الباحث القرآني

وقوله سبحانه ﴿فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ أصح القولين أن هذا خطاب للإنسان أي فما يكذبك بالجزاء والمعاد بعد هذا البيان وهذا البرهان فتقول إنك لا تبعث ولا تحاسب ولو تفكرت في مبدأ خلقك وصورتك لعلمت أن الذي خلقك أقدر على أن يعيدك بعد موتك وينشئك خلقًا جديدًا وأن ذلك لو أعجزه لأعجزه وأعياه خلقك الأول وأيضًا فإن الذي كمل خلقك في أحسن تقويم بعد أن كنت نطفة من ماء مهين كيف يليق به أن يتركك سدى لا يكمل ذلك بالأمر والنهي وبيان ما ينفعك ويضرك ولا تنقل لدار هي أكمل من هذه ويجعل هذه الدار طريقًا لك إليها فحكمة أحكم الحاكمين تأبى ذلك وتقضي خلافه قال منصور قلت لمجاهد ﴿فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ عنى به محمدًا فقال معاذ الله إثما عنى به الإنسان وقال قتادة الضمير للنبي ﷺ واختاره الفراء وهذا موضع يحتاج إلى شرح وبيان يقال كذب الرجل إذا قال الكذب وكذبته أنا إذا نسبته إلى الكذب ولو اعتقدت صدقه وكذبته إذا اعتقدت كذبه وإن كان صادقًا قال تعالى ﴿فَإنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ﴾ وقال ﴿فَإنَّهم لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ فالأول بمعنى وإن ينسبوك إلى الكذب والثاني بمعنى لا يعتقدون أنك كاذب ولكنهم يعاندون ويدفعون الحق بعد معرفته جحودًا وعنادًا هذا أصل هذه اللفظة ويتعدى الفعل إلى الخبر بنفسه وإلى خبره بالباء ونفي فيقال كذبته بكذا وكذبته فيه والأول أكثر استعمالًا ومنه قوله ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ﴾ وقوله ﴿وَكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ إذا عرف هذا فقوله ﴿فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ اختلف في (ما) هل هي بمعنى أي شيء يكذبك أو بمعنى من الذي يكذبك فمن جعلها بمعنى أي شيء تعين على قوله أن يكون الخطاب للإنسان أي فأي شيء يجعلك بعد هذا البيان مكذبًا بالدين وقد وضحت لك دلائل الصدق والتصديق ومن جعلها بمعنى فمن الذي يكذبك جعل الخطاب للنبي قال الفراء كأنه يقول من يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعدما تبين له من خلق الإنسان ما وصفناه وقال قتادة فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا بالدين وعلى قول قتادة والفراء إشكال من وجهين: أحدهما إقامة ما مقام من وأمره سهل. والثاني أن الجار والمجرور يستدعى متعلقًا وهو يكذبك أي فمن يكذبك بالدين فلا يخلوا إما أن يكون المعنى فمن يجعلك كاذبًا بالدين أو مكذبا به ولا يصح واحدا منهما أما الثاني والثالث فظاهر فإن كذبته ليس معناه جعلته مكذبًا أو مكذبًا وإنما معناه نسبته إلى الكذب فالمعنى على هذا فمن يجعلك بعد كاذبًا بالدين وهذا إنما يتعدى إليه بالباء الفعل المضاعف لا الثلاثي فلا يقال كذب كذا وإنما يقال كذب به وجواب هذا الإشكال أن قوله كذب بكذا معناه كذب المخبر به ثم حذف المفعول به لظهور العلم به حتى كأنه نسي وعدوا الفعل إلى المخبر به فإذا قيل من يكذبك بكذا فهو بمعنى كذبوك بكذا سواء أي نسبوك إلى الكذب في الإخبار به بل الأشكال في قول مجاهد والجمهور فإن الخطاب إذا كان للإنسان وهو المكذب أي فاعل التكذيب فكيف يقال له ما يكذبك أي يجعلك مكذبًا والمعروف كذبه إذا جعله كاذبا لا مكذبا ومثل فسقه إذا جعله فاسقا لا مفسقا لغيره وجواب هذا الأشكال أن صدق وكذب بالتشديد يراد به معنيان أحدهما النسبة وهي إنما تكون للمفعول كما ذكرتم والثاني الداعي والحامل على ذلك وهو يكون للفاعل قال الكسائي يقال ما صدقك بكذا أو ما كذبك بكذا أي ما حملك على التصديق والتكذيب قلت وهو نظير ما أجرأك على هذا أي ما حملك على الاجتراء عليه وما قدمك وما أخرك أي ما دعاك وحملك على التقديم والتأخير وهذا استعمال سائغ موافق للعربية وبالله التوفيق ثم ختم السورة بقوله ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ﴾ وهذا تقرير لمضمون السورة من إثبات النبوة والتوحيد والمعاد وحكمه بتضمن نصره لرسوله على من كذبه وجحد ما جاء به بالحجة والقدرة والظهور عليه وحكمه بين عباده في الدنيا بشرعه وأمره وحكمه بينهم في الآخرة بثوابه وعقابه وإن أحكم الحاكمين لا يليق به تعطيل هذه الأحكام بعد ما ظهرت حكمته في خلق الإنسان في أحسن تقويم ونقله في أطوار التخليق حالًا بعد حال إلى أكمل الأحوال فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن لا يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وهل ذلك إلا قدح في حكمه وحكمته فلله ما أخصر لفظ هذه السورة وأعظم شأنها وأتم معناها. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب