وسمع قارئا يقرأ: ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢)﴾
فقال: شرح الله صدر رسوله ﷺ أتم الشرح، ووضع عنه وزره كل الوضع، ورفع ذكره كل الرفع،
وجعل لأتباعه حظا من ذلك، إذ كل متبوع فلأتباعه حظ ونصيب من حظ متبوعهم في الخير والشر على حسب اتباعهم له.
فأتبع الناس لرسوله ﷺ أشرحهم صدرا، وأوضعهم وزرا، وأرفعهم ذكرا، وكلما قويت متابعته علما وعملا وحالا وجهادا، قويت هذه الثلاثة حتى يصير صاحبها أشرح الناس صدرا، وأرفعهم في العالمين ذكرا.
وأما وضع وزره فكيف لا يوضع عنه ومن في السماوات والأرض ودواب البر والبحر يستغفرون له؟
وهذه الأمور الثلاثة متلازمة، كما أضدادها متلازمة، فالأوزار والخطايا تقبض الصدر وتضيقه، وتخمل الذكر وتضعه، وكذلك ضيق الصدر يضع الذكر و يجلب الوزر، فما وقع أحد في الذنوب والأوزار إلا من ضيق صدره وعدم انشراحه، وكلما ازداد الصدر ضيقا كان أدعى إلى الذنوب والأوزار، لأن مرتكبها إنما يقصد بها شرح صدره، ودفع ما هو فيه من الضيق والحرج، وإلا فلو اتسع بالتوحيد والإيمان ومحبة الله ومعرفته وانشرح بذلك لاستغنى عن شرحه بالأوزار، ولهذا أكثر من يواقع المحظور إنما يدفع به عن نفسه ما فيها من الهم والغم والضيق، وكثيرا ما تبرد شهوته وإرادته، ومع هذا يحرص على المعاودة تداويا منه بزعمه، كما أفصح عن هذا شيخ الفسوق أبو نواس بقوله
؎وكأس شربت على لذة ∗∗∗ وأخرى تداويت منها بها
فإذا حمل العبد الأوزار أوجب له ذلك ضيق الصدر وخمول الذكر، ثم خمول الذكر يوجب له ضيق الصدر فلا يزال
المعرض عن طاعة الله ورسوله مترددا بين هذه المنازل الثلاث، كما لا يزال المطيع لله ورسوله الذي باشر قلبه روح التوحيد وتجريده ومحبة الله ورسوله وامتثال أمره دائرا بين تلك المنازل الثلاث.
وإذا ثقل الظهر بالأوزار منع القلب من السير إلى الله، والجوارح من النهوض في طاعته، وكيف يقطع مسافة السفر مثقلٌ بالحمل على ظهره؟
وكيف ينهض إلى الله قلب قد ثقلته الأوزار؟
فلو وضعت عنه أوزاره لنهض وطار شوقا إلى ربه، ولانقلب عسره يسرا، فإن ضيق
الصدر وحمل الوزر وخمول الذكر من أعظم العسر، ومعه يسر يقلبه
إليه، وهو تجريد التوحيد و تجريد الطاعة بمتابعة الرسول.
وهما الأصلان اللذان ختم بهما السورة، فقال: ﴿فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ (٧) وإلى رَبِّكَ فارْغَبْ (٨)﴾
فالنصب: التفرغ للعبادة والطاعة. والرغبة إلى الله وحده: تجريد توحيده ه فمتى قام بهذين الأصلين حصل له من شرح
الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر بحسب ما قام به، وبدل عسره يسرا.
* (فائدة)
شق صدر النبي ﷺ بتطهير قلبه وحشوه إيمانا وحكمة دليل على أن محل العقل القلب، وهو متصل بالدماغ.
واستدل بعض الفقهاء بغسل قلبه ﷺ في الطست من الذهب على جواز تحلية المصاحف بالذهب والمساجد.
وهو في غايه البعد فإن ذلك كان قبل النبوة، ولم يكن ذلك من ذهب الدنيا، وكان كرامة أكرم بها من فعل الملائكة بأمر الله، وهم ليسوا داخلين تحت تكاليف البشر.
* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ المُرادِ]
[حَقِيقَةُ المُرادِ]
وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ المُرادِ.
أفْرَدَها القَوْمُ بِالذِّكْرِ. وفي الحَقِيقَةِ: فَكُلُّ مُرِيدٍ مُرادٌ. بَلْ لَمْ يَصِرْ مُرِيدًا إلّا بَعْدَ أنْ كانَ مُرادًا. لَكِنَّ القَوْمَ خَصُّوا المُرِيدَ بِالمُبْتَدِئِ، والمُرادَ بِالمُنْتَهِي.
قالَ أبُو عَلِيٍّ الدَّقّاقُ: المُرِيدُ مُتَحَمِّلٌ، والمُرادُ مَحْمُولٌ، وقَدْ كانَ مُوسى ﷺ مُرِيدًا، إذْ قالَ: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ [طه: ٢٥]
وَنَبِيُّنا ﷺ مُرادًا، إذْ قِيلَ لَهُ ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ١].
وَسُئِلَ الجُنَيْدُ عَنِ المُرِيدِ والمُرادِ؟
فَقالَ: المُرِيدُ يَتَوَلّى سِياسَتَهُ العِلْمُ. والمُرادُ: يَتَوَلّى رِعايَتَهُ الحَقُّ. لِأنَّ المُرِيدَ يَسِيرُ، والمُرادَ يَطِيرُ.
فَمَتى يَلْحَقُ السّائِرُ الطّائِرَ؟
{"ayahs_start":1,"ayahs":["أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ","وَوَضَعۡنَا عَنكَ وِزۡرَكَ","ٱلَّذِیۤ أَنقَضَ ظَهۡرَكَ"],"ayah":"أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ"}