الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكم مَن السَماءِ والأرْضِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَمْعَ والأبْصارَ ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مَن المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتِ مَن الحَيَّ ومَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ ﴿فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَماذا بَعْدَ الحَقُّ إلا الضَلالُ فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾ ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلى الَّذِينَ فَسَقُوا أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ هَذا تَوْقِيفٌ وتَوْبِيخٌ واحْتِجاجٌ لا مَحِيدَ عَنِ التِزامِهِ، و﴿مِنَ السَماءِ﴾ يُرِيدُ: المَطَرَ، ﴿والأرْضِ﴾ يُرِيدُ: بِالإنْباتِ ونَحْوِ ذَلِكَ، و﴿يَمْلِكُ السَمْعَ والأبْصارَ﴾ لَفْظٌ يَعُمُّ جُمْلَةَ الإنْسانِ ومُعْظَمَهُ حَتّى أنَّ ما عَداهُما تَبَعٌ، و﴿يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ﴾ الجَنِينُ مِنَ النُطْفَةِ، والطائِرُ مِنَ البَيْضَةِ، والنَباتُ مِنَ الأرْضِ، إذْ لَهُ نُمُوَّ شَبِيهٌ بِالحَياةِ. ﴿وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ﴾ مِثْلُ البَيْضَةِ مِنَ الطائِرِ ونَحْوِ ذَلِكَ، وقَدْ تَقَدَّمَ فِيما سَلَفَ إيعابُ القَوْلِ في هَذِهِ المَعانِي، وتَدْبِيرُ الأمْرِ عامٌّ لِهَذا وغَيْرِهِ مِن جَمِيعِ الأشْياءِ، وذَلِكَ اسْتِقامَةُ الأُمُورِ كُلِّها عن إرادَتِهِ عَزَّ وجَلَّ، ولَيْسَ تَدْبِيرُهُ بِفِكْرٍ ولا رَوِيَّةٍ وتَغَيُّراتٍ، تَعالى عن ذَلِكَ، بَلْ عِلْمُهُ مُحِيطٌ كامِلٌ دائِمٌ. ﴿فَسَيَقُولُونَ اللهُ﴾ لا مَندُوحَةَ لَهم عن ذَلِكَ، ولا تُمْكِنُهُمُ المُباهَتَةُ بِسِواهُ، فَإذا أقَرُّوا بِذَلِكَ ﴿فَقُلْ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ في افْتِرائِكم وجَعْلِكُمُ الأصْنامَ آلِهَةً. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ﴾ الآيَةُ، يَقُولُ: فَهَذا الَّذِي هَذِهِ صِفاتُهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ، أيِ المُسْتَوْجِبِ لِلْعِبادَةِ والأُلُوهِيَّةُ، وإذا كانَ ذَلِكَ فَتَشْرِيكُ غَيْرِهِ ضَلالٌ وغَيْرُ حَقٍّ، (p-٤٧٨)وَعِبارَةُ القُرْآنِ في سَوْقِ هَذِهِ المَعانِي تَفُوتُ كُلَّ تَفْسِيرٍ بَراعَةً وإيجازًا وإيضاحًا، وحَكَمَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِأنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الحَقِّ والضَلالِ مَنزِلَةٌ ثالِثَةٌ في هَذِهِ المَسْألَةِ الَّتِي هي تَوْحِيدُ اللهِ، وكَذَلِكَ هو الأمْرُ في نَظائِرِها وهي مَسائِلُ الأُصُولِ الَّتِي الحَقُّ فِيها في طَرَفٍ واحِدٍ، لِأنَّ الكَلامَ فِيها إنَّما هو في تَقْرِيرِ وُجُودِ ذاتٍ كَيْفَ وهِيَ، وذَلِكَ بِخِلافِ مَسائِلِ الفُرُوعِ الَّتِي قالَ اللهُ فِيها: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]، وقالَ النَبِيُّ ﷺ: « "الحَلالُ بَيِّنٌ والحَرامُ بَيِّنٌ وبَيْنَهُما أُمُورٌ مُتَشابِهاتٌ"»، والحَقُّ في هَذِهِ في الطَرَفَيْنِ لِأنَّ المُتَعَبِّدِينَ إنَّما تَعَبَّدُوا بِالِاجْتِهادِ لا بِالتَعْيِينِ في كُلِّ نازِلَةٍ، ويَدُلُّكَ عَلى أنَّ الحَقَّ في الطَرَفَيْنِ اخْتِلافُ الشَرائِعِ بِتَحْلِيلٍ وتَحْرِيمٍ في شَيْءٍ واحِدٍ، والكَلامُ في مَسائِلِ الفُرُوعِ إنَّما هو في أحْكامٍ طارِئَةٍ عَلى وُجُودِ ذاتٍ مُتَقَرِّرَةٍ لا يُخْتَلَفُ فِيها، وإنَّما يُخْتَلَفُ في الأحْكامِ المُتَعَلِّقَةِ بِالمُتَشَرِّعِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾ تَقْرِيرٌ، كَما قالَ: ﴿فَأيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ [التكوير: ٢٦] ؟ ثُمَّ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ﴾ أيْ: كَما كانَتْ صِفاتُ اللهِ كَما وصَفَ، وعِبادَتُهُ واجِبَةً كَما تَقَرَّرَ، وانْصِرافُ هَؤُلاءِ كَما قَدَّرَ عَلَيْهِمْ وتَكَسَّبُوا كَذَلِكَ حَقَّتْ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ هُنا وفي آخِرِ السُورَةِ: "كَلِمَةُ" عَلى الإفْرادِ الَّذِي يُرادُ بِهِ الجَمْعُ، كَما يُقالُ لِلْقَصِيدَةِ: كَلِمَةٌ. فَعَبَّرَ عن وعِيدِ اللهِ تَعالى بِكَلِمَتِهِ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ في المَوْضِعَيْنِ المَذْكُورَيْنِ: "كَلِماتُ"، وهي قِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ، وشَيْبَةَ بْنِ نَصاحٍ. (p-٤٧٩)وَهَذِهِ الآيَةُ إخْبارٌ أنَّ في الكُفّارِ مَن حَتَّمَ بِكُفْرِهِ وقَضى بِتَخْلِيدِهِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "إنَّهُمْ" بِكَسْرِ الألِفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب