الباحث القرآني

ثم وعده بما تقر به عينه وتفرح به نفسه وينشرح به صدره وهو أن يعطيه فيرضى وهذا يعم ما يعطيه من القرآن والهدى والنصر وكثرة الاتباع ورفع ذكره وإعلاء كلمته وما يعطيه بعد مماته وما يعطيه في موقف القيامة وما يعطيه في الجنة وأما ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى وواحد من أمته في النار أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار فهذا من غرور الشيطان لهم ولعبة بهم فإنه صلوات الله وسلامة عليه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى وهو سبحانه يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة ثم يحد لرسوله حدًا يشفع فيهم ورسوله أعرف به وبحقه من أن يقول لا أرضى أن يدخل أحدًا من أمتي النار على أن يدعه فيها بل ربه تبارك وتعالى يأذن له فيشفع فيمن شاء الله أن يشفع فيه ولا يشفع في غير من أذن له فيه ورضيه. * (فصل: الِاغْتِرارُ بِالفَهْمِ الفاسِدِ) وَمِنهم مَن يَغْتَرُّ بِفَهْمٍ فاسِدٍ فَهِمَهُ هو وأضْرابُهُ مِن نُصُوصِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، فاتَّكَلُوا عَلَيْهِ كاتِّكالِ بَعْضِهِمْ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ [الضحى: ٥]. قالَ وهو لا يَرْضى أنْ يَكُونَ في النّارِ أحَدٌ مِن أُمَّتِهِ، وهَذا مِن أقْبَحِ الجَهْلِ، وأبْيَنِ الكَذِبِ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ يَرْضى بِما يَرْضى بِهِ رَبُّهُ عَزَّ وجَلَّ، واللَّهُ تَعالى يُرْضِيهِ تَعْذِيبُ الظَّلَمَةِ والفَسَقَةِ والخَوَنَةِ والمُصِرِّينَ عَلى الكَبائِرِ، فَحاشا رَسُولَهُ أنْ يَرْضى بِما لا يَرْضى بِهِ رَبُّهُ تَبارَكَ وتَعالى. وَكاتِّكالِ بَعْضِهِمْ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٥٣] وَهَذا أيْضًا مِن أقْبَحِ الجَهْلِ، فَإنَّ الشِّرْكَ داخِلٌ في هَذِهِ الآيَةِ، فَإنَّهُ رَأْسُ الذُّنُوبِ وأساسُها، ولا خِلافَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في حَقِّ التّائِبِينَ، فَإنَّهُ يَغْفِرُ ذَنْبَ كُلِّ تائِبٍ مِن أيِّ ذَنْبٍ كانَ، ولَوْ كانَتِ الآيَةُ في حَقِّ غَيْرِ التّائِبِينَ لَبَطَلَتْ نُصُوصُ الوَعِيدِ كُلُّها. وَأحادِيثُ إخْراجِ قَوْمٍ مِنَ المُوَحِّدِينَ مِنَ النّارِ بِالشَّفاعَةِ. وَهَذا إنَّما أتى صاحِبَهُ مِن قِلَّةِ عِلْمِهِ وفَهْمِهِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ هاهُنا عَمَّمَ وأطْلَقَ، فَعُلِمَ أنَّهُ أرادَ التّائِبِينَ، وفي سُورَةِ النِّساءِ خَصَّصَ وقَيَّدَ فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، فَأخْبَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنَّهُ لا يَغْفِرُ الشِّرْكَ، وأخْبَرَ أنَّهُ يَغْفِرُ ما دُونَهُ، ولَوْ كانَ هَذا في حَقِّ التّائِبِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الشِّرْكِ وغَيْرِهِ، وكاغْتِرارِ بَعْضِ الجُهّالِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الإنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ﴾ [الانفطار: ٦٦] فَيَقُولُ: كَرَمُهُ، وقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ لَقَّنَ المُغْتَرَّ حُجَّتَهُ، وهَذا جَهْلٌ قَبِيحٌ، وإنَّما غَرَّهُ بِرَبِّهِ الغَرُورُ، وهو الشَّيْطانُ، ونَفْسُهُ الأمّارَةُ بِالسُّوءِ وجَهْلُهُ وهَواهُ، وأتى سُبْحانَهُ بِلَفْظِ الكَرِيمِ وهو السَّيِّدُ العَظِيمُ المُطاعُ، الَّذِي لا يَنْبَغِي الِاغْتِرارُ بِهِ، ولا إهْمالُ حَقِّهِ، فَوَضَعَ هَذا المُغْتَرُّ الغَرُورَ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، واغْتَرَّ بِمَن لا يَنْبَغِي الِاغْتِرارُ بِهِ. وَكاغْتِرارِ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى في النّارِ: ﴿لا يَصْلاها إلّا الأشْقى - الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلّى﴾ [الليل: ١٥-١٦]، وقَوْلِهِ: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤]. وَلَمْ يَدْرِ هَذا المُغْتَرُّ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَأنْذَرْتُكم نارًا تَلَظّى﴾ هي نارٌ مَخْصُوصَةٌ مِن جُمْلَةِ دَرَكاتِ جَهَنَّمَ، ولَوْ كانَتْ جَمِيعَ جَهَنَّمَ فَهو سُبْحانَهُ لَمْ يَقُلْ لا يَدْخُلُها بَلْ قالَ ﴿لا يَصْلاها إلّا الأشْقى﴾ ولا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ صَلْيِها، عَدَمُ دُخُولِها، فَإنَّ الصَّلْيَ أخَصُّ مِنَ الدُّخُولِ، ونَفْيُ الأخَصِّ لا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الأعَمِّ. ثُمَّ هَذا المُغْتَرُّ لَوْ تَأمَّلَ الآيَةَ الَّتِي بَعْدَها؛ لَعَلِمَ أنَّهُ غَيْرُ داخِلٍ فِيها، فَلا يَكُونُ مَضْمُونًا لَهُ أنْ يُجَنَّبَها. وَأمّا قَوْلُهُ في النّارِ ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾، فَقَدْ قالَ في الجَنَّةِ: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٣] ولا يُنافِي إعْدادُ النّارِ لِلْكافِرِينَ أنْ يَدْخُلَها الفُسّاقُ والظَّلَمَةُ، ولا يُنافِي إعْدادُ الجَنَّةِ لِلْمُتَّقِينَ أنْ يَدْخُلَها مَن في قَلْبِهِ أدْنى مِثْقالِ ذَرَّةٍ مِنَ الإيمانِ، ولَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. وَكاغْتِرارِ بَعْضِهِمْ عَلى صَوْمِ يَوْمِ عاشُوراءَ، أوْ يَوْمِ عَرَفَةَ، حَتّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ: يَوْمُ عاشُوراءَ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ العامِ كُلَّها، ويَبْقى صَوْمُ عَرَفَةَ زِيادَةً في الأجْرِ، ولَمْ يَدْرِ هَذا المُغْتَرُّ، أنَّ صَوْمَ رَمَضانَ، والصَّلَواتِ الخَمْسِ، أعْظَمُ وأجَلُّ مِن صِيامِ يَوْمِ عَرَفَةَ، ويَوْمِ عاشُوراءَ، وهي إنَّما تُكَفِّرُ ما بَيْنَهُما إذا اجْتُنِبَتِ الكَبائِرُ. فَرَمَضانُ إلى رَمَضانَ، والجُمُعَةُ إلى الجُمُعَةِ، لا يَقْوَيا عَلى تَكْفِيرِ الصَّغائِرِ، إلّا مَعَ انْضِمامِ تَرْكِ الكَبائِرِ إلَيْها، فَيَقْوى مَجْمُوعُ الأمْرَيْنِ عَلى تَكْفِيرِ الصَّغائِرِ. فَكَيْفَ يُكَفِّرُ صَوْمُ يَوْمِ تَطَوُّعٍ كُلَّ كَبِيرَةٍ عَمِلَها العَبْدُ وهو مُصِرٌّ عَلَيْها، غَيْرُ تائِبٍ مِنها؟ هَذا مُحالٌ عَلى أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ ويَوْمِ عاشُوراءَ مُكَفِّرًا لِجَمِيعِ ذُنُوبِ العامِ عَلى عُمُومِهِ، ويَكُونُ مِن نُصُوصِ الوَعْدِ الَّتِي لَها شُرُوطٌ ومَوانِعُ، ويَكُونُ إصْرارُهُ عَلى الكَبائِرِ مانِعًا مِنَ التَّكْفِيرِ، فَإذا لَمْ يُصِرَّ عَلى الكَبائِرِ لِتَساعُدِ الصَّوْمِ وعَدَمِ الإصْرارِ، وتَعاوُنِهِما عَلى عُمُومِ التَّكْفِيرِ، كَما كانَ رَمَضانُ والصَّلَواتُ الخَمْسُ مَعَ اجْتِنابِ الكَبائِرِ مُتَساعِدَيْنِ مُتَعاوِنَيْنِ عَلى تَكْفِيرِ الصَّغائِرِ مَعَ أنَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ قالَ: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكُمْ﴾ [النساء: ٣١] فَعُلِمَ أنَّ جَعْلَ الشَّيْءِ سَبَبًا لِلتَّكْفِيرِ لا يَمْنَعُ أنْ يَتَساعَدَ هو وسَبَبٌ آخَرُ عَلى التَّكْفِيرِ، ويَكُونُ التَّكْفِيرُ مَعَ اجْتِماعِ السَّبَبَيْنِ أقْوى وأتَمَّ مِنهُ مَعَ انْفِرادِ أحَدِهِما، وكُلَّما قَوِيَتْ أسْبابُ التَّكْفِيرِ كانَ أقْوى وأتَمَّ وأشْمَلَ. وَكاتِّكالِ بَعْضِهِمْ عَلى قَوْلِهِ ﷺ حاكِيًا عَنْ رَبِّهِ " «أنا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي ما شاءَ» يَعْنِي ما كانَ في ظَنِّهِ فَإنِّي فاعِلُهُ بِهِ، ولا رَيْبَ أنَّ حُسْنَ الظَّنِّ إنَّما يَكُونُ مَعَ الإحْسانِ، فَإنَّ المُحْسِنَ حَسَنُ الظَّنِّ بِرَبِّهِ أنْ يُجازِيَهُ عَلى إحْسانِهِ ولا يُخْلِفَ وعْدَهُ، ويَقْبَلَ تَوْبَتَهُ. وَأمّا المُسِيءُ المُصِرُّ عَلى الكَبائِرِ والظُّلْمِ والمُخالَفاتِ فَإنَّ وحْشَةَ المَعاصِي والظُّلْمِ والحَرامِ تَمْنَعُهُ مِن حُسْنِ الظَّنِّ بِرَبِّهِ، وهَذا مَوْجُودٌ في الشّاهِدِ، فَإنَّ العَبْدَ الآبِقَ الخارِجَ عَنْ طاعَةِ سَيِّدِهِ لا يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِ، ولا يُجامِعُ وحْشَةَ الإساءَةِ إحْسانُ الظَّنِّ أبَدًا، فَإنَّ المُسِيءَ مُسْتَوْحِشٌ بِقَدْرِ إساءَتِهِ، وأحْسَنُ النّاسِ ظَنًّا بِرَبِّهِ أطْوَعُهم لَهُ. كَما قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: إنَّ المُؤْمِنَ أحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأحْسَنَ العَمَلَ وإنَّ الفاجِرَ أساءَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأساءَ العَمَلَ. وَكَيْفَ يَكُونُ مُحْسِنُ الظَّنِّ بِرَبِّهِ مَن هو شارِدٌ عَنْهُ، حالٌّ مُرْتَحِلٌ في مَساخِطِهِ وما يُغْضِبُهُ، مُتَعَرِّضٌ لِلَعْنَتِهِ قَدْ هانَ حَقُّهُ وأمْرُهُ عَلَيْهِ فَأضاعَهُ، وهانَ نَهْيُهُ عَلَيْهِ فارْتَكَبَهُ وأصَرَّ عَلَيْهِ؟ وكَيْفَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ مَن بارَزَهُ بِالمُحارَبَةِ، وعادى أوْلِياءَهُ، ووالى أعْداءَهُ، وجَحَدَ صِفاتَ كَمالِهِ، وأساءَ الظَّنَّ بِما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، ووَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ وظَنَّ بِجَهْلِهِ أنَّ ظاهِرَ ذَلِكَ ضَلالٌ وكُفْرٌ؟ وكَيْفَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ مَن يَظُنُّ أنَّهُ لا يَتَكَلَّمُ ولا يَأْمُرُ ولا يَنْهى ولا يَرْضى ولا يَغْضَبُ؟ وَقَدْ قالَ اللَّهُ في حَقِّ مَن شَكَّ في تَعَلُّقِ سَمْعِهِ بِبَعْضِ الجُزْئِيّاتِ، وهو السِّرُّ مِنَ القَوْلِ: ﴿وَذَلِكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكم أرْداكم فَأصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [فصلت: ٢٣].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب