الباحث القرآني
* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الحَياءِ]
[الحَياءُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ]
وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الحَياءِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللَّهَ يَرى﴾
وَقالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكم رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]
وَقالَ تَعالى: ﴿يَعْلَمُ خائِنَةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: ١٩].
وَفِي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ بِرَجُلٍ - وهو يَعِظُ أخاهُ في الحَياءِ - فَقالَ: دَعْهُ. فَإنَّ الحَياءَ مِنَ الإيمانِ».
وَفِيهِما عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
«الحَياءُ لا يَأْتِي إلّا بِخَيْرٍ».
وَفِيهِما عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. أنَّهُ قالَ:
«الإيمانُ بِضْعٌ وسَبْعُونَ شُعْبَةً - أوْ بِضْعٌ وسِتُّونَ شُعْبَةً - فَأفْضَلُها: قَوْلُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وأدْناها إماطَةُ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ. والحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ».
وَفِيهِما عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ:
«كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أشَدَّ حَياءً مِنَ العَذْراءِ في خِدْرِها. فَإذا رَأى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْناهُ في وجْهِهِ».
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ: «إنَّ مِمّا أدْرَكَ النّاسُ مِن كَلامِ النُّبُوَّةِ الأُولى: إذا لَمْ تَسْتَحِ فاصْنَعْ ما شِئْتَ».
وَفِي هَذا قَوْلانِ.
أحَدُهُما: أنَّهُ أمْرُ تَهْدِيدٍ. ومَعْناهُ الخَبَرُ، أيْ مَن لَمْ يَسْتَحِ صَنَعَ ما شاءَ.
والثّانِي: أنَّهُ أمْرُ إباحَةٍ. أيِ انْظُرْ إلى الفِعْلِ الَّذِي تُرِيدُ أنْ تَفْعَلَهُ. فَإنْ كانَ مِمّا لا يُسْتَحْيا مَنهُ فافْعَلْهُ.
والأوَّلُ أصَحُّ. وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا
«اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَياءِ. قالُوا: إنّا نَسْتَحِي يا رَسُولَ اللَّهِ. قالَ: لَيْسَ ذَلِكُمْ، ولَكِنَّ مَنِ اسْتَحْيا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَياءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وما وعى. ولْيَحْفَظِ البَطْنَ وما حَوى. ولْيَذْكُرِ المَوْتَ والبِلى. ومَن أرادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيا. فَمَن فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَياءِ».
* [فَصْلٌ: تَعْرِيفُ الحَياءِ]
والحَياءُ مِنَ الحَياةِ. ومِنهُ الحَيا لِلْمَطَرِ، لَكِنَّهُ مَقْصُورٌ، وعَلى حَسَبِ حَياةِ القَلْبِ يَكُونُ فِيهِ قُوَّةُ خُلُقِ الحَياءِ. وقِلَّةُ الحَياءِ مِن مَوْتِ القَلْبِ والرُّوحِ.
فَكُلَّما كانَ القَلْبُ أحْيى كانَ الحَياءُ أتَمَّ.
قالَ الجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الحَياءُ رُؤْيَةُ الآلاءِ. ورُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ، فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُما حالَةٌ تُسَمّى الحَياءُ.
وَحَقِيقَتُهُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلى تَرْكِ القَبائِحِ. ويَمْنَعُ مِنَ التَّفْرِيطِ في حَقِّ صاحِبِ الحَقِّ.
وَمِن كَلامِ بَعْضِ الحُكَماءِ: أحْيُوا الحَياءَ بِمُجالَسَةِ مَن يُسْتَحْيا مِنهُ. وعِمارَةُ القَلْبِ: بِالهَيْبَةِ والحَياءِ. فَإذا ذَهَبا مِنَ القَلْبِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ خَيْرٌ.
وَقالَ ذُو النُّونِ: الحَياءُ وُجُودُ الهَيْبَةِ في القَلْبِ مَعَ وحْشَةِ ما سَبَقَ مِنكَ إلى رَبِّكَ، والحُبُّ يُنْطِقُ والحَياءُ يُسْكِتُ. والخَوْفُ يُقْلِقُ.
وَقالَ السَّرِيُّ: إنَّ الحَياءَ والأُنْسَ يَطْرُقانِ القَلْبَ. فَإنْ وجَدُوا فِيهِ الزُّهْدَ والوَرَعَ وإلّا رَحَلا.
وَفِي أثَرٍ إلَهِيٍّ، «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ابْنَ آدَمَ. إنَّكَ ما اسْتَحْيَيْتَ مِنِّي أنْسَيْتُ النّاسَ عُيُوبَكَ. وأنْسَيْتُ بِقاعَ الأرْضِ ذُنُوبَكَ. ومَحَوْتُ مِن أُمِّ الكِتابِ زَلّاتِكَ. وإلّا ناقَشْتُكَ الحِسابَ يَوْمَ القِيامَةِ».
وَفِي أثَرٍ آخَرَ: «أوْحى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إلى عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: عِظْ نَفْسَكَ. فَإنِ اتَّعَظَتْ، وإلّا فاسْتَحِي مِنِّي أنْ تَعِظَ النّاسَ».
وَقالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ: خَمْسٌ مِن عَلاماتِ الشِّقْوَةِ: القَسْوَةُ في القَلْبِ. وجُمُودُ العَيْنِ. وقِلَّةُ الحَياءِ. والرَّغْبَةُ في الدُّنْيا. وطُولُ الأمَلِ.
وَفِي أثَرٍ إلَهِيٍّ: «ما أنْصَفَنِي عَبْدِي. يَدْعُونِي فَأسْتَحْيِي أنْ أرُدَّهُ. ويَعْصِينِي ولا يَسْتَحْيِي مِنِّي».
وَقالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ: مَنِ اسْتَحْيا مِنَ اللَّهِ مُطِيعًا اسْتَحْيا اللَّهُ مِنهُ وهو مُذْنِبٌ.
وَهَذا الكَلامُ يَحْتاجُ إلى شَرْحٍ.
وَمَعْناهُ: أنَّ مَن غَلَبَ عَلَيْهِ خُلُقُ الحَياءِ مِنَ اللَّهِ حَتّى في حالِ طاعَتِهِ. فَقَلْبُهُ مُطْرَقٌ بَيْنَ يَدَيْهِ إطْراقَ مُسْتَحٍ خَجِلٍ: فَإنَّهُ إذا واقَعَ ذَنْبًا اسْتَحْيا اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِن نَظَرِهِ إلَيْهِ في تِلْكَ الحالِ لِكَرامَتِهِ عَلَيْهِ. فَيَسْتَحْيِي أنْ يَرى مِن ولِيِّهِ ومَن يُكْرَمُ عَلَيْهِ: ما يَشِينُهُ عِنْدَهُ. وفي الشّاهِدِ شاهِدٌ بِذَلِكَ. فَإنَّ الرَّجُلَ إذا اطَّلَعَ عَلى أخَصِّ النّاسِ بِهِ، وأحَبِّهِمْ إلَيْهِ، وأقْرَبِهِمْ مِنهُ - مِن صاحِبٍ، أوْ ولَدٍ، أوْ مَن يُحِبُّهُ - وهو يَخُونُهُ. فَإنَّهُ يَلْحَقُهُ مِن ذَلِكَ الِاطِّلاعِ عَلَيْهِ حَياءٌ عَجِيبٌ. حَتّى كَأنَّهُ هو الجانِي. وهَذا غايَةُ الكَرَمِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ سَبَبَ هَذا الحَياءِ أنَّهُ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ في حالِ طاعَتِهِ كَأنَّهُ يَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ. فَيَسْتَحْيِي مِنهُ في تِلْكَ الحالِ. ولِهَذا شُرِعَ الِاسْتِغْفارُ عُقَيْبَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ، والقُرَبُ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِها العَبْدُ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ.
وَقِيلَ: إنَّهُ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ خائِنًا، فَيَلْحَقُهُ الحَياءُ. كَما إذا شاهَدَ رَجُلًا مَضْرُوبًا وهو صَدِيقٌ لَهُ، أوْ مَن قَدْ أُحْصِرَ عَلى المِنبَرِ عَنِ الكَلامِ، فَإنَّهُ يَخْجَلُ أيْضًا. تَمْثِيلًا لِنَفْسِهِ بِتِلْكَ الحالِ.
وَهَذا قَدْ يَقَعُ. ولَكِنَّ حَياءَ مَنِ اطَّلَعَ عَلى مَحْبُوبِهِ وهو يَخُونُهُ لَيْسَ مِن هَذا. فَإنَّهُ لَوِ اطَّلَعَ عَلى غَيْرِهِ مِمَّنْ هو فارِغُ البالِ مِنهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ هَذا الحَياءُ ولا قَرِيبٌ مِنهُ. وإنَّما يَلْحَقُهُ مَقْتُهُ وسُقُوطُهُ مِن عَيْنِهِ. وإنَّما سَبَبُهُ - واللَّهُ أعْلَمُ - شِدَّةُ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ ونَفْسِهِ بِهِ. فَيُنْزِلُ الوَهْمُ فِعْلَهُ بِمَنزِلَةِ فِعْلِهِ هو. ولا سِيَّما إنْ قُدِّرَ حُصُولُ المُكاشَفَةِ بَيْنَهُما. فَإنَّ عِنْدَ حُصُولِها يَهِيجُ خُلُقُ الحَياءِ مِنهُ تَكَرُّمًا. فَعِنْدَ تَقْدِيرِها يَنْبَعِثُ ذَلِكَ الحَياءُ. هَذا في حَقِّ الشّاهِدِ.
وَأمّا حَياءُ الرَّبِّ تَعالى مِن عَبْدِهِ: فَذاكَ نَوْعٌ آخَرُ. لا تُدْرِكُهُ الأفْهامُ. ولا تَكَيَّفُهُ العُقُولُ. فَإنَّهُ حَياءُ كَرَمٍ وبِرٍّ وُجُودٍ وجَلالٍ. فَإنَّهُ تَبارَكَ وتَعالى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِن عَبْدِهِ إذا رَفَعَ إلَيْهِ يَدَيْهِ أنْ يَرُدَّهُما صِفْرًا. ويَسْتَحْيِي أنْ يُعَذِّبَ ذا شَيْبَةٍ شابَتْ في الإسْلامِ.
وَكانَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ يَقُولُ: سُبْحانَ مَن يُذْنِبُ عَبْدُهُ ويَسْتَحْيِي هو. وفي أثَرٍ: «مَنِ اسْتَحْيا مِنَ اللَّهِ اسْتَحْيا اللَّهُ مِنهُ».
[أقْسامُ الحَياءِ]
وَقَدْ قَسَّمَ الحَياءَ عَلى عَشَرَةِ أوْجُهٍ: حَياءُ جِنايَةٍ. وحَياءُ تَقْصِيرٍ. وحَياءُ إجْلالٍ. وحَياءُ كَرَمٍ. وحَياءُ حِشْمَةٍ. وحَياءُ اسْتِصْغارٍ لِلنَّفْسِ واحْتِقارٍ لَها. وحَياءُ مَحَبَّةٍ. وحَياءُ عُبُودِيَّةٍ. وحَياءُ شَرَفٍ وعِزَّةٍ. وحَياءُ المُسْتَحْيِي مِن نَفْسِهِ.
فَأمّا حَياءُ الجِنايَةِ: فَمِنهُ حَياءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا فَرَّ هارِبًا في الجَنَّةِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى: «أفِرارًا مِنِّي يا آدَمُ؟ قالَ: لا يا رَبِّ. بَلْ حَياءً مِنكَ».
وَحَياءُ التَّقْصِيرِ: كَحَياءِ المَلائِكَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ، فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ قالُوا: سُبْحانَكَ! ما عَبَدْناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ.
وَحَياءُ الإجْلالِ: هو حَياءُ المَعْرِفَةِ. وعَلى حَسَبِ مَعْرِفَةِ العَبْدِ بِرَبِّهِ يَكُونُ حَياؤُهُ مِنهُ.
وَحَياءُ الكَرَمِ: كَحَياءِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ دَعاهم إلى ولِيمَةِ زَيْنَبَ، وطَوَّلُوا الجُلُوسَ عِنْدَهُ. فَقامَ واسْتَحْيا أنْ يَقُولَ لَهُمُ: انْصَرِفُوا.
وَحَياءُ الحِشْمَةِ: كَحَياءِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنْ يَسْألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ المَذْيِ لِمَكانِ ابْنَتِهِ مِنهُ.
وَحَياءُ الِاسْتِحْقارِ واسْتِصْغارِ النَّفْسِ: كَحَياءِ العَبْدِ مِن رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ حِينَ يَسْألُهُ حَوائِجَهُ، احْتِقارًا لِشَأْنِ نَفْسِهِ، واسْتِصْغارًا لَها. وفي أثَرٍ إسْرائِيلِيٍّ: «إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: يا رَبِّ، إنَّهُ لَتُعْرَضُ لِيَ الحاجَةُ مِنَ الدُّنْيا. فَأسْتَحْيِي أنْ أسْألَكَ هي يا رَبِّ. فَقالَ اللَّهُ تَعالى: سَلْنِي حَتّى مِلْحَ عَجِينَتِكَ. وعَلَفَ شاتِكَ».
وَقَدْ يَكُونُ لِهَذا النَّوْعِ سَبَبانِ.
أحَدُهُما: اسْتِحْقارُ السّائِلِ نَفْسَهُ. واسْتِعْظامُ ذُنُوبِهِ وخَطاياهُ.
الثّانِي: اسْتِعْظامُ مَسْئُولِهِ.
وَأمّا حَياءُ المَحَبَّةِ: فَهو حَياءُ المُحِبِّ مِن مَحْبُوبِهِ، حَتّى إنَّهُ إذا خَطَرَ عَلى قَلْبِهِ في غَيْبَتِهِ هاجَ الحَياءُ مِن قَلْبِهِ، وأحَسَّ بِهِ في وجْهِهِ. ولا يَدْرِي ما سَبَبُهُ. وكَذَلِكَ يَعْرِضُ لِلْمُحِبِّ عِنْدَ مُلاقاتِهِ مَحْبُوبِهِ ومُفاجَأتِهِ لَهُ رَوْعَةٌ شَدِيدَةٌ. ومِنهُ قَوْلُهُمْ: جَمالٌ رائِعٌ. وسَبَبُ هَذا الحَياءِ والرَّوْعَةِ مِمّا لا يَعْرِفُهُ أكْثَرُ النّاسِ. ولا رَيْبَ أنَّ لِلْمَحَبَّةِ سُلْطانًا قاهِرًا لِلْقَلْبِ أعْظَمَ مِن سُلْطانِ مَن يَقْهَرُ البَدَنَ. فَأيْنَ مَن يَقْهَرُ قَلْبَكَ ورُوحَكَ إلى مَن يَقْهَرُ بَدَنَكَ؟ ولِذَلِكَ تَعَجَّبَتِ المُلُوكُ والجَبابِرَةُ مِن قَهْرِهِمْ لِلْخَلْقِ وقَهْرِ المَحْبُوبِ لَهُمْ، وذُلِّهِمْ لَهُ. فَإذا فاجَأ المَحْبُوبُ مُحِبَّهُ. ورَآهُ بَغْتَةً: أحَسَّ القَلْبُ بِهُجُومِ سُلْطانِهِ عَلَيْهِ. فاعْتَراهُ رَوْعَةٌ وخَوْفٌ.
وَسَألْنا يَوْمًا شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - عَنْ هَذِهِ المَسْألَةِ؟ فَذَكَرْتُ أنا هَذا الجَوابَ. فَتَبَسَّمَ ولَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
وَأمّا الحَياءُ الَّذِي يَعْتَرِيهِ مِنهُ، وإنْ كانَ قادِرًا عَلَيْهِ - كَأمَتِهِ وزَوْجَتِهِ - فَسَبَبُهُ - واللَّهُ أعْلَمُ - أنَّ هَذا السُّلْطانَ لَمّا زالَ خَوْفُهُ عَنِ القَلْبِ بَقِيَتْ هَيْبَتُهُ واحْتِشامُهُ. فَتَوَلَّدَ مِنها الحَياءُ. وأمّا حُصُولُ ذَلِكَ لَهُ في غَيْبَةِ المَحْبُوبِ: فَظاهِرٌ. لِاسْتِيلائِهِ عَلى قَلْبِهِ. فَوَهْمُهُ يُغالِطُهُ عَلَيْهِ ويُكابِرُهُ، حَتّى كَأنَّهُ مَعَهُ.
وَأمّا حَياءُ العُبُودِيَّةِ: فَهو حَياءٌ مُمْتَزِجٌ مِن مَحَبَّةٍ وخَوْفٍ، ومُشاهَدَةِ عَدَمِ صَلاحِ عُبُودِيَّتِهِ لِمَعْبُودِهِ، وأنَّ قَدْرَهُ أعْلى وأجَلُّ مِنها. فَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ تُوجِبُ اسْتِحْياءَهُ مِنهُ لا مَحالَةَ.
وَأمّا حَياءُ الشَّرَفِ والعِزَّةِ: فَحَياءُ النَّفْسِ العَظِيمَةِ الكَبِيرَةِ إذا صَدَرَ مِنها ما هو دُونَ قَدْرِها مِن بَذْلٍ أوْ عَطاءٍ وإحْسانٍ. فَإنَّهُ يَسْتَحْيِي مَعَ بَذْلِهِ حَياءَ شَرَفِ نَفْسٍ وعِزَّةٍ. وهَذا لَهُ سَبَبانِ.
أحَدُهُما هَذا. والثّانِي: اسْتِحْياؤُهُ مِنَ الآخِذِ، حَتّى كَأنَّهُ هو الآخِذُ السّائِلُ. حَتّى إنَّ بَعْضَ أهْلِ الكَرَمِ لا تُطاوِعُهُ نَفْسُهُ بِمُواجَهَتِهِ لِمَن يُعْطِيهِ حَياءً مِنهُ. وهَذا يَدْخُلُ في حَياءِ التَّلَوُّمِ. لِأنَّهُ يَسْتَحْيِي مِن خَجْلَةِ الآخِذِ.
وَأمّا حَياءُ المَرْءِ مِن نَفْسِهِ: فَهو حَياءُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ العَزِيزَةِ الرَّفِيعَةِ مِن رِضاها لِنَفْسِها بِالنَّقْصِ، وقَناعَتِها بِالدُّونِ. فَيَجِدُ نَفْسَهُ مُسْتَحِيًا مِن نَفْسِهِ، حَتّى كَأنَّ لَهُ نَفْسَيْنِ، يَسْتَحْيِي بِإحْداهُما مِنَ الأُخْرى.
وَهَذا أكْمَلُ ما يَكُونُ مِنَ الحَياءِ فَإنَّ العَبْدَ إذا اسْتَحْيى مِن نَفْسِهِ. فَهو بِأنْ يَسْتَحْيِيَ مِن غَيْرِهِ أجْدَرُ.
* [فَصْلٌ: الحَياءُ أوَّلُ مَدارِجِ أهْلِ الخُصُوصِ]
قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ":
الحَياءُ: مِن أوَّلِ مَدارِجِ أهْلِ الخُصُوصِ. يَتَوَلَّدُ مِن تَعْظِيمٍ مَنُوطٍ بِوُدٍّ.
إنَّما جَعَلَ الحَياءَ مِن أوَّلِ مَدارِجِ أهْلِ الخُصُوصِ: لِما فِيهِ مِن مُلاحَظَةِ حُضُورِ مَن يَسْتَحْيِي مِنهُ. وأوَّلُ سُلُوكِ أهْلِ الخُصُوصِ: أنْ يَرَوُا الحَقَّ سُبْحانَهُ حاضِرًا مَعَهُمْ، وعَلَيْهِ بِناءُ سُلُوكِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: إنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِن تَعْظِيمٍ مَنُوطٍ بِوُدٍّ.
يَعْنِي: أنَّ الحَياءَ حالَةٌ حاصِلَةٌ مِنِ امْتِزاجِ التَّعْظِيمِ بِالمَوَدَّةِ. فَإذا اقْتَرَنا تَوَلَّدَ بَيْنَهُما الحَياءُ.
والجُنَيْدُ يَقُولُ: إنَّ تَوَلُّدَهُ مِن مُشاهَدَةِ النِّعَمِ. ورُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ.
وَمِنهم مَن يَقُولُ: تُوَلُّدُهُ مِن شُعُورِ القَلْبِ بِما يَسْتَحْيِي مِنهُ. فَيَتَوَلَّدُ مِن هَذا الشُّعُورِ والنُّفْرَةِ حالَةٌ تُسَمّى الحَياءَ.
وَلا تَنافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الأقْوالِ. فَإنَّ لِلْحَياءِ عِدَّةَ أسْبابٍ. قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُها فَكَلٌّ أشارَ إلى بَعْضِها. واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ دَرَجاتُ الحَياءِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى حَياءٌ يَتَوَلَّدُ مِن عِلْمِ العَبْدِ بِنَظَرِ الحَقِّ إلَيْهِ]
قالَ: وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ. الدَّرَجَةُ الأُولى: حَياءٌ يَتَوَلَّدُ مِن عِلْمِ العَبْدِ بِنَظَرِ الحَقِّ إلَيْهِ. فَيَجْذِبُهُ إلى تَحَمُّلِ هَذِهِ المُجاهَدَةِ. ويَحْمِلُهُ عَلى اسْتِقْباحِ الجِنايَةِ. ويُسْكِتُهُ عَنِ الشَّكْوى.
يَعْنِي: أنَّ العَبْدَ مَتى عَلِمَ أنَّ الرَّبَّ تَعالى ناظِرٌ إلَيْهِ أوْرَثَهُ هَذا العِلْمُ حَياءً مِنهُ. يَجْذِبُهُ إلى احْتِمالِ أعْباءِ الطّاعَةِ، مِثْلَ العَبْدِ إذا عَمِلَ الشُّغْلَ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ، فَإنَّهُ يَكُونُ نَشِيطًا فِيهِ، مُحْتَمِلًا لِأعْبائِهِ. ولا سِيَّما مَعَ الإحْسانِ مِن سَيِّدِهِ إلَيْهِ، ومَحَبَّتِهِ لِسَيِّدِهِ.
بِخِلافِ ما إذا كانَ غائِبًا عَنْ سَيِّدِهِ.
والرَّبُّ تَعالى لا يَغِيبُ نَظَرُهُ عَنْ عَبْدِهِ. ولَكِنْ يَغِيبُ نَظَرُ القَلْبِ والتِفاتُهُ إلى نَظَرِهِ سُبْحانَهُ إلى العَبِيدِ.
فَإنَّ القَلْبَ إذا غابَ نَظَرُهُ، وقَلَّ التِفاتُهُ إلى نَظَرِ اللَّهِ تَبارَكَ وتَعالى إلَيْهِ: تَوَلَّدَ مِن ذَلِكَ قِلَّةُ الحَياءِ والقِحَةُ.
وَكَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلى اسْتِقْباحِ جِنايَتِهِ. وهَذا الِاسْتِقْباحُ الحاصِلُ بِالحَياءِ قَدْرٌ زائِدٌ عَلى اسْتِقْباحِ مُلاحَظَةِ الوَعِيدِ. وهو فَوْقَهُ.
وَأرْفَعُ مِنهُ دَرَجَةً: الِاسْتِقْباحُ الحاصِلُ عَنِ المَحَبَّةِ. فاسْتِقْباحُ المُحِبِّ أتَمُّ مِنِ اسْتِقْباحِ الخائِفِ.
وَلِذَلِكَ فَإنَّ هَذا الحَياءَ يَكُفُّ العَبْدَ أنْ يَشْتَكِيَ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَيَكُونَ قَدْ شَكا اللَّهَ إلى خَلْقِهِ. ولا يَمْنَعُ الشَّكْوى إلَيْهِ سُبْحانَهُ. فَإنَّ الشَّكْوى إلَيْهِ سُبْحانَهُ فَقْرٌ، وذِلَّةٌ، وفاقَةٌ، وعُبُودِيَّةٌ. فالحَياءُ مِنهُ في مِثْلِ ذَلِكَ لا يُنافِيها.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ حَياءٌ يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّظَرِ في عِلْمِ القُرْبِ]
* فَصْلٌ
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: حَياءٌ يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّظَرِ في عِلْمِ القُرْبِ. فَيَدْعُوهُ إلى رُكُوبِ المَحَبَّةِ. ويَرْبُطُهُ بِرُوحِ الأُنْسِ. ويُكَرِّهُ إلَيْهِ مُلابَسَةَ الخَلْقِ.
النَّظَرُ في عِلْمِ القُرْبِ: تَحَقُّقُ القَلْبِ بِالمَعِيَّةِ الخاصَّةِ مَعَ اللَّهِ. فَإنَّ المَعِيَّةَ نَوْعانِ: عامَّةٌ. وهِيَ: مَعِيَّةُ العِلْمِ والإحاطَةِ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكم أيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ [الحديد: ٤] وقَوْلِهِ: ﴿ما يَكُونُ مِن نَجْوى ثَلاثَةٍ إلّا هو رابِعُهم ولا خَمْسَةٍ إلّا هو سادِسُهم ولا أدْنى مِن ذَلِكَ ولا أكْثَرَ إلّا هو مَعَهم أيْنَ ما كانُوا﴾ [المجادلة: ٧].
وَخاصَّةٌ: وهي مَعِيَّةُ القُرْبِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٣] وقَوْلِهِ: ﴿وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩].
فَهَذِهِ مَعِيَّةُ قُرْبٍ. تَتَضَمَّنُ المُوالاةَ، والنَّصْرَ، والحِفْظَ. وكِلا المَعْنَيَيْنِ مُصاحَبَةٌ مِنهُ لِلْعَبْدِ. لَكِنَّ هَذِهِ مُصاحَبَةُ اطِّلاعٍ وإحاطَةٍ. وهَذِهِ مُصاحَبَةُ مُوالاةٍ ونَصْرٍ وإعانَةٍ. فَ " مَعَ " في لُغَةِ العَرَبِ تُفِيدُ الصُّحْبَةَ اللّائِقَةَ، لا تُشْعِرُ بِامْتِزاجٍ ولا اخْتِلاطٍ، ولا مُجاوَرَةٍ، ولا مُجانَبَةٍ. فَمَن ظَنَّ مِنها شَيْئًا مِن هَذا فَمِن سُوءِ فَهْمِهِ أُتِيَ.
وَأمّا القُرْبُ: فَلا يَقَعُ القُرْآنُ إلّا خاصًّا. وهو نَوْعانِ: قُرْبُهُ مِن داعِيهِ بِالإجابَةِ. وقُرْبُهُ مِن عابِدِهِ بِالإثابَةِ.
فالأوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا سَألَكَ عِبادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دَعانِ﴾ [البقرة: ١٨٦].
وَلِهَذا نَزَلَتْ جَوابًا لِلصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. وقَدْ سَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: رَبُّنا قَرِيبٌ فَنُناجِيَهُ؟ أمْ بَعِيدٌ فَنُنادِيَهُ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ.
والثّانِي: قَوْلُهُ ﷺ: «أقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجِدٌ. وأقْرَبُ ما يَكُونُ الرَّبُّ مِن عَبْدِهِ في جَوْفِ اللَّيْلِ».
فَهَذا قُرْبُهُ مِن أهْلِ طاعَتِهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ: عَنْ أبِي مُوسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قالَ: «كُنّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في سَفَرٍ. فارْتَفَعَتْ أصْواتُنا بِالتَّكْبِيرِ. فَقالَ: يا أيُّها النّاسُ، أرْبِعُوا عَلى أنْفُسِكم. إنَّكم لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غائِبًا. إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ. أقْرَبُ إلى أحَدِكم مِن عُنُقِ راحِلَتِهِ».
فَهَذا قُرْبٌ خاصٌّ بِالدّاعِي دُعاءَ العِبادَةِ والثَّناءِ والحَمْدِ. وهَذا القُرْبُ لا يُنافِي كَمالَ مُبايَنَةِ الرَّبِّ لِخَلْقِهِ، واسْتِواءَهُ عَلى عَرْشِهِ. بَلْ يُجامِعُهُ ويُلازِمُهُ. فَإنَّهُ لَيْسَ كَقُرْبِ الأجْسامِ بَعْضِها مِن بَعْضٍ. تَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. ولَكِنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ. والعَبْدُ في الشّاهِدِ يَجِدُ رُوحَهُ قَرِيبَةً جِدًّا مِن مَحْبُوبٍ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ مَفاوِزُ تَتَقَطَّعُ فِيها أعْناقُ المَطِيِّ. ويَجِدُهُ أقْرَبَ إلَيْهِ مِن جَلِيسِهِ. كَما قِيلَ.
؎ألا رُبَّ مَن يَدْنُو ويَزْعُمُ أنَّهُ ∗∗∗ يُحِبُّكَ والنّائِي أحَبُّ وأقْرَبُ
وَأهْلُ السُّنَّةِ أوْلِياءُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ووَرَثَتُهُ وأحِبّاؤُهُ، الَّذِينَ هو عِنْدَهم أوْلى بِهِمْ مِن أنْفُسِهِمْ. وأحَبُّ إلَيْهِمْ مِنها: يَجِدُونَ نُفُوسَهم أقْرَبَ إلَيْهِ. وهم في الأقْطارِ النّائِيَةِ عَنْهُ مِن جِيرانِ حُجْرَتِهِ في المَدِينَةِ، والمُحِبُّونَ المُشْتاقُونَ لِلْكَعْبَةِ والبَيْتِ الحَرامِ يَجِدُونَ قُلُوبَهم وأرْواحَهم أقْرَبَ إلَيْها مِن جِيرانِها ومَن حَوْلَها. هَذا مَعَ عَدَمِ تَأتِّي القُرْبِ مِنها.
فَكَيْفَ بِمَن يَقْرُبُ مِن خَلْقِهِ كَيْفَ يَشاءُ، وهو مُسْتَوٍ عَلى عَرْشِهِ. وأهْلُ الذَّوْقِ لا يَلْتَفِتُونَ في ذَلِكَ إلى شُبْهَةِ مُعَطِّلٍ بَعِيدٍ مِنَ اللَّهِ، خَلِيٍّ مِن مَحَبَّتِهِ ومَعْرِفَتِهِ.
والقَصْدُ: أنَّ هَذا القُرْبَ يَدْعُو صاحِبَهُ إلى رُكُوبِ المَحَبَّةِ. وكُلَّما ازْدادَ حُبًّا ازْدادَ قُرْبًا.
فالمَحَبَّةُ بَيْنَ قُرْبَيْنِ: قُرْبٍ قَبْلَها، وقُرْبٍ بَعْدَها، وبَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ: مَعْرِفَةٍ قَبْلَها حَمَلَتْ عَلَيْها، ودَعَتْ إلَيْها، ودَلَّتْ عَلَيْها. ومَعْرِفَةٍ بَعْدَها. هي مِن نَتائِجِها وآثارِها.
وَأمّا رَبْطُهُ بِرُوحِ الأُنْسِ: فَهو تَعَلُّقُ قَلْبِهِ بِرُوحِ الأُنْسِ بِاللَّهِ، تَعَلُّقًا لازِمًا لا يُفارِقُهُ. بَلْ يَجْعَلُ بَيْنَ القَلْبِ والأُنْسِ رابِطَةً لازِمَةٍ. ولا رَيْبَ أنَّ هَذا يُكَرِّهُ إلَيْهِ مُلابَسَةَ الخَلْقِ. بَلْ يَجِدُ الوَحْشَةَ في مُلابَسَتِهِمْ بِقَدْرِ أُنْسِهِ بِرَبِّهِ، وقُرَّةِ عَيْنِهِ بِحُبِّهِ وقُرْبِهِ مِنهُ. فَإنَّهُ لَيْسَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ. فَإنْ لابَسَهم لابَسَهم بِرَسْمِهِ دُونَ سِرِّهِ ورُوحِهِ وقَلْبِهِ. فَقَلْبُهُ ورُوحُهُ في مَلَأٍ، وبَدَنُهُ ورَسْمُهُ في مَلَأٍ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ حَياءٌ يَتَوَلَّدُ مِن شُهُودِ الحَضْرَةِ]
قالَ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: حَياءٌ يَتَوَلَّدُ مِن شُهُودِ الحَضْرَةِ. وهي الَّتِي لا تَشُوبُها هَيْبَةٌ. ولا تُقارِنُها تَفْرِقَةٌ. ولا يُوقَفُ لَها عَلى غايَةٍ.
شُهُودُ الحَضْرَةِ: انْجِذابُ الرُّوحِ والقَلْبِ مِنَ الكائِناتِ، وعُكُوفُهُ عَلى رَبِّ البَرِيّاتِ، فَهو في حَضْرَةِ قُرْبِهِ مُشاهِدًا لَها. وإذا وصَلَ القَلْبُ إلَيْها غَشِيَتْهُ الهَيْبَةُ وزالَتْ عَنْهُ التَّفْرِقَةُ. إذْ ما مَعَ اللَّهِ سِواهُ. فَلا يَخْطُرُ بِبالِهِ في تِلْكَ الحالِ سِوى اللَّهِ وحْدَهُ. وهَذا مَقامُ الجَمْعِيَّةِ.
وَأمّا قَوْلُهُ: ولا يُوقَفُ لَها عَلى غايَةٍ.
فَيَعْنِي أنَّ كُلَّ مَن وصَلَ إلى مَطْلُوبِهِ، وظَفِرَ بِهِ: وصَلَ إلى الغايَةِ، إلّا صاحِبَ هَذا المَشْهَدِ. فَإنَّهُ لا يَقِفُ بِحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلى غايَةٍ. فَإنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ. بَلْ إذا شَهِدَ تِلْكَ الرَّوابِيَ. ووَقَفَ عَلى تِلْكَ الرُّبُوعِ، وعايَنَ الحَضْرَةَ الَّتِي هي غايَةُ الغاياتِ، شارَفَ أمْرًا لا غايَةَ لَهُ ولا نِهايَةَ. والغاياتُ والنِّهاياتُ كُلُّها إلَيْهِ تَنْتَهِي ﴿وَأنَّ إلى رَبِّكَ المُنْتَهى﴾ [النجم: ٤٢]
فانْتَهَتْ إلَيْهِ الغاياتُ والنِّهاياتُ. ولَيْسَ لَهُ سُبْحانَهُ غايَةٌ ولا نِهايَةٌ. لا في وُجُودِهِ، ولا في مَزِيدِ جُودِهِ.
إذْ هو الأوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ. والآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ.
وَلا نِهايَةَ لِحَمْدِهِ وعَطائِهِ. بَلْ كُلَّما ازْدادَ لَهُ العَبْدُ شُكْرًا زادَهُ فَضْلًا. وكُلَّما ازْدادَ لَهُ طاعَةً زادَهُ لِمَجْدِهِ مَثُوبَةً. وكُلَّما ازْدادَ مِنهُ قُرْبًا لاحَ لَهُ مِن جَلالِهِ وعَظَمَتِهِ ما لَمْ يُشاهِدْهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وهَكَذا أبَدًا لا يَقِفُ عَلى غايَةٍ ولا نِهايَةٍ. ولِهَذا جاءَ أنَّ أهْلَ الجَنَّةِ في مَزِيدٍ دائِمٍ بِلا انْتِهاءٍ فَإنَّ نَعِيمَهم مُتَّصِلٌ مِمَّنْ لا نِهايَةَ لِفَضْلِهِ ولا لِعَطائِهِ، ولا لِمَزِيدِهِ ولا لِأوْصافِهِ. فَتَبارَكَ اللَّهُ ذُو الجَلالِ والإكْرامِ ﴿إنَّ هَذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِن نَفادٍ﴾ [ص: ٥٤].
«يا عِبادِي لَوْ أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنْسَكم وجِنَّكم قامُوا في صَعِيدٍ واحِدٍ فَسَألُونِي فَأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسانٍ مَسْألَتَهُ ما نَقَصَ ذَلِكَ مِمّا عِنْدِي إلّا كَما يُنْقِصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البَحْرَ».
{"ayah":"أَلَمۡ یَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ یَرَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











