الباحث القرآني
* (فصل)
ومن ذلك قسمه سبحانه وتعالى ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى والنَّهارِ إذا تَجَلّى وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾
وقد تقدم ذكر القسم عليه وأنه سعى الإنسان في الدنيا وجزاؤه في العقبى فهو سبحانه يقسم بالليل في جميع أحواله إذ هو من آياته الدالة عليه فأقسم به وقت غشيانه وأتى بصيغة المضارع لأنه يغشى شيئًا بعد شيء وأما النهار فإنه إذا طلعت الشمس ظهر وتجلى وهلة واحدة ولهذا قال في سورة الشمس وضحاها ﴿والنَّهارِ إذا جَلاّها واللَّيْلِ إذا يَغْشاها﴾ وأقسم به وقت سريانه كما تقدم وأقسم به وقت إدباره وأقسم به إذا عسعس فقيل معناه أدبر فيكون مطابقًا لقوله ﴿واللَّيْلِ إذْ أدْبَرَ والصُّبْحِ إذا أسْفَرَ﴾ وقيل معناه أقبل فيكون كقوله ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى والنَّهارِ إذا تَجَلّى﴾
فيكون قد أقسم بإقبال الليل والنهار.
وعلى الأول يكون القسم واقعًا على انصرام الليل ومجيء النهار عقيبه وكلاهما من آيات ربوبيته.
ثم أقسم بخلق الذكر والأنثى وذلك يتضمن الإقسام بالحيوان كله على اختلاف أصنافه ذكره وأنثاه وقابل بين الذكر والأنثى كما قابل بين الليل والنهار وكل ذلك من آيات ربوبيته، فإن إخراج الليل والنهار بواسطة الأجرام العلوية كإخراج الذكر والأنثى بواسطة الأجرام السفلية فأخرج من الأرض ذكور الحيوان وإناثه على اختلاف أنواعها كما أخرج من السماء الليل والنهار بواسطة الشمس فيها وأقسم سبحانه بزمان السعي وهو الليل والنهار وبالساعي وهو الذكر والأنثى على اختلاف السعي كما اختلف الليل والنهار والذكر والأنثى وسعيه وزمانه مختلف وذلك دليل على اختلاف جزائه وثوابه وأنه سبحانه لا يسوي بين من اختلف سعيه في الجزاء كما لم يسو بين الليل والنهار والذكر والأنثى
ثم أخبر عن تفريقه بين عاقبة سعي المحسن وعاقبة سعي المسيء فقال ﴿فَأمّا مَن أعْطى واتَّقى وصَدَّقَ بِالحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وأمّا مَن بَخِلَ واسْتَغْنى وكَذَّبَ بِالحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى﴾
فتضمنت الآيتان ذكر شرعه وذكر الأعمال وجزائها وحكمة القدر في تيسير هذا لليسرى وهذا للعسرى وأن العبد ميسر بأعماله لغاياتها ولا يظلم ربك أحدًا وذكر للتيسير لليسرى ثلاثة أسباب أحدها إعطاء العبد وحذف مفعول الفعل إرادة للإطلاق والتعميم أي أعطى ما أمر به وسمحت به طبيعته وطاوعته نفسه وذلك يتناول إعطاءه من نفسه الإيمان والطاعة والإخلاص والتوبة والشكر وإعطاءه الإحسان والنفع بماله ولسانه وبدنه ونيته وقصده فتكون نفسه نفسًا مطيعة باذلة لا لئيمة مانعة فالنفس المطيعة هي النافعة المحسنة التي طبعها الإحسان وإعطاء الخير اللازم والمتعدي فتعطي خيرها لنفسها ولغيرها، فهي بمنزلة العين التي ينتفع الناس بشربهم منها وسقي دوابهم وأنعامهم وزرعهم فهم ينتفعون بها كيف شاءوا، فهي ميسرة لذلك، وهكذا الرجل المبارك ميسر للنفع حيث حل فجزاء هذا أن ييسره الله لليسرى، كما كانت نفسه ميسرة للعطاء.
السبب الثاني التقوى وهي اجتناب ما نهى الله عنه وهذا من أعظم أسباب التيسير وضده من أسباب التعسير فالمتقي ميسرة عليه أمور دنياه وآخرته وتارك التقوى وإن يسرت عليه بعض أمور دنياه تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى وأما تيسير ما تيسر عليه من أمور الدنيا فلو اتقى الله لكان تيسيرها عليه أتم ولو قدر أنها لم تتيسر له فقد يسر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله بغير التقى فإن طيب العيش ونعيم القلب ولذة الروح وفرحها وابتهاجها من أعظم نعيم الدنيا، وهو أجل من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذات
وقال تعالى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِن أمْرِهِ يُسْرًا﴾
فأخبر أنه ييسر على المتقي ما لا ييسر على غيره وقال تعالى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾
وهذا أيضًا ييسر عليه بتقواه وقال تعالى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ويُعْظِمْ لَهُ أجْرًا﴾
وهذا يتيسر عليه بإزالة ما يخشاه وإعطائه ما يحبه ويرضاه وقال ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكم فُرْقانًا ويُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكم ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾
وهذا يتيسر بالفرقان المتضمن النجاة والنصر والعلم والنور الفارق بين الحق والباطل وتكفير السيئات ومغفرة الذنوب وذلك غاية التيسير
وقال تعالى ﴿واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ والفلاح غاية اليسر كما أن الشقاء غاية العسر وقال تعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكم كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ ويَجْعَلْ لَكم نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾ فضمن لهم سبحانه بالتقوى ثلاثة أمور: أحدها أعطاهم نصيبين من رحمته نصيبًا في الدنيا ونصيبًا في الآخرة وقد يضاعف لهم نصيب الآخرة فيصير نصيبين الثاني أعطاهم نورًا يمشون به في الظلمات الثالث مغفرة ذنوبهم وهذا غاية التيسير فقد جعل سبحانه التقوى سببًا لكل يسر وترك التقوى سببًا لكل عسر
السبب الثالث التصديق بالحسنى وفسرت بـ (لا إله إلا الله) وفسرت بالجنة وفسرت بالخلف وهي أقوال السلف واليسرى صفة لموصوف محذوف أي الحالة والخلة اليسرى وهي فعلى من اليسرى والأقوال الثلاثة ترجع إلى أفضل الأعمال وأفضل الجزاء فمن فسرها بلا إله إلا الله فقد فسرها بمفرد يأتي بكل جمع فإن التصديق الحقيقي بلا إله إلا الله يستلزم التصديق بشعبها وفروعها كلها وجميع أصول الدين وفروعه من شعب هذه الكلمة فلا يكون العبد مصدقًا بها حقيقة التصديق حتى يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه ولا يكون مؤمنًا بالله إله العالمين حتى يؤمن بصفات جلاله ونعوت كماله ولا يكون مؤمنًا بأن الله لا إله إلا هو حتى يسلب خصائص الإلهية عن كل موجود سواه ويسلبها عن اعتقاده وإرادته كما هي منفية في الحقيقة والخارج ولا يكون مصدقًا بها من نفي الصفات العليا ولا من نفي كلامه وتكليمه ولا من نفى استوائه على عرشه وأنه يرفع إليه الكلم الطيب والعمل الصالح وأنه رفع المسيح إليه وأسرى برسوله إليه وأنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه إلى سائر ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ولا يكون مؤمنًا بهذه الكلمة مصدقًا بها على الحقيقة من نفى عموم خلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء وبعثة الأجساد من القبور ليوم النشور.
ولا يكون مصدقًا بها من زعم أنه يترك خلقه سدى لم يأمرهم ولم ينههم على ألسنة رسله، وكذلك التصديق بها يقتضي الإذعان والإقرار بحقوقها وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة بالتصديق بجميع أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه هو تفصيل لا إله إلا الله فالمصدق بها على الحقيقة الذي يأتي بذلك كله وكذلك لم تحصل عصمة المال والدم على الإطلاق إلا بها وبالقيام بحقها وكذلك لا تحصل النجاة من العذاب على الإطلاق إلا بها وبحقها فالعقوبة في الدنيا والآخرة على تركها أو ترك حقها
ومن فسر الحسنى بالجنة فسرها بأعلى أنواع الجزاء وكماله ومن فسرها بالخلف ذكر نوعًا من الجزاء فهذا جزاء دنيوي والجنة الجزاء في الآخرة فرجع التصديق بالحسنى إلى التصديق بالإيمان وجزائه
والتحقيق أنها تتناول الأمرين
وتأمل ما اشتملت عليه هذه الكلمات الثلاث وهي الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى من العلم والعمل وتضمنته من الهدى ودين الحق فإن النفس لها ثلاث قوى قوة البذل والإعطاء وقوة الكف والامتناع وقوة الإدراك والفهم ففيها قوة العلم والشعور ويتبعها قوة الحب والإرادة وقوة البغض والنفرة فهذه القوى الثلاث عليها مدار صلاحها وسعادتها وبفسادها يكون فسادها وشقاوتها ففساد قوة العلم والشعور يوجب له التكذيب بالحسنى وفساد قوة الحب والإرادة يوجب له ترك الإعطاء وفساد قوة البغض والنفرة يوجب له ترك الاتقاء فإذا كملت قوة حبه وإرادته بإعطائه ما أمر به وقوة بغضه ونفرته باتقائه ما نهى عنه وقوة علمه وشعوره بتصديقه بكلمة الإسلام وحقوقها وجزائها فقد زكى نفسه وأعدها لكل حالة يسرى فصارت النفس بذلك ميسرة لليسرى
ولما كان الدين يدور على ثلاث قواعد فعل لمأمور وترك لمحظور وتصديق الخبر وإن شئت قلت الدين طلب وخبر والطلب نوعان طلب فعل وطلب ترك فقد تضمنت هذه الكلمات الثلاث مراتب الدين أجمعها فالاعطاء فعل المأمور والتقوى ترك المحظور والتصديق بالحسنى تصديق الخبر فانتظم ذلك الدين كله وأكمل الناس من كملت له هذه التقوى الثلاث ودخول النقص بحسب نقصانها أو بعضها فمن الناس من يكون قوة إعطائه وبذله أتم من قوة انكفافه وتركه فقوة الترك فيه أضعف من قوة الإعطاء ومن الناس من يكون قوة الترك والانكفاف فيه أتم من قوة الاعطاء والمنع ومن الناس من يكون فيه قوة التصديق أتم من قوة الاعطاء والمنع فقوته العلمية والشعورية أتم من قوته الإرادية وبالعكس فيدخل النقص بحسب ما نقص من قوة هذه القوى الثلاث ويفوته من التيسير لليسرى بحسب ما فاته منها ومن كملت له هذه القوى يسر لكل يسرى
قال ابن عباس ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى﴾ أي نهيئه لعمل الخير تيسر عليه أعمال الخير وقال مقاتل والكلبي والفراء نيسره للعود إلى العمل الصالح
وحقيقة اليسرى أنها الخلة والحالة السهلة النافعة الواقعة له وهي ضد العسرى.
وذلك يتضمن تيسيره للخير وأسبابه فيجري الخير وييسر على قلبه ويديه ولسانه وجوارحه فتصير خصال الخير ميسرة عليه مذللة له منقادة لا تستعصي عليه
ولا تستصعب لأنه مهيأ لها ميسر لفعلها يسلك سبلها ذللًا وتقاد له علمًا وعملًا فإذا خاللته قلت هو الذي قيل فيه:
؎مبارك الطلعة ميمونها ∗∗∗ يصلح للدنيا وللدين
﴿وَأمّا مَن بَخِلَ واسْتَغْنى﴾ فعطل قوة الإرادة والإعطاء عن فعل ما امر به ﴿اسْتَغْنى﴾ بترك التقوى عن ربه فعطل قوة الانكفاف والترك عن فعل ما نهى عنه ﴿وَكَذَّبَ بِالحُسْنى﴾ فعطل قوة العلم والشعور عن التصديق بالإيمان وجزائه ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى﴾
قال عطاء سوف أحول بين قلبه وبين الإيمان بي وبرسولي
وقال مقاتل يعسر عليه أن يعطى خيرًا
وقال عكرمة عن ابن عباس نيسره للشر
قال الواحدي وهذا هو القول لأن الشر يؤدي إلى العذاب فهو الخلة العسرى والخير يؤدي إلى اليسر والراحة في الجنة فهو الخلة اليسرى يقول سنهيؤه للشر بأن يجريه على يديه
قال الفراء العرب تقول قد يسرت غنم فلان إذا تهيأت للولادة وكذلك إذا ولدت وغزرت ألبانها أي يسرت ذلك على أصحابها. انتهى.
والتيسير للعسرى يكون بأمرين:
أحدهما أن يحول بينه وبين أسباب الخير فيجري الشر على قلبه ونيته ولسانه وجوارحه.
والثاني أن يحول بينه وبين الجزاء الأيسر كما حال بينه وبين أسبابه
فإن قيل كيف قابل اتقى باستغنى وهل يمكن العبد أن يستغني عن ربه طرفة عين
قيل هذا من أحسن المقابلة فإن المتقي لما استشعر فقره وفاقته وشدة حاجته إلى ربه اتقاه ولم يتعرض لسخطه وغضبه ومقته بارتكاب ما نهاه عنه فإن من كان شديد الحاجة والضرورة إلى شخص فإنه يتقي غضبه وسخطه عليه غاية الاتقاء ويجانب ما يكرهه غاية المجانبة ويعتمد فعل ما يحبه ويؤثره فقابل التقوى بالإستغناء تبشيعًا لحال تارك التقوى ومبالغة في ذمه بأن فعل فعل المستغني عن ربه لا فعل الفقير المضطر إليه الذي لا ملجأ له إلا إليه ولا غنى له عن فضله وجوده وبره طرفة عين فلله ما أحلى هذه المقابلة وما أجمع هاتين الآيتين للخيرات كلها وأسبابها، والشرور كلها وأسبابها فسبحان من تعرف إلى خصائص عباده بكلامه وتجلى لهم فيه فهم لا يطلبون أثرًا بعد عين ولا يستبدلون الحق بالباطل والصدق بالمين.
وقد تضمنت هاتان الآيتان فصل الخطاب في مسألة القدر وإزالة كل لبس وإشكال فيها وذلك بين بحمد الله لمن وفق لفهمه ولهذا أجاب بها النبي من أورد عليه السؤال الذي لا يزال الناس يلهجون به في القدر فأجاب بفصل الخطاب وأزال الإشكال ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي أنه قال
" ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة والنار"
قيل يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب قال "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"
ثم قرأ ﴿فَأمّا مَن أعْطى واتَّقى وصَدَّقَ بِالحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى﴾
فقد تضمن هذا الحديث الرد على القدرية والجبرية وإثبات القدر والشرع وإثبات الكتاب الأول المتضمن لعلم الله سبحانه الأشياء قبل كونها وإثبات خلق الفعل الجزائي وهو يبطل أصول القدرية الذين يمنعون خلق الفعل مطلقًا ومن أقر منهم بخلق فعل الجزاء دون الإبتداء هدم أصله ونقض قاعدته والنبي ﷺ أخبر بمثل ما أخبر به الرب تعالى أن العبد ميسر لما خلق له لا مجبور فالجبر لفظ بدعى والتيسير لفظ القرآن والسنة.
وفي الحديث دلالة على أن الصحابة كانوا أعلم الناس بأصول الدين فإنهم تلقوها عن أعلم الخلق بالله على الإطلاق وكانوا إذا استشكلوا شيئًا سألوه عنه وكان يجيبهم بما يزيل الأشكال ويبين الصواب فهم العارفون بأصول الدين حقًا لا أهل البدع والأهواء من المتكلمين ومن سلك سبيلهم وفي الحديث استدلال النبي ﷺ على مسائل أصول الدين بالقرآن وإرشاده الصحابة لاستنباطها منه خلافًا لمن زعم أن كلام الله ورسوله لا يفيد العلم بشيء من أصول الدين ولا يجوز أن تستفاد معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله منه وعبر عن ذلك بقوله الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين.
وفي الحديث بيان أن من الناس من خلق للسعادة ومنهم من خلق للشقاوة خلافًا لمن زعم أنهم كلهم خلقوا للسعادة ولكن اختاروا الشقاوة ولم يخلقوا لها وفيه إثبات الأسباب وأن العبد ميسر للأسباب الموصلة له إلى ما خلق له وفيه دليل على اشتقاق السنة من الكتاب ومطابقتها له فتأمل قوله ﷺ "إعملوا فكل ميسر لما خلق له" ومطابقته لقوله تعالى ﴿فَأمّا مَن أعْطى واتَّقى﴾ إلى آخر الآيتين كيف انتظم الشرع والقدر والسبب والمسبب
وهذا الذي أرشد إليه النبي هو الذي فطر الله عليه عباده بل الحيوان البهيم بل مصالح الدنيا وعمارتها بذلك فلو قال كل أحد إن قدر لي كذا وكذا فلا بد أن أناله وإن لم يقدر فلا سبيل إلى نيله فلا أسعى ولا أتحرك لعد من السفهاء الجهال ولم يمكنه طرد ذلك أبدًا وإن أتى به في أمر معين فهل يمكنه أن يطرد ذلك في مصالحه جميعها من طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وهروبه مما يضاد بقاءه وينافي مصالحه أم يجد نفسه غير منفكة ألبتة عن قول النبي إعملوا فكل ميسر لما خلق له فإذا كان هذا في مصالح الدنيا وأسباب منافعها فما الموجب لتعطيله في مصالح الآخرة وأسباب السعادة والفلاح فيها ورب الدنيا والآخرة واحد فكيف يعطل ذلك في شرع الرب وأمره ونهيه ويستعمل في إرادة العبد وأغراضه وشهواته وهل هذا إلا محض الظلم والجهل والإنسان ظلوم جهول ظلوم لنفسه جهول بربه فهذا الذي أرشد إليه النبي وتلا عنده هاتين الآيتين موافقًا لما جعله الله في عقول العقلاء وركب عليه فطر الخلائق حتى الحيوان البهيم وأرسل به جميع رسله وأنزل به جميع كتبه.
ولو اتكل العبد على القدر ولم يعمل لتعطلت الشرائع وتعطلت مصالح العالم وفسد أمر الدنيا والدين وإنما يستروح إلى ذلك معطلوا الشرائع ومن خلع ربقه الأوامر والنواهي من عنقه وذلك ميراث من إخوانهم المشركين الذين دفعوا أمر الله ونهيه وعارضوا شرعه بقضائه وقدره كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم في غير موضع من كتابه كقوله تعالى ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وإنْ أنْتُمْ إلّا تَخْرُصُونَ قل قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ وقال تعالى ﴿وَقالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَحْنُ ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلى الرُّسُلِ إلّا البَلاغُ المُبِينُ﴾ وقال تعالى ﴿وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهم ما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلاّ يَخْرُصُونَ﴾
وقال تعالى ﴿وَإذا قِيلَ لَهم أنْفِقُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أنُطْعِمُ مَن لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أطْعَمَهُ إنْ أنْتُمْ إلّا في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ فإن قيل فالإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى هي من اليسرى بل هي أصل اليسرى من يسرها للعبد أولًا وكذلك أضدادها
قيل الله سبحانه هو الذي يسر للعبد أسباب الخير والشر وخلق خلقه قسمين أهل سعادة فيسرهم لليسرى وأهل شقاوة فيسرهم للعسرى واستعمل هؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها لا يصلحون لسواها وهؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها لا يصلحون لسواها وحكمته الباهرة تأبى أن يضع عقوبته في موضع لا تصلح له كما يأبى أن يضع كرامته وثوابه في محل لا يصلح لهما ولا يليق بهما بل حكمة آحاد خلقه تأبى ذلك ومن جعل محل المسك والرجيع واحدًا فهو من أسفه السفهاء
فإن قيل فلم جعل هذا لا يليق به إلا الكرامة وهذا لا يليق به إلا الإهانة قيل هذا سؤال جاهل لا يستحق الجواب كأنه يقول لم خلق الله كذا وكذا
فإن قيل وعلى هذا فهل لهذا الجاهل من جواب لعله يشفى من جهله؟
قيل نعم شأن الربوبية خلق الأشياء وأضدادها، وخلق الملزومات ولوازمها.
وذلك هو محض الكمال، فالعلو لازم وملزوم للسفل والليل لازم وملزوم للنهار وكمال هذا الوجود بالحر والبرد والصحو والغيم ومن لوازم الطبيعة الحيوانية الصحة والمرض واختلاف الإرادات والمرادات ووجود اللازم بدون ملزومه ممتنع ولولا خلق المتضادات لما عرف كمال القدرة والمشيئة والحكمة، ولما ظهرت أحكام الأسماء والصفات.
وظهور أحكامها وآثارها لا بد منه إذ هو مقتضى الكمال المقدس والملك التام وإذا أعطيت اسم الملك حقه ولن تستطيع علمت أن الخلق والأمر والثواب والعقاب والعطاء والحرمان أمر لازم لصفة الملك وأن صفة الملك تقتضي ذلك ولا بد وأن تعطيل هذه الصفة أمر ممتنع فالملك الحق يقتضي إرسال الرسل وإنزال الكتب وأمر العباد ونهيهم وثوابهم وعقابهم وإكرام من يستحق الإكرام وإهانة من يستحق الإهانة كما تستلزم حياة الملك وعلمه وإرادته وقدرته وسمعه وبصره وكلامه ورحمته ورضاه وغضبه واستواءه على سرير ملكه يدبر أمر عباده وهذه الإشارة تكفي اللبيب في مثل هذا الموضع ويطلع منها على أرض مونقة وكنوز من المعرفة وبالله التوفيق.
* (فصل آخر)
وأما القسم على أحوال الإنسان فكقوله ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى والنَّهارِ إذا تَجَلّى وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثى إنَّ سَعْيَكم لَشَتّى﴾
ولفظ السعي هو العمل لكن يراد به العمل الذي يهتم به صاحبه ويجتهد فيه بحسب الإمكان فإن كان يفتقر إلى عدو بدنه عدا وإن كان يفتقر إلى جمع أعوانه جمع وإن كان يفتقر إلى تفرغ له وترك غيره فعل ذلك فلفظ السعي في القرآن جاء بهذا الاعتبار ليس هو مرادفًا للفظ العمل كما ظنه طائفة بل هو عمل مخصوص يهتم به صاحبه ويجتهد فيه ولهذا قال في الجمعة ﴿فاسَعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾
وهذه أحسن من قراءة من قرأ "فامضوا إلى ذكر الله"
وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال "إذا أُقِيمَتْ الصَّلاةُ فَلا تَأْتُوها تَسْعَوْنَ، وأْتُوها تَمْشُونَ عَلَيْكم السَّكِينَةُ، فَما أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فاتَكم فَأتِمُّوا"
فلم ينه عن السعي إلى الصلاة فإن الله أمر بالسعي إليها بل نهاهم أن يأتوا إليها يسعون فنهاهم عن الإتيان المتصف بسعي صاحبه والإتيان فعل البدن وسعيه عدو البدن وهو منهي عنه.
وأما السعي المأمور به في الآية فهو الذهاب إليها على وجه الاهتمام بها والتفرغ لها عن الأعمال الشاغلة من بيع وغيره والإقبال بالقلب على السعي إليها.
وكذلك قوله في قصة فرعون لما قال له موسى ﴿هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى وأهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فَتَخْشى فَأراهُ الآيَةَ الكُبْرى فَكَذَّبَ وعَصى ثُمَّ أدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى﴾ فهذا اهتمام واجتهاد في حشر رعيته ومناداته فيهم.
وكذلك قوله ﴿وَإذا تَوَلّى سَعى في الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها﴾ هو عمل بهمة واجتهاد ومنه سمى الساعى على الصدقة والساعي على الأرملة واليتيم.
ومنه قوله ﴿إنَّ سَعْيَكم لَشَتّى﴾ وهو العمل الذي يقصده صاحبه ويعتني به ليترتب عليه ثواب أو عقاب بخلاف المباحات المعتادة فإنها لم تدخل في هذا السعي قال تعالى ﴿فَأمّا مَن أعْطى واتَّقى وصَدَّقَ بِالحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وأمّا مَن بَخِلَ واسْتَغْنى وكَذَّبَ بِالحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى﴾ ومنه قوله تعالى ﴿وَمَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهو مُؤْمِنٌ﴾ وقوله ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا﴾.
* (فائدة)
وَصَحَّ «عَنْهُ ﷺ سُئِلَ عَنْ مَسْألَةِ القَدَرِ، وما يَعْمَلُ النّاسُ فِيهِ، أمْرٌ قَدْ قُضِيَ وفُرِغَ مِنهُ أمْ أمْرٌ يُسْتَأْنَفُ؟ فَقالَ بَلْ أمْرٌ قَدْ قُضِيَ وفُرِغَ مِنهُ فَسُئِلَ حِينَئِذٍ: فَفِيمَ العَمَلُ؟
فَأجابَ بِقَوْلِهِ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ، أمّا مَن كانَ مِن أهْلِ السَّعادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعادَةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الشَّقاوَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقاوَةِ
ثُمَّ قَرَأ قَوْله تَعالى: ﴿فَأمّا مَن أعْطى واتَّقى﴾ إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ»
ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ.
{"ayah":"وَٱلَّیۡلِ إِذَا یَغۡشَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق