الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنّاسِ الشَرَّ اسْتِعْجالَهم بِالخَيْرِ لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهم فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ﴿وَإذا مَسَّ الإنْسانَ الضُرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أو قاعِدًا أو قائِمًا فَلَمّا كَشَفْنا عنهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأنْ لَمْ يَدْعُنا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: "نَزَلَتْ في دُعاءِ الرَجُلِ عَلى نَفْسِهِ أو مالِهِ أو ولَدِهِ ونَحْوِ هَذا، فَأخْبَرَ اللهُ تَعالى أنَّهُ لَوْ فَعَلَ مَعَ الناسِ في إجابَتِهِ إلى المَكْرُوهِ مِثْلَ ما يُرِيدُونَ فِعْلَهُ مَعَهم في إجابَتِهِ إلى الخَيْرِ لِأهْلَكَهُمْ، ثُمَّ حَذَفَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ القَوْلِ جُمْلَةً يَتَضَمَّنُها الظاهِرُ تَقْدِيرُها: ولا يَفْعَلُ ذَلِكَ ولَكِنْ يَذْرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ، فاقْتُضِبَ القَوْلُ وتُوُصِّلَ إلى هَذا المَعْنى بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا﴾، فَتَأمَّلْ هَذا التَقْدِيرَ تَجِدْهُ صَحِيحًا، و﴿اسْتِعْجالَهُمْ﴾ نَصْبٌ عَلى المَصْدَرِ، والتَقْدِيرُ: مِثْلَ اسْتِعْجالِهِمْ، وقِيلَ: التَقْدِيرُ: تَعْجِيلًا مِثْلَ اسْتِعْجالِهِمْ، وهَذا قَرِيبٌ مِنَ الأوَّلِ. وقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِن السَماءِ﴾ [الأنفال: ٣٢]، (p-٤٥٨)وَقِيلَ: نَزَلَتْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ائْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ [الأعراف: ٧٧] وما جَرى مَجْراهُ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "لَقُضِيَ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ ورَفْعِ "الأجَلُ"، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ، وعَوْفٌ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ، ويَعْقُوبُ: "لَقَضى" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ ونَصْبِ "الأجَلَ"، وقَرَأ الأعْمَشُ: "لَقَضَيْنا"، والأجْلُ -فِي هَذا المَوْضِعِ- أجْلُ المَوْتِ، ومَعْنى "قَضى" في هَذِهِ الآيَةِ: أكْمَلَ وفَرَغَ، ومِنهُ قَوْلُ أبِي ذُؤَيْبٍ: ؎ وعَلَيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضاهُما ∗∗∗ داوُدُ أو صَنَعُ السَوابِغِ تُبَّعُ وأنْشَدَ أبُو عَلِيٍّ في هَذا المَعْنى: ؎ قَضَيْتُ أُمُورًا ثُمَّ غادَرْتُ بَعْدَها ∗∗∗ ∗∗∗ فَوائِحَ في أكْمامِها لَمْ تُفَتَّقِ وتَعَدّى "قَضى" في هَذِهِ الآيَةِ بِـ "إلى" لَمّا كانَ بِمَعْنى: فَرَغَ، وفَرَغَ يَتَعَدّى بِإلى ويَتَعَدّى بِاللامِ، فَمِن ذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرٍ: ؎ ألْآنَ فَقَدْ فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ ∗∗∗ ∗∗∗ فَصِرْتُ عَلى جَماعَتِها عَذابا (p-٤٥٩)وَمِنَ الآخَرِ قوله عزّ وجلّ: ﴿سَنَفْرُغُ لَكم أيُّهَ الثَقَلانِ﴾ [الرحمن: ٣١]، وقَرَأ الأعْمَشُ: "فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا"، و"يَرْجُونَ" في هَذا المَوْضِعِ عَلى بابِها، والمُرادُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالبَعْثِ فَهم لا يَرْجُونَ لِقاءَ اللهِ، والرَجاءُ مُقْتَرِنٌ أبَدًا بِخَوْفٍ، والطُغْيانُ: الغُلُوُّ في الأمْرِ وتَجاوُزُ الحَدِّ، والعَمَهُ: الخَبْطُ في ضَلالٍ، فَهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ ذامَّةً لِخُلُقٍ ذَمِيمٍ هو في الناسِ، يَدْعُونَ في الخَيْرِ فَيُرِيدُونَ تَعْجِيلَ الإجابَةِ فَيَحْمِلُهم أحْيانًا سُوءُ الخُلُقِ عَلى الدُعاءِ في الشَرِّ، فَلَوْ عَجَّلَ لَهم لَهَلَكُوا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا مَسَّ الإنْسانَ الضُرُّ﴾ الآيَةُ، هَذِهِ الآيَةُ أيْضًا عِتابٌ عَلى سُوءِ الخُلُقِ مِن بَعْضِ الناسِ، ومُضَمَّنُهُ النَهْيُ عن مِثْلِ هَذا، والأمْرُ بِالتَسْلِيمِ إلى اللهِ تَعالى والضَراعَةِ إلَيْهِ في كُلِّ حالٍ، والعِلْمُ بِأنَّ الخَيْرَ والشَرَّ مِنهُ لا رَبَّ غَيْرُهُ، وقَوْلُهُ: "لِجَنْبِهِ" في مَوْضِعِ حالٍ، كَأنَّهُ قالَ: مُضْطَجِعًا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ "الإنْسانِ"، والعامِلُ فِيهِ "مَسَّ"، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن ضَمِيرِ الفاعِلِ في "دَعانا" والعامِلُ فِيهِ "دَعا" وهُما مَعْنَيانِ مُتَبايِنانِ. و"الضُرُّ" لَفْظٌ عامٌّ لِجَمِيعِ الأمْراضِ والرَزايا في النَفْسِ والمالِ والأحِبَّةِ، هَذا قَوْلُ اللُغَوِيِّينَ، وقِيلَ: هو مُخْتَصٌّ بِرَزايا البَدَنِ: الهُزالُ والمَرَضُ، وقَوْلُهُ: "مَرَّ" يَقْتَضِي أنَّ نُزُولَها في الكُفّارِ ثُمَّ هي بَعْدُ تَتَناوَلُ كُلَّ مَن دَخَلَ تَحْتَ مَعْناها مِن كافِرٍ أو عاصٍ، فَمَعْنى الآيَةِ: مَرَّ في إشْراكِهِ بِاللهِ وقِلَّةِ تَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ، وقَوْلُهُ: "زُيِّنَ" إنْ قَدَّرْناهُ مِنَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى فَهو خَلْقُهُ الكُفْرَ لَهم واخْتِراعُهُ في نُفُوسِهِمْ صُحْبَةَ أعْمالِهِمُ الفاسِدَةِ ومُثابَرَتِهِمْ عَلَيْها، وإنْ قَدَّرْنا ذَلِكَ مِنَ الشَيْطانِ فَهو بِمَعْنى الوَسْوَسَةِ والمُخادَعَةِ، ولَفْظَةُ التَزْيِينِ قَدْ جاءَتْ في القُرْآنِ بِهَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ مَرَّةً مِن فِعْلِ اللهِ تَعالى ومَرَّةً مِن فِعْلِ الشَياطِينِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب