الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿واللهُ يَدْعُو إلى دارِ السَلامِ ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ كَسَبُوا السَيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وتَرْهَقُهم ذِلَّةٌ ما لَهم مِنَ اللهِ مِنَ عاصِمٍ كَأنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهم قِطَعًا مِنَ اللَيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أصْحابُ النارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ نَصَّتْ هَذِهِ الآيَةُ أنَّ الدُعاءَ إلى الشَرْعِ عامٌّ في كُلِّ بَشَرٍ، والهِدايَةُ الَّتِي هي الإرْشادُ مُخْتَصَّةٌ بِمَن قُدِّرَ إيمانُهُ، و"السَلامِ"، قِيلَ: هو اسْمُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فالمَعْنى يَدْعُو إلى دارِهِ الَّتِي هي الجَنَّةُ، وإضافَتُها إلَيْهِ إضافَةُ مُلْكٍ إلى مالِكٍ، فَقِيلَ: السَلامُ: بِمَعْنى السَلامَةِ، أيْ: مِن دَخَلَها ظَفِرَ بِالسَلامَةِ وأمِنَ الفِناءَ والآفاتِ، وهَذِهِ الآيَةُ رادَّةٌ عَلى المُعْتَزِلَةِ. وقَدْ ورَدَتْ في دَعْوَةِ اللهِ تَعالى عِبادَهُ أحادِيثَ مِنها رُؤْيا النَبِيِّ ﷺ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ، ومَثَّلا دَعْوَةَ اللهِ، ومُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ الداعِيَ، والمِلَّةَ المَدْعُوَّ إلَيْها، والجَنَّةَ الَّتِي هي ثَمَرَةُ الغُفْرانِ بِالمَأْدُبَةِ يَدْعُو إلَيْها مَلِكٌ إلى مَنزِلِهِ. وذَكَرَ قَتادَةُ في كَلامِهِ عَلى (p-٤٧٣)هَذِهِ الآيَةِ: ذُكِرَ لَنا أنَّ في التَوْراةِ مَكْتُوبًا: "يا باغِيَ الخَيْرِ هَلُمَّ، ويا باغِيَ الشَرِّ انْتَهِ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ﴾ الآيَةُ، قالَتْ فِرْقَةٌ وهي الجُمْهُورُ: الحُسْنى: الجَنَّةُ، والزِيادَةُ: النَظَرُ إلى وجْهِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ورُوِيَ في نَحْوِ ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنِ النَبِيِّ ﷺ رَواهُ صُهَيْبٌ، ورُوِيَ هَذا القَوْلُ عن أبِي بَكْرٍ الصِدِّيقِ، وحُذَيْفَةَ، وأبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، وعامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وعَبْدِ الرَحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى، ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: الزِيادَةُ: غُرْفَةٌ مِن لُؤْلُؤَةٍ واحِدَةٍ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: الحُسْنى: هي الحَسَنَةُ، والزِيادَةُ: هي تَضْعِيفُ الحَسَناتِ إلى سَبْعِمِائَةٍ فَدُونَها حَسَبَما رُوِيَ في نَصِّ الحَدِيثِ، وتَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٦١]، وهَذا قَوْلٌ يُعَضِّدُهُ النَظَرُ، ولَوْلا عِظَمُ القائِلِينَ بِالقَوْلِ الأوَّلِ لِتَرَجَّحَ هَذا القَوْلُ، وطَرِيقُ تَرْجِيحِهِ (p-٤٧٤)أنَّ الآيَةَ تَتَضَمَّنُ اقْتِرانًا بَيْنَ ذِكْرِ عُمّالِ الحَسَناتِ وعُمّالِ السَيِّئاتِ، فَوَصَفَ المُحْسِنِينَ بِأنَّ لَهم -عَلى إحْسانِهِمْ- حُسْنى زِيادَةً مِن جِنْسِها، ووَصَفَ المُسِيئِينَ بِأنَّ لَهم بِالسَيِّئَةِ مِثْلَها، فَتَعادَلَ الكَلامانِ. وعَبَّرَ عَنِ الحَسَناتِ بِالحُسْنى مُبالَغَةً إذْ هي عَشْرَةٌ، وقالَ الطَبَرِيُّ: الحُسْنى عامٌّ في كُلِّ حُسْنى فَهي تَعُمُّ جَمِيعَ ما قِيلَ، ووَعَدَ اللهُ تَعالى في جَمِيعِها بِالزِيادَةِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ أيْضًا قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ﴾، ولَوْ كانَ مَعْنى الحُسْنى الجَنَّةَ لَكانَ في القَوْلِ تَكْرِيرٌ بِالمَعْنى، عَلى أنَّ هَذا يُنْفَصَلُ عنهُ بِأنَّهُ وصْفُ المُحْسِنِينَ بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ وأنَّهم لا يَرْهَقُ وُجُوهَهم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ، ثُمَّ قالَ: ﴿أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ﴾ عَلى جِهَةِ المَدْحِ لَهُمْ، أيْ: أُولَئِكَ مُسْتَحِقُّوها وأصْحابُها حَقًّا وبِاسْتِيجابٍ. و"يَرْهَقُ" مَعْناهُ: يَغْشى مَعَ ذِلَّةٍ وتَضْيِيقٍ، والقَتَرُ: الغُبارُ المُسْوَدُّ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: مُتَوَّجٌ بِرِداءِ المُلْكِ يَتْبَعُهُ... مَوْجٌ تَرى وسْطَهُ الراياتِ والقَتَرا وقَرَأ الحَسَنُ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ، والأعْمَشُ، وأبُو رَجاءٍ: "قَتْرٌ" بِسُكُونِ التاءِ، وقَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ كَسَبُوا السَيِّئاتِ﴾ الآيَةُ، اخْتَلَفَ النَحْوِيُّونَ في رَفْعِ "الجَزاءِ" بِمَ هُوَ؟ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: التَقْدِيرُ: "لَهم جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها"، وقالَتْ فِرْقَةٌ: التَقْدِيرُ: "جَزاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلُها" والباءُ زائِدَةٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَتَوَجَّهُ أنْ يَكُونَ رَفْعُ "الجَزاءِ" عَلى المُبْتَدَإ، وخَبَرُهُ في "الَّذِينَ" لِأنَّ "والَّذِينَ" مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: "لِلَّذِينَ أحْسَنُوا"، فَكَأنَّهُ قالَ: "وَلِلَّذِينِ كَسَبُوا السَيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها"، وعَلى الوَجْهِ الآخَرِ فَقَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ كَسَبُوا السَيِّئاتِ﴾ رَفْعٌ بِالِابْتِداءِ، وتَعُمُّ السَيِّئاتُ هاهُنا الكُفْرَ والمَعاصِيَ، فَمَثَلَ سَيِّئَةِ الكُفْرِ التَخْلِيدُ في النارِ، ومَثَلَ سَيِّئَةِ المَعاصِي مَصْرُوفٌ إلى مَشِيئَةِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى. والعاصِمُ: المُنَجِّي والمُجِيرُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الماءِ﴾ [هود: ٤٣]، (p-٤٧٥)وَ"أُغْشِيَتْ": كُسِيَتْ، ومِنهُ الغِشاوَةُ، والقِطَعُ: جَمْعُ قِطْعَةٍ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "قِطْعًا" بِسُكُونِ الطاءِ، وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِ الطاءِ، والقِطْعُ: الجُزْءُ مِنَ اللَيْلِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأسْرِ بِأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَيْلِ﴾ [الحجر: ٦٥]، وهَذا يُرادُ بِهِ الجُزْءُ مِن زَمانِ اللَيْلِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ الجُزْءُ مِن سَوادِهِ، و"مُظْلِمًا" نَعْتٌ لِقَطْعٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الذِكْرِ الَّذِي في قَوْلِهِ: "مِنَ اللَيْلِ"، فَإذا كانَ نَعْتًا فَكانَ حَقُّهُ أنْ يَكُونَ قَبْلَ الجُمْلَةِ، ولَكِنْ قَدْ يَجِيءُ بَعْدَها، وتَقْدِيرُ الجُمْلَةِ: "قِطْعًا اسْتَقَرَّ مِنَ اللَيْلِ مُظْلِمًا" عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿وَهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ﴾ [الأنعام: ١٥٥]. ومَن قَرَأ "قِطَعًا" عَلى جَمْعِ قِطْعَةٍ فَنَصْبُ "مُظْلِمًا" عَلى الحالِ مِنَ اللَيْلِ، والعامِلُ في الحالِ "مِن" إذْ هي العامِلُ في ذِي الحالِ، وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "كَأنَّما يُغْشى وُجُوهَهم قِطْعٌ مِنَ اللَيْلِ مُظْلِمٌ"، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "قِطَعٌ مِنَ اللَيْلِ مُظْلِمٌ" بِتَحْرِيكِ الطاءِ في "قِطَعٍ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب