الباحث القرآني
فَمَن لَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ في عِبادَتِهِ لَمْ يَفْعَلْ ما أُمِرَ بِهِ، بَلِ الَّذِي أتى بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ المَأْمُورِ بِهِ، فَلا يَصِحُّ ولا يُقْبَلُ مِنهُ، ويَقُولُ اللَّهُ:
«أنا أغْنى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي فَهو لِلَّذِي أشْرَكَ بِهِ، وأنا مِنهُ بَرِيءٌ».
* [فَصْلٌ: إخْلاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ تَعالى]
قَوْلُهُ: " فَمَن خَلَصَتْ نِيَّتُهُ في الحَقِّ ولَوْ عَلى نَفْسِهِ كَفاهُ اللَّهُ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ النّاسِ، ومَن تَزَيَّنَ بِما لَيْسَ فِيهِ شانَهُ اللَّهُ " هَذا شَقِيقُ كَلامِ النُّبُوَّةِ، وهو جَدِيرٌ بِأنْ يَخْرُجَ مِن مِشْكاةِ المُحَدِّثِ المُلْهَمِ، وهاتانِ الكَلِمَتانِ مِن كُنُوزِ العِلْمِ، ومِن أحْسَنِ الإنْفاقِ مِنهُما نَفْعُ غَيْرِهِ، وانْتَفَعَ غايَةَ الِانْتِفاعِ: فَأمّا الكَلِمَةُ الأُولى فَهي مَنبَعُ الخَيْرِ وأصْلِهِ، والثّانِيَةُ أصْلُ الشَّرِّ وفَصْلُهُ؛ فَإنَّ العَبْدَ إذا خَلَصَتْ نِيَّتُهُ لِلَّهِ تَعالى وكانَ قَصْدُهُ وهَمُّهُ وعَمَلُهُ لِوَجْهِهِ سُبْحانَهُ كانَ اللَّهُ مَعَهُ؛ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا واَلَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ، ورَأْسُ التَّقْوى والإحْسانِ خُلُوصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ في إقامَةِ الحَقِّ، واللَّهُ سُبْحانَهُ لا غالِبَ لَهُ، فَمَن كانَ مَعَهُ فَمَن ذا الَّذِي يَغْلِبُهُ أوْ يَنالُهُ بِسُوءٍ؟ فَإنْ كانَ اللَّهُ مَعَ العَبْدِ فَمَن يَخافُ؟ وإنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَمَن يَرْجُو؟ وبِمَن يَثِقُ؟ ومَن يَنْصُرُهُ مِن بَعْدِهِ؟
فَإذا قامَ العَبْدُ بِالحَقِّ عَلى غَيْرِهِ وعَلى نَفْسِهِ أوَّلًا، وكانَ قِيامُهُ بِاللَّهِ ولِلَّهِ لَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ، ولَوْ كادَتْهُ السَّماواتُ والأرْضُ والجِبالُ لَكَفاهُ اللَّهُ مُؤْنَتَها، وجَعَلَ لَهُ فَرَجًا ومَخْرَجًا؛ وإنَّما يُؤْتى العَبْدُ مِن تَفْرِيطِهِ وتَقْصِيرِهِ في هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ، أوْ في اثْنَيْنِ مِنها، أوْ في واحِدٍ؛ فَمَن كانَ قِيامُهُ في باطِلٍ لَمْ يُنْصَرْ، وإنْ نُصِرَ نَصْرًا عارِضًا فَلا عاقِبَةَ لَهُ وهو مَذْمُومٌ مَخْذُولٌ، وإنْ قامَ في حَقٍّ لَكِنْ لَمْ يَقُمْ فِيهِ لِلَّهِ وإنَّما قامَ لِطَلَبِ المَحْمَدَةِ والشَّكُورِ والجَزاءِ مِن الخَلْقِ أوْ التَّوَصُّلِ إلى غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ كانَ هو المَقْصُودُ أوَّلًا، والقِيامُ في الحَقِّ وسِيلَةٌ إلَيْهِ، فَهَذا لَمْ تُضْمَن لَهُ النُّصْرَةُ؛ فَإنَّ اللَّهَ إنّما ضَمِنَ النُّصْرَةَ لِمَن جاهَدَ في سَبِيلِهِ، وقاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا، لا لِمَن كانَ قِيامُهُ لِنَفْسِهِ ولِهَواهُ، فَإنَّهُ لَيْسَ مِن المُتَّقِينَ ولا مِن المُحْسِنِينَ، وإنْ نُصِرَ فَبِحَسَبِ ما مَعَهُ مِن الحَقِّ؛ فَإنَّ اللَّهَ لا يَنْصُرُ إلّا الحَقَّ، وإذا كانَتْ الدَّوْلَةُ لِأهْلِ الباطِلِ فَبِحَسَبِ ما مَعَهم مِن الصَّبْرِ، والصَّبْرُ مَنصُورٌ أبَدًا فَإنْ كانَ صاحِبُهُ مُحِقًّا كانَ مَنصُورًا لَهُ العاقِبَةُ، وإنْ كانَ مُبْطِلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عاقِبَةٌ، وإذا قامَ العَبْدُ في الحَقِّ لِلَّهِ ولَكِنْ قامَ بِنَفْسِهِ وقُوَّتِهِ ولَمْ يَقُمْ بِاللَّهِ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُفَوِّضًا إلَيْهِ بَرِيًّا مِن الحَوْلِ والقُوَّةِ إلّا بِهِ فَلَهُ مِن الخِذْلانِ وضَعْفِ النُّصْرَةِ بِحَسَبِ ما قامَ بِهِ مِن ذَلِكَ، ونُكْتَةُ المَسْألَةِ أنَّ تَجْرِيدَ التَّوْحِيدَيْنِ في أمْرِ اللَّهِ لا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ ألْبَتَّةَ، وصاحِبُهُ مُؤَيَّدٌ مَنصُورٌ ولَوْ تَوالَتْ عَلَيْهِ زُمَرُ الأعْداءِ.
قالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا داوُد أنْبَأْنا شُعْبَةُ عَنْ واقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنْ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: مَن أسْخَطَ النّاسَ بِرِضاءِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ كَفاهُ اللَّهُ النّاسَ، ومَن أرْضى النّاسَ بِسُخْطِ اللَّهِ وكَّلَهُ إلى النّاسِ.
* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الإخْلاصِ]
وَمِن مَنازِلِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الإخْلاصِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥].
وَقالَ: ﴿إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - ألا لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ﴾ [الزمر: ٢-٣].
وَقالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿قُلِ اللَّهَ أعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي - فاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِن دُونِهِ﴾ [الزمر: ١٤-١٥].
وَقالَ لَهُ: ﴿قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ - لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنا أوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢-١٦٣]. وقالَ: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: ٢].
قالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ: هو أخْلَصُهُ وأصْوَبُهُ.
قالُوا: يا أبا عَلِيٍّ، ما أخْلَصُهُ وأصْوَبُهُ؟ فَقالَ: إنَّ العَمَلَ إذا كانَ خالِصًا، ولَمْ يَكُنْ صَوابًا. لَمْ يُقْبَلْ. وإذا كانَ صَوابًا ولَمْ يَكُنْ خالِصًا: لَمْ يُقْبَلْ. حَتّى يَكُونَ خالِصًا صَوابًا، والخالِصُ: أنْ يَكُونَ لِلَّهِ، والصَّوابُ أنْ يَكُونَ عَلى السُّنَّةِ.
ثُمَّ قَرَأ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَمَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠].
وَقالَ تَعالى: ﴿وَمَن أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهو مُحْسِنٌ﴾ [النساء: ١٢٥].
فَإسْلامُ الوَجْهِ: إخْلاصُ القَصْدِ والعَمَلِ لِلَّهِ. والإحْسانُ فِيهِ: مُتابَعَةُ رَسُولِهِ ﷺ وسُنَّتِهِ.
وَقالَ تَعالى: ﴿وَقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣].
وَهِيَ الأعْمالُ الَّتِي كانَتْ عَلى غَيْرِ السُّنَّةِ. أوْ أُرِيدَ بِها غَيْرُ وجْهِ اللَّهِ.
قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ، فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وجْهَ اللَّهِ تَعالى إلّا ازْدَدْتَ بِهِ خَيْرًا، ودَرَجَةً ورِفْعَةً. وفي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ أنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إخْلاصُ العَمَلِ لِلَّهِ، ومُناصَحَةُ وُلاةِ الأمْرِ، ولُزُومُ جَماعَةِ المُسْلِمِينَ. فَإنَّ دَعْوَتَهم تُحِيطُ مِن ورائِهِمْ»
أيْ لا يَبْقى فِيهِ غِلٌّ، ولا يَحْمِلُ الغِلَّ مَعَ هَذِهِ الثَّلاثَةِ. بَلْ تَنْفِي عَنْهُ غِلَّهُ. وتُنَقِّيهِ مِنهُ. وتُخْرِجُهُ عَنْهُ. فَإنَّ القَلْبَ يَغِلُّ عَلى الشِّرْكِ أعْظَمَ غِلٍّ. وكَذَلِكَ يَغِلُّ عَلى الغِشِّ. وعَلى خُرُوجِهِ عَنْ جَماعَةِ المُسْلِمِينَ بِالبِدْعَةِ والضَّلالَةِ. فَهَذِهِ الثَّلاثَةُ تَمْلَؤُهُ غِلًّا ودَغَلًا. ودَواءُ هَذا الغِلِّ، واسْتِخْراجُ أخْلاطِهِ بِتَجْرِيدِ الإخْلاصِ والنُّصْحِ، ومُتابَعَةِ السُّنَّةِ.
«وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يُقاتِلُ رِياءً، ويُقاتِلُ شَجاعَةً. ويُقاتِلُ حَمِيَّةً: أيُّ ذَلِكَ في سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقالَ: مَن قاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا فَهو في سَبِيلِ اللَّهِ».
وَأخْبَرَ عَنْ أوَّلِ ثَلاثَةٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النّارُ: قارِئُ القُرْآنِ، والمُجاهِدُ، والمُتَصَدِّقُ بِمالِهِ، الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقالَ: فُلانٌ قارِئٌ، فُلانٌ شُجاعٌ، فُلانٌ مُتَصَدِّقٌ، ولَمْ تَكُنْ أعْمالُهم خالِصَةً لِلَّهِ.
وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الإلَهِيِّ يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: «أنا أغْنى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ. مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهو لِلَّذِي أشْرَكَ بِهِ. وأنا مِنهُ بَرِيءٌ».
وَفِي أثَرٍ آخَرَ: يَقُولُ «لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ اذْهَبْ فَخُذْ أجْرَكَ مِمَّنْ عَمِلْتَ لَهُ. لا أجْرَ لَكَ عِنْدَنا».
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ «إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى أجْسامِكُمْ، ولا إلى صُوَرِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ». وقالَ تَعالى: ﴿لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ولا دِماؤُها ولَكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنكُمْ﴾ [الحج: ٣٧].
وَفِي أثَرٍ مَرْوِيٍّ إلَهِيٍّ: «الإخْلاصُ سِرٌّ مِن سِرِّي، اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَن أحْبَبْتُهُ مِن عِبادِي».
وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبارَتُهم في الإخْلاصِ والصِّدْقِ، والقَصْدُ واحِدٌ.
فَقِيلَ: هو إفْرادُ الحَقِّ سُبْحانَهُ بِالقَصْدِ في الطّاعَةِ.
وَقِيلَ: تَصْفِيَةُ الفِعْلِ عَنْ مُلاحَظَةِ المَخْلُوقِينَ.
وَقِيلَ: التَّوَقِّي مِن مُلاحَظَةِ الخَلْقِ حَتّى عَنْ نَفْسِكَ. والصِّدْقُ التَّنَقِّي مِن مُطالَعَةِ النَّفْسِ. فالمُخْلِصُ لا رِياءَ لَهُ، والصّادِقُ لا إعْجابَ لَهُ. ولا يَتِمُّ الإخْلاصُ إلّا بِالصِّدْقِ، ولا الصِّدْقُ إلّا بِالإخْلاصِ. ولا يَتِمّانِ إلّا بِالصَّبْرِ.
وَقِيلَ: مَن شَهِدَ في إخْلاصِهِ الإخْلاصَ، احْتاجَ إخْلاصُهُ إلى إخْلاصٍ. فَنُقْصانُ كُلِّ مُخْلِصٍ في إخْلاصِهِ: بِقَدْرِ رُؤْيَةِ إخْلاصِهِ. فَإذا سَقَطَ عَنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةُ الإخْلاصِ، صارَ مُخْلِصًا مُخْلَصًا.
وَقِيلَ: الإخْلاصُ اسْتِواءُ أعْمالِ العَبْدِ في الظّاهِرِ والباطِنِ. والرِّياءُ: أنْ يَكُونَ ظاهِرَهُ خَيْرًا مِن باطِنِهِ. والصِّدْقُ في الإخْلاصِ: أنْ يَكُونَ باطِنُهُ أعْمَرَ مِن ظاهِرِهِ.
وَقِيلَ: الإخْلاصُ نِسْيانُ رُؤْيَةِ الخَلْقِ بِدَوامِ النَّظَرِ إلى الخالِقِ. ومَن تَزَيَّنَ لِلنّاسِ بِما لَيْسَ فِيهِ سَقَطَ مِن عَيْنِ اللَّهِ.
وَمِن كَلامِ الفُضَيْلِ: تَرْكُ العَمَلِ مِن أجْلِ النّاسِ: رِياءٌ. والعَمَلُ مِن أجْلِ النّاسِ: شِرْكٌ. والإخْلاصُ: أنْ يُعافِيَكَ اللَّهُ مِنهُما.
قالَ الجُنَيْدُ: الإخْلاصُ سِرٌّ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ العَبْدِ. لا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ فَيَكْتُبُهُ، ولا شَيْطانٌ فَيُفْسِدُهُ. ولا هَوًى فَيُمِيلُهُ.
وَقِيلَ لِسَهْلٍ: أيُّ شَيْءٍ أشَدُّ عَلى النَّفْسِ؟ فَقالَ: الإخْلاصُ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ لَها فِيهِ نَصِيبٌ.
وَقالَ بَعْضُهُمْ: الإخْلاصُ أنْ لا تَطْلُبَ عَلى عَمَلِكَ شاهِدًا غَيْرَ اللَّهِ، ولا مُجازِيًا سِواهُ.
وَقالَ مَكْحُولٌ: ما أخْلَصَ عَبْدٌ قَطُّ أرْبَعِينَ يَوْمًا إلّا ظَهَرَتْ يَنابِيعُ الحِكْمَةِ مِن قَلْبِهِ عَلى لِسانِهِ.
وَقالَ يُوسُفُ بْنُ الحُسَيْنِ: أعَزُّ شَيْءٍ في الدُّنْيا: الإخْلاصُ. وكَمْ أجْتَهِدُ في إسْقاطِ الرِّياءِ عَنْ قَلْبِي. فَكَأنَّهُ يَنْبُتُ عَلى لَوْنٍ آخَرَ.
وَقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدّارانِيُّ: إذا أخْلَصَ العَبْدُ انْقَطَعَتْ عَنْهُ كَثْرَةُ الوَساوِسِ والرِّياءِ.
* [فَصْلٌ دَرَجاتُ الإخْلاصِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى إخْراجُ رُؤْيَةِ العَمَلِ عَنِ العَمَلِ والخَلاصُ مِن طَلَبِ العِوَضِ عَلى العَمَلِ]
* فَصْلٌ
قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ":
الإخْلاصُ: تَصْفِيَةُ العَمَلِ مِن كُلِّ شَوْبٍ.
أيْ لا يُمازِجُ عَمَلَهُ ما يَشُوبُهُ مِن شَوائِبَ إراداتُ النَّفْسِ إمّا طَلَبُ التَّزَيُّنِ في قُلُوبِ الخَلْقِ، وإمّا طَلَبُ مَدْحِهِمْ، والهَرَبُ مِن ذَمِّهِمْ، أوْ طَلَبُ تَعْظِيمِهِمْ، أوْ طَلَبُ أمْوالِهِمْ أوْ خِدْمَتِهِمْ ومَحَبَّتِهِمْ وقَضائِهِمْ حَوائِجَهُ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العِلَلِ والشَّوائِبِ، الَّتِي عَقْدُ مُتَفَرِّقاتِها هو إرادَةُ ما سِوى اللَّهِ بِعَمَلِهِ، كائِنًا ما كانَ.
قالَ: وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ. الدَّرَجَةُ الأُولى: إخْراجُ رُؤْيَةِ العَمَلِ عَنِ العَمَلِ، والخَلاصُ مِن طَلَبِ العِوَضِ عَلى العَمَلِ، والنُّزُولُ عَنِ الرِّضا بِالعَمَلِ.
يَعْرِضُ لِلْعامِلِ في عَمَلِهِ ثَلاثُ آفاتٍ: رُؤْيَتُهُ ومُلاحَظَتُهُ، وطَلَبُ العِوَضِ عَلَيْهِ، ورِضاهُ بِهِ وسُكُونُهُ إلَيْهِ.
فَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَتَخَلَّصُ مِن هَذِهِ البَلِيَّةِ. فالَّذِي يُخَلِّصُهُ مِن رُؤْيَةِ عَمَلِهِ مُشاهَدَتُهُ لِمِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وفَضْلِهِ وتَوْفِيقِهِ لَهُ، وأنَّهُ بِاللَّهِ لا بِنَفْسِهِ، وأنَّهُ إنَّما أوْجَبَ عَمَلَهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ لا مَشِيئَتُهُ هُوَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ [التكوير: ٢٩].
فَهُنا يَنْفَعُهُ شُهُودُ الجَبْرِ، وأنَّهُ آلَةٌ مَحْضَةٌ، وأنَّ فِعْلَهُ كَحَرَكاتِ الأشْجارِ، وهُبُوبِ الرِّياحِ، وأنَّ المُحَرِّكَ لَهُ غَيْرُهُ، والفاعِلُ فِيهِ سِواهُ، وأنَّهُ مَيِّتٌ - والمَيِّتُ لا يَفْعَلُ شَيْئًا - وأنَّهُ لَوْ خُلِّيَ ونَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مِن فِعْلِهِ الصّالِحِ شَيْءٌ ألْبَتَّةَ. فَإنَّ النَّفْسَ جاهِلَةٌ ظالِمَةٌ، طَبْعُها الكَسَلُ، وإيثارُ الشَّهَواتِ والبَطالَةِ. وهي مَنبَعُ كُلِّ شَرٍّ، ومَأْوى كُلِّ سُوءٍ. وما كانَ هَكَذا لَمْ يَصْدُرْ مِنهُ خَيْرٌ، ولا هو مِن شَأْنِهِ.
فالخَيْرُ الَّذِي يَصْدُرُ مِنها إنَّما هو مِنَ اللَّهِ وبِهِ. لا مِنَ العَبْدِ، ولا بِهِ. كَما قالَ تَعالى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ ما زَكا مِنكم مِن أحَدٍ أبَدًا ولَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشاءُ﴾ [النور: ٢١]، وقالَ أهْلُ الجَنَّةِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهَذا﴾ [الأعراف: ٤٣]، وقالَ تَبارَكَ وتَعالى لِرَسُولِهِ ﷺ: ﴿وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٤].
وَقالَ تَعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ٧] الآيَةَ.
فَكُلُّ خَيْرٍ في العَبْدِ فَهو مُجَرَّدُ فَضْلِ اللَّهِ ومِنَّتِهِ، وإحْسانِهِ ونِعْمَتِهِ. وهو المَحْمُودُ عَلَيْهِ. فَرُؤْيَةُ العَبْدِ لِأعْمالِهِ في الحَقِيقَةِ، كَرُؤْيَتِهِ لِصِفاتِهِ الخِلْقِيَّةِ: مِن سَمْعِهِ وبَصَرِهِ، وإدْراكِهِ وقُوَّتِهِ، بَلْ مِن صِحَّتِهِ، وسَلامَةِ أعْضائِهِ، ونَحْوِ ذَلِكَ. فالكُلُّ مُجَرَّدُ عَطاءِ اللَّهِ ونِعْمَتِهِ وفَضْلِهِ.
فالَّذِي يُخَلِّصُ العَبْدَ مِن هَذِهِ الآفَةِ: مَعْرِفَةُ رَبِّهِ، ومَعْرِفَةُ نَفْسِهِ.
والَّذِي يُخَلِّصُهُ مِن طَلَبِ العِوَضِ عَلى العَمَلِ: عِلْمُهُ بِأنَّهُ عَبْدٌ مَحْضٌ. والعَبْدُ لا يَسْتَحِقُّ عَلى خِدْمَتِهِ لِسَيِّدِهِ عِوَضًا ولا أُجْرَةً؛ إذْ هو يَخْدِمُهُ بِمُقْتَضى عُبُودِيَّتِهِ. فَما يَنالُهُ مِن سَيِّدِهِ مِنَ الأجْرِ والثَّوابِ تَفَضُّلٌ مِنهُ، وإحْسانٌ إلَيْهِ، وإنْعامٌ عَلَيْهِ، لا مُعارَضَةٌ؛ إذِ الأُجْرَةُ إنَّما يَسْتَحِقُّها الحُرُّ، أوْ عَبْدُ الغَيْرِ. فَأمّا عَبْدُ نَفْسِهِ فَلا.
والَّذِي يُخَلِّصُهُ مِن رِضاهُ بِعَمَلِهِ وسُكُونِهِ إلَيْهِ أمْرانِ:
أحَدُهُما: مُطالَعَةُ عُيُوبِهِ وآفاتِهِ، وتَقْصِيرِهِ فِيهِ، وما فِيهِ مِن حَظِّ النَّفْسِ، ونَصِيبِ الشَّيْطانِ. فَقَلَّ عَمَلٌ مِنَ الأعْمالِ إلّا ولِلشَّيْطانِ فِيهِ نَصِيبٌ، وإنْ قَلَّ. ولِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ.
«سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ التِفاتِ الرَّجُلِ في صَلاتِهِ؟ فَقالَ: هو اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطانُ مِن صَلاةِ العَبْدِ».
فَإذا كانَ هَذا التِفاتَ طَرْفِهِ أوْ لَحْظِهِ؛ فَكَيْفَ التِفاتُ قَلْبِهِ إلى ما سِوى اللَّهِ؟ هَذا أعْظَمُ نَصِيبِ الشَّيْطانِ مِنَ العُبُودِيَّةِ.
وَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لا يَجْعَلُ أحَدُكم لِلشَّيْطانِ حَظًّا مِن صَلاتِهِ، يَرى أنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أنْ لا يَنْصَرِفَ إلّا عَنْ يَمِينِهِ. فَجَعَلَ هَذا القَدْرَ اليَسِيرَ النَّزْرِ حَظًّا ونَصِيبًا لِلشَّيْطانِ مِن صَلاةِ العَبْدِ. فَما الظَّنُّ بِما فَوْقَهُ؟
وَأمّا حَظُّ النَّفْسِ مِنَ العَمَلِ فَلا يَعْرِفُهُ إلّا أهْلُ البَصائِرِ الصّادِقُونَ.
الثّانِي: عِلْمُهُ بِما يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلالُهُ مِن حُقُوقِ العُبُودِيَّةِ، وآدابِها الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، وشُرُوطِها، وأنَّ العَبْدَ أضْعَفُ وأعْجَزُ وأقَلُّ مِن أنْ يُوَفِّيَها حَقًّا، وأنْ يَرْضى بِها لِرَبِّهِ. فالعارِفُ لا يَرْضى بِشَيْءٍ مِن عَمَلِهِ لِرَبِّهِ، ولا يَرْضى نَفْسَهُ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. ويَسْتَحْيِي مِن مُقابَلَةِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ.
فَسُوءُ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ وعَمَلِهِ وبُغْضُهُ لَها، وكَراهَتُهُ لِأنْفاسِهِ وصُعُودِها إلى اللَّهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الرِّضا بِعَمَلِهِ، والرِّضا عَنْ نَفْسِهِ.
وَكانَ بَعْضُ السَّلَفُ يُصَلِّي في اليَوْمِ واللَّيْلَةَ أرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَقْبِضُ عَلى لِحْيَتِهِ ويَهُزُّها. ويَقُولُ لِنَفْسِهِ: يا مَأْوى كُلِّ سُوءٍ، وهَلْ رَضِيتُكَ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ؟
وَقالَ بَعْضُهُمْ: آفَةُ العَبْدِ رِضاهُ عَنْ نَفْسِهِ. ومَن نَظَرَ إلى نَفْسِهِ بِاسْتِحْسانِ شَيْءٍ مِنها فَقَدْ أهْلَكَها. ومَن لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عَلى دَوامِ الأوْقاتِ فَهو مَغْرُورٌ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ الخَجَلُ مِنَ العَمَلِ مَعَ بَذْلِ المَجْهُودِ]
* فَصْلٌ
قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ":
الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: الخَجَلُ مِنَ العَمَلِ مَعَ بَذْلِ المَجْهُودِ، وتَوْفِيرِ الجُهْدِ بِالِاحْتِماءِ مِنَ الشُّهُودِ، ورُؤْيَةِ العَمَلِ في نُورِ التَّوْفِيقِ مِن عَيْنِ الجُودِ.
هَذِهِ ثَلاثَةُ أُمُورِ " خَجَلُهُ " مِن عَمَلِهِ، وهو شِدَّةُ حَيائِهِ مِنَ اللَّهِ؛ إذْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ العَمَلَ صالِحًا لَهُ، مَعَ بَذْلِ مَجْهُودِهِ فِيهِ. قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٠].
قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، ويُصَلِّي، ويَتَصَدَّقُ، ويَخافُ أنْ لا يُقْبَلَ مِنهُ».
وَقالَ بَعْضُهُمْ: إنِّي لَأُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَأقُومُ عَنْهُما بِمَنزِلَةِ السّارِقِ أوِ الزّانِي، الَّذِي يَراهُ النّاسُ، حَياءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ.
فالمُؤْمِنُ: جَمَعَ إحْسانًا في مَخافَةٍ وسُوءَ ظَنٍّ بِنَفْسِهِ. والمَغْرُورُ: حَسَنُ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ مَعَ إساءَتِهِ.
الثّانِي: تَوْفِيرُ الجُهْدِ بِاحْتِمائِهِ مِنَ الشُّهُودِ، أيْ يَأْتِي بِجُهْدِ الطّاقَةِ في تَصْحِيحِ العَمَلِ، مُحْتَمِيًا عَنْ شُهُودِهِ مِنكَ وبِكَ.
الثّالِثُ: أنْ تَحْتَمِيَ بِنُورِ التَّوْفِيقِ الَّذِي يُنَوِّرُ اللَّهُ بِهِ بَصِيرَةَ العَبْدِ. فَتَرى في ضَوْءِ ذَلِكَ النُّورِ أنَّ عَمَلَكَ مِن عَيْنِ جُودِهِ لا بِكَ، ولا مِنكَ.
فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عَلى خَمْسَةِ أشْياءَ: عَمَلٌ، واجْتِهادٌ فِيهِ، وخَجَلٌ، وحَياءٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وصِيانَةٌ عَنْ شُهُودِهِ مِنكَ، ورُؤْيَتُهُ مِن عَيْنِ جُودِ اللَّهِ سُبْحانَهُ ومِنهُ.
[الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ إخْلاصُ العَمَلِ بِالخَلاصِ مِنَ العَمَلِ]
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: إخْلاصُ العَمَلِ بِالخَلاصِ مِنَ العَمَلِ، تَدَعُهُ يَسِيرُ سَيْرَ العِلْمِ. وتَسِيرُ أنْتَ مُشاهِدًا لِلْحُكْمِ، حُرًّا مِن رِقِّ الرَّسْمِ.
قَدْ فَسَّرَ الشَّيْخُ مُرادَهُ بِإخْلاصِ العَمَلِ مِنَ العَمَلِ بِقَوْلِهِ: تَدَعُهُ يَسِيرُ سَيْرَ العِلْمِ وتَسِيرُ أنْتَ مُشاهِدًا لِلْحُكْمِ.
وَمَعْنى كَلامِهِ: أنَّكَ تَجْعَلُ عَمَلَكَ تابِعًا لِعِلْمٍ، مُوافِقًا لَهُ، مُؤْتَمًّا بِهِ. تَسِيرُ بِسَيْرِهِ وتَقِفُ بِوُقُوفِهِ، وتَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ. نازِلًا مَنازِلَهُ، مُرْتَوِيًا مِن مَوارِدِهِ، ناظِرًا إلى الحُكْمِ الدِّينِيِّ الأمْرِيِّ، مُتَقَيِّدًا بِهِ، فِعْلًا وتَرْكًا، وطَلَبًا وهَرَبًا. ناظِرًا إلى تَرَتُّبِ الثَّوابِ والعِقابِ عَلَيْهِ سَبَبًا وكَسْبًا. ومَعَ ذَلِكَ فَتَسِيرُ أنْتَ بِقَلْبِكَ، مُشاهِدًا لِلْحُكْمِ الكَوْنِيِّ القَضائِيِّ، الَّذِي تَنْطَوِي فِيهِ الأسْبابُ والمُسَبَّباتُ، والحَرَكاتُ والسَّكَناتُ. ولا يَبْقى هُناكَ غَيْرُ مَحْضِ المَشِيئَةِ، وتَفَرُّدِ الرَّبِّ وحْدَهُ بِالأفْعالِ، ومَصْدَرِها عَنْ إرادَتِهِ ومَشِيئَتِهِ. فَيَكُونُ قائِمًا بِالأمْرِ والنَّهْيِ فِعْلًا وتَرْكًا، سائِرًا بِسَيْرِهِ، وبِالقَضاءِ والقَدَرِ، إيمانًا وشُهُودًا وحَقِيقَةً. فَهو ناظِرٌ إلى الحَقِيقَةِ. قائِمٌ بِالشَّرِيعَةِ.
وَهَذانِ الأمْرانِ هُما عُبُودِيَّةُ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ - وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ [التكوير: ٢٨-٢٩] وقالَ تَعالى: ﴿إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا - وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان: ٢٩-٣٠].
فَتَرْكُ العَمَلِ يَسِيرُ سَيْرَ العِلْمِ: مَشْهَدُ: ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: ٢٨]، وسَيْرُ صاحِبِهِ
مُشاهِدًا لِلْحُكْمِ: مَشْهَدُ: ﴿وَما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ [التكوير: ٢٩].
وَأمّا قَوْلُهُ: حُرًّا مِن رِقِّ الرَّسْمِ، فالحُرِّيَّةُ الَّتِي يُشِيرُونَ إلَيْها: هي عَدَمُ الدُّخُولِ تَحْتَ عُبُودِيَّةِ الخَلْقِ والنَّفْسِ، والدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّ عُبُودِيَّةِ الحَقِّ وحْدَهُ.
وَمُرادُهم بِالرَّسْمِ: ما سِوى اللَّهِ، فَكُلُّهُ رُسُومٌ. فَإنَّ الرُّسُومَ هي الآثارُ. ورُسُومُ المَنازِلِ والدِّيارِ: هي الآثارُ الَّتِي تَبْقى بَعْدَ سُكّانِها. والمَخْلُوقاتُ بِأسْرِها في مَنزِلِ الحَقِيقَةِ رُسُومٌ وآثارٌ لِلْقُدْرَةِ؛ أيْ فَتُخَلِّصُ نَفْسَكَ مِن عُبُودِيَّةِ كُلِّ ما سِوى اللَّهِ، وتَكُونُ بِقَلْبِكَ مَعَ القادِرِ الحَقِّ وحْدَهُ. لا مَعَ آثارِ قُدْرَتِهِ الَّتِي هي رُسُومٌ. فَلا تَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ لِتَشْغَلَها بِعُبُودِيَّتِهِ. ولا تَطْلُبُ بِعُبُودِيَّتِكَ لَهُ حالًا ولا مَقامًا. ولا مُكاشَفَةً، ولا شَيْئًا سِواهُ.
فَهَذِهِ أرْبَعَةُ أُمُورٍ: بَذْلُ الجُهْدِ، وتَحْكِيمُ العِلْمِ، والنَّظَرُ إلى الحَقِيقَةِ، والتَّخَلُّصُ مِنَ الِالتِفاتِ إلى غَيْرِهِ. واللَّهُ المُوَفِّقُ والمُعِينُ.
* [فَصْلٌ حَقِيقَةُ الإخْلاصِ تَوْحِيدُ المَطْلُوبِ]
* فَصْلٌ
الإخْلاصُ عَدَمُ انْقِسامِ المَطْلُوبِ. والصِّدْقُ عَدَمُ انْقِسامِ الطَّلَبِ.
فَحَقِيقَةُ الإخْلاصِ: تَوْحِيدُ المَطْلُوبِ. وحَقِيقَةُ الصِّدْقِ: تَوْحِيدُ الطَّلَبِ والإرادَةِ. ولا يُثْمِرانِ إلّا بِالِاسْتِسْلامِ المَحْضِ لِلْمُتابَعَةِ.
فَهَذِهِ الأرْكانُ الثَّلاثَةُ: هي أرْكانُ السَّيْرِ، وأُصُولُ الطَّرِيقِ الَّتِي مَن لَمْ يَبْنِ عَلَيْها سُلُوكَهُ وسَيْرَهُ فَهو مَقْطُوعٌ. وإنْ ظَنَّ أنَّهُ سائِرٌ، فَسَيْرُهُ إمّا إلى عَكْسِ جِهَةِ مَقْصُودِهِ، وإمّا سَيْرُ المُقْعَدِ والمُقَيَّدِ، وإمّا سَيْرُ صاحِبِ الدّابَّةِ الجَمُوحِ. كُلَّما مَشَتْ خُطْوَةً إلى قُدّامٍ رَجَعَتْ عَشَرَةً إلى الخَلْفِ.
فَإنْ عَدَمَ الإخْلاصَ والمُتابَعَةَ: انْعَكَسَ سَيْرُهُ إلى خَلْفٍ. وإنْ لَمْ يَبْذُلْ جُهْدَهُ ويُوَحِّدْ طَلَبَهُ: سارَ سَيْرَ المُقَيَّدِ.
وَإنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الثَّلاثَةُ: فَذَلِكَ الَّذِي لا يُجارى في مِضْمارِ سَيْرِهِ. وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيِهِ مَن يَشاءُ. واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
{"ayah":"وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ حُنَفَاۤءَ وَیُقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَ ٰلِكَ دِینُ ٱلۡقَیِّمَةِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق