الباحث القرآني

(p-٤٤٤)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَلامُ هَذِهِ السُورَةُ هي مَكِّيَّةٌ، قالَ مُقاتِلٌ: إلّا آيَتَيْنِ وهي قَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿فَإنْ كُنْتَ في شَكٍّ﴾ [يونس: ٩٤] نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، وقالَ الكَلْبِيُّ: هي مَكِّيَّةٌ إلّا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَمِنهم مَن يُؤْمِنُ بِهِ ومِنهم مَن لا يُؤْمِنُ بِهِ﴾ [يونس: ٤٠] نَزَلَتْ في اليَهُودِ بِالمَدِينَةِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَ مِن أوَّلِها نَحْوٌ مِن أرْبَعِينَ آيَةً بِمَكَّةَ وباقِيها بِالمَدِينَةِ. قوله عزّ وجلّ: ﴿الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ﴾ ﴿أكانَ لِلنّاسِ عَجَبًا أنْ أوحَيْنا إلى رَجُلٍ مِنهم أنْ أنْذِرِ الناسَ وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أنْ لَهم قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الكافِرُونَ إنَّ هَذا لَساحِرٌ مُبِينٌ﴾ تَقَدَّمَ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ ذِكْرُ الِاخْتِلافِ في فَواتِحِ السُوَرِ، وتِلْكَ الأقْوالُ كُلُّها تَتَرَتَّبُ هُنا، وفي هَذا المَوْضِعِ قَوْلٌ يَخْتَصُّ بِهِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وسالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والشَعْبِيُّ: "الر" و"حم" و"ن" هو "الرَحْمَنُ" قُطِّعَ اللَفْظُ في أوائِلِ هَذِهِ السُوَرِ. واخْتُلِفَ عن نافِعٍ في إمالَةِ الراءِ، والقِياسُ ألّا تُمالَ. وكَذَلِكَ اخْتَلَفَ (p-٤٤٥)القُرّاءُ، وعِلَّةُ مَن أمالَ الراءَ أنْ يَدُلَّ بِذَلِكَ عَلى أنَّها اسْمٌ لِلْحَرْفِ ولَيْسَتْ بِحَرْفٍ في نَفْسِها وإنَّما الحَرْفُ "ر". وقَوْلُهُ تَعالى: "تِلْكَ" قِيلَ: هو بِمَعْنى: "هَذِهِ"، وقَدْ يُشْبِهُ أنْ يَتَّصِلَ المَعْنى بِـ "تِلْكَ" دُونَ أنْ نُقَدِّرَها بَدَلَ غَيْرِها، والنَظَرُ في هَذِهِ اللَفْظَةِ إنَّما يَتَرَكَّبُ عَلى الخِلافِ في فَواتِحِ السُوَرِ فَتَدَبَّرْهُ. و"الكِتابِ" قالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: المُرادُ بِهِ التَوْراةُ والإنْجِيلُ، وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا وغَيْرُهُ: المُرادُ بِهِ القُرْآنُ، وهو الأظْهَرُ، و"الحَكِيمِ" فَعِيلٌ بِمَعْنى مُحْكَمٍ، كَما قالَ تَعالى: ﴿هَذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ [ق: ٢٣]، أيْ مُعْتَدٌّ مُعَدٌّ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ "حَكِيمٍ" بِمَعْنى: ذُو حِكْمَةٍ فَهو عَلى النَسَبِ، وقالَ الطَبَرِيُّ: "فَهُوَ مِثْلُ ألِيمٍ بِمَعْنى مُؤْلِمٍ" ثُمَّ قالَ: هو الَّذِي أحْكَمَهُ وبَيَّنَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَساقَ قَوْلَيْنِ عَلى أنَّهُما واحِدٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أكانَ لِلنّاسِ عَجَبًا﴾ الآيَةُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جَرِيحٍ، وغَيْرُهُما: نُسِبَتْ هَذِهِ الآيَةُ أنَّ قُرَيْشًا اسْتَبْعَدُوا أنْ يَبْعَثَ اللهُ رَسُولًا مِنَ البَشَرِ، وقالَ الزَجّاجُ: إنَّما عَجِبُوا مِن إخْبارِهِ أنَّهم يُبْعَثُونَ مِنَ القُبُورِ، إذِ النِذارَةُ والبِشارَةُ تَتَضَمَّنانِ ذَلِكَ، وكَثُرَ كَلامُهم في ذَلِكَ حَتّى قالَ بَعْضُهُمْ: أما وجَدَ اللهُ مَن يَبْعَثُ إلّا يَتِيمَ أبِي طالِبٍ؟ ونَحْوُ هَذا مِنَ الأقاوِيلِ الَّتِي اخْتَصَرْتُها لِشُهْرَتِها، فَنَزَلَتِ الآيَةُ. وقَوْلُهُ: (p-٤٤٦)"أكانَ" تَقْرِيرٌ، والمُرادُ بِـ "الناسِ": قائِلُو هَذِهِ المَقالَةِ. و"عَجَبًا" خَبَرُ "كانَ"، واسْمُها: "أنْ أوحَيْنا"، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "أكانَ لِلنّاسِ عَجَبٌ"، وجَعَلَ الخَبَرَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: "أنْ أوحَيْنا"، والأوَّلُ أصْوَبُ لِأنَّ الِاسْمَ مَعْرِفَةٌ والخَبَرُ نَكِرَةٌ وهَذا القَلْبُ لا يَصِحُّ ولا يَجِيءُ إلّا شاذًّا، ومِنهُ قَوْلُ حَسّانَ: ؎ .......................... ∗∗∗ يَكُونُ مِزاجُها عَسَلٌ وماءُ ولَفْظَةُ العَجَبِ هُنا لَيْسَتْ بِمَعْنى التَعَجُّبِ فَقَطْ، بَلْ مَعْناهُ: أوَصَلَ إنْكارُهم وتَعَجُّبُهم إلى التَكْذِيبِ؟ وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "إلى رَجْلٍ" بِسُكُونِ الجِيمِ، ثُمَّ فَسَّرَ الوَحْيُ وقَسَّمَهُ عَلى النِذارَةِ لِلْكافِرِينَ والبِشارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. والقَدَمُ هُنا-: ما قَدَّمَ. واخْتُلِفَ في المُرادِ بِها هاهُنا فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والضَحّاكُ، والرَبِيعُ بْنُ أنَسٍ، وابْنُ زَيْدٍ: هي الأعْمالُ الصالِحَةُ مِنَ العِباداتِ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وقَتادَةُ: هي شَفاعَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، وغَيْرُهُ: هي المُصِيبَةُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ بِمَوْتِهِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُما- أيْضًا، وغَيْرُهُ: هي السَعادَةُ السابِقَةُ لَهم في اللَوْحِ المَحْفُوظِ، وهَذا ألْيَقُ الأقْوالِ بِالآيَةِ، ومِن هَذِهِ اللَفْظَةِ قَوْلُ حَسّانَ: ؎ لَنا القَدَمُ العُلْيا إلَيْكَ وخَلْفُنا ∗∗∗ ∗∗∗ لِأوَّلِنا في طاعَةِ اللهِ تابِعُ (p-٤٤٧)وَقَوْلُ ذِي الرُمَّةِ: ؎ لَكم قَدَمٌ لا يُنْكِرُ الناسُ أنَّها ∗∗∗ ∗∗∗ مَعَ الحَسَبِ العالِي طَمَّتْ عَلى البَحْرِ ومِن هَذِهِ اللَفْظَةِ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ في صِفَةِ جَهَنَّمَ: « "حَتّى يَضَعَ الجَبّارُ فِيها قَدَمَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ"» أيْ ما قَدَّمَ لَها مِن خَلْقِهِ، هَذا عَلى أنَّ "الجَبّارَ" اسْمُ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، ومَن جَعَلَهُ اسْمَ جِنْسٍ كَأنَّهُ أرادَ الجَبّارِينَ مِن بَنِي آدَمَ، فالقَدَمُ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- الجارِحَةُ. والصِدْقُ في هَذِهِ الآيَةِ بِمَعْنى الصَلاحِ، كَما تَقُولُ: رَجُلٌ صِدْقٌ ورَجُلُ سُوءٍ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿قالَ الكافِرُونَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: "أكانَ وحْيُنا إلى بَشَرٍ عَجَبًا؟" قالَ الكافِرُونَ عنهُ كَذا وكَذا؟ وذَهَبَ الطَبَرِيُّ إلى أنَّ في الكَلامِ حَذْفًا يَدُلُّ الظاهِرُ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: فَلَمّا أنْذَرَ وبَشَّرَ قالَ الكافِرُونَ كَذا وكَذا، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ، وهي قِراءَةُ نافِعٍ، وأبِي عَمْرٍو، وابْنِ عامِرٍ: "إنَّ هَذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ"، وقَرَأ مَسْرُوقُ بْنُ الأجْدَعِ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والباقُونَ مِنَ السَبْعَةِ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو رَزِينٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ وثّابٍ، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ بِخِلافٍ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وابْنُ كَثِيرٍ بِخِلافٍ عنهُ: "إنَّ هَذا لَساحِرٌ"، والمَعْنى مُتَقارِبٌ. وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: "قالَ الكافِرُونَ ما هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ". وقَوْلُهم في الإنْذارِ والبِشارَةِ سِحْرٌ إنَّما هو (p-٤٤٨)بِسَبَبٍ أنَّهُ فَرَّقَ بِذَلِكَ كَلِمَتَهم وحالَ بَيْنَ القَرِيبِ وقَرِيبِهِ فَأشْبَهَ بِذَلِكَ ما يَفْعَلُهُ الساحِرُ فَظَنُّوهُ مِن ذَلِكَ البابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب