِ مَن يَسْتَمِعُ إلى ما يَأْتِي بِهِ مِنَ القُرْآنِ (p-٤٨٦)بِإذْنِهِ، ولَكِنَّهُ حِينَ لا يُؤْمِنُ ولا يُحَصِّلُ فَكَأنَّهُ لا يَسْمَعُ، ثُمَّ قالَ عَلى وجْهِ التَسْلِيَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أفَأنْتَ يا مُحَمَّدُ تُرِيدُ أنْ تُسْمِعَ الصُمَّ؟ أيْ: لا تَكْتَرِثْ بِذَلِكَ، وقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ﴾ مَعْناهُ: ولَوْ كانُوا مِن أشَدِّ حالاتِ الأصَمِّ، لِأنَّ الأصَمَّ الَّذِي لا يَسْمَعُ شَيْئًا بِحالٍ، فَذَلِكَ لا يَكُونُ في الأغْلَبِ إلّا مَعَ فَسادِ العَقْلِ والدِماغِ، فَلا سَبِيلَ أنْ يَعْقِلَ حُجَّةً ولا دَلِيلًا أبَدًا، و"وَلَوْ" هَذِهِ بِمَعْنى "إنْ"، وهَذا تَوْقِيفٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ أيِ: الزَمْ نَفْسَكَ هَذا.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنهم مَن يَنْظُرُ إلَيْكَ﴾ الآيَةُ، هي نَحْوُ الأُولى في المَعْنى، وجاءَ "يَنْظُرُ" عَلى لَفْظِ "مَن"، وإذا جاءَ الفِعْلُ عَلى لَفْظِها فَجائِزٌ أنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ آخَرُ عَلى المَعْنى، وإذا جاءَ أوَّلًا عَلى مَعْناها فَلا يَجُوزُ أنْ يُعْطَفَ آخَرُ عَلى اللَفْظِ، لِأنَّ الكَلامَ يُلْبِسُ حِينَئِذٍ، وهَذِهِ الآيَةُ نَحْوُ الأُولى في المَعْنى كَأنَّهُ قالَ: ومِنهم مَن يَنْظُرُ إلَيْكَ بِبَصَرِهِ، لَكِنَّهُ لا يَعْتَبِرُ ولا يَنْظُرُ بِبَصِيرَتِهِ، فَهو لِذَلِكَ كالأعْمى، فَهَوِّنْ ذَلِكَ عَلَيْكَ، أفَتُرِيدُ أنْ تَهْدِيَ العُمْيَ والهِدايَةُ أجْمَعُ بِيَدِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
{"ayahs_start":39,"ayahs":["بَلۡ كَذَّبُوا۟ بِمَا لَمۡ یُحِیطُوا۟ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا یَأۡتِهِمۡ تَأۡوِیلُهُۥۚ كَذَ ٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِینَ","وَمِنۡهُم مَّن یُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا یُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِینَ","وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّی عَمَلِی وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِیۤـُٔونَ مِمَّاۤ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ","وَمِنۡهُم مَّن یَسۡتَمِعُونَ إِلَیۡكَۚ أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوۡ كَانُوا۟ لَا یَعۡقِلُونَ","وَمِنۡهُم مَّن یَنظُرُ إِلَیۡكَۚ أَفَأَنتَ تَهۡدِی ٱلۡعُمۡیَ وَلَوۡ كَانُوا۟ لَا یُبۡصِرُونَ"],"ayah":"وَمِنۡهُم مَّن یَسۡتَمِعُونَ إِلَیۡكَۚ أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوۡ كَانُوا۟ لَا یَعۡقِلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق