الباحث القرآني
المعنى: قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله، وأظهرها، وقد خاب وخسر من أخفاها، وحقرها وصغرها بمعصية الله.
وأصل التدسية: الإخفاء. ومنه قوله تعالى: ﴿أمْ يَدُسُّهُ في التُّرابِ﴾
فالعاصي يدسّ نفسه بالمعصية، ويخفي مكانها، ويتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به، قد انقمع عند نفسه، وانقمع عند الله، وانقمع عند الخلق.
فالطاعة والبر: تكبر النفس وتعزها وتعليها، حتى تصير أشرف شيء وأكبره، وأزكاه وأعلاه، ومع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله تعالى.
وبهذا الذل لله حصل لها العز والشرف والنمو، فما صغّر النفس مثل ومعصيته الله، وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله.
* وقال في (الفوائد)
لَو كانَت النَّفس شريفة كَبِيرَة لم ترض بالدون فَأصل الخَيْر كُله بِتَوْفِيق الله ومشيئته وشرف النَّفس ونبلها وكبرها وأصل الشَّرّ خستها ودناءتها وصغرها قالَ تَعالى ﴿قَدْ أفْلح من زكاها وقد خابَ من دساها﴾
أي أفْلح من كبرها وكثرها ونماها بِطاعَة الله وخاب من صغرها وحقرها بمعاصي الله فالنفوس الشَّرِيفَة لا ترْضى من الأشْياء إلّا بِأعْلاها وأفضلها وأحمدها عاقِبَة والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتَقَع عَلَيْها كَما يَقع الذُّباب على الأقذار فالنَّفْس الشَّرِيفَة العلية لا ترْضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بِالسَّرقَةِ والخيانة لِأنَّها أكبر من ذَلِك وأجلّ والنَّفس المهينة الحقيرة والخسيسة بالضد من ذَلِك فَكل نفس تميل إلى ما يُناسِبها ويشاكلها وهَذا معنى قَوْله تَعالى ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِه﴾
أي على ما يشاكله ويناسبه.
* وقال في (إغاثة اللهفان)
قوله تعالى: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ من باب قوله: ﴿هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى﴾ [النازعات: ١٨]
أي تعمل بطاعة الله تعالى، فتصير زاكيا، ومثله قوله: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى﴾ [الأعلى: ١٤].
وقد اختلف في الضمير المرفوع في قوله: زكاها فقيل: هو الله.
أي أفلحت نفس زكاها الله عز وجل، وخابت نفس دساها.
وقيل: إن الضمير يعود على فاعل أفلح، وهو (مَن) سواء كانت موصولة أو موصوفة، فإن الضمير لو عاد على الله سبحانه لقال: قد أفلح من زكاه وقد خاب من دساه.
والأولون يقولون (مَن) وإن كان لفظها مذكرا فإذا وقعت على مؤنث جاز إعادة الضمير عليها بلفظ المؤنث، مراعاة للمعنى، وبلفظ المذكر مراعاة للفظ، وكلاهما من الكلام الفصيح.
وقد وقع في القرآن اعتبار لفظها ومعناها، فالأول كقوله: ﴿وَمِنهم مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ﴾ [الأنعام: ٢٥]
فأفرد الضمير، والثاني كقوله: ﴿وَمِنهم مَن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ﴾ [يونس: ٤٢].
قال المرجحون للقول الأول: يدل على صحة قولنا: ما رواه أهل السنن من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت:
"أتيْتُ لَيْلَةً، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يقُولُ: رَبِّ أعْطِ نَفْسِي تَقْواها، وزَكِّها، أنْتَ خَيْرُ مَن زَكّاها، أنْتَ ولِيُّها ومَوْلاها".
فهذا الدعاء كالتفسير لهذه الآية، وأن الله تعالى هو الذي يزكى النفوس فتصير زاكية، فالله هو المزكى، والعبد هو المتزكى.
والفرق بينهما فرق ما بين الفاعل والمطاوع.
قالوا: والذي جاء في القرآن من إضافة الزكاة إلى العبد إنما هو بالمعنى الثاني، دون الأول. كقوله:
﴿قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى﴾، وقوله: ﴿هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى﴾.
أي تقبل تزكية الله تعالى لك، فتتزكى؟ قالوا: وهذا هو الحق. فإنه لا يفلح إلا من زكاه الله تعالى. قالوا: وهذا اختيار ترجمان القرآن ابن عباس، فإنه قال في رواية على بن أبي طلحة وعطاء والكلبي:
"قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّى اللهُ تَعالى نَفْسَه"
وقال ابن زيد: "قَدْ أفلَحَ مَن زَكّى اللهُ تعالى نَفْسَهُ".
واختاره ابن جرير.
قالوا: ويشهد لهذا القول أيضا قوله في أول السورة:
﴿فَألهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ [الشمس: ٨].
قالوا: وأيضا فإنه سبحانه وتعالى أخبر أنه خالق النفس وصفاتها. وذلك في معنى التسوية.
قال أصحاب القول الآخر: ظاهر الكلام ونظمه الصحيح: يقتضي أن يعود الضمير على "من" أي أفلح من زكى نفسه.
هذا هو المفهوم المتبادر إلى الفهم، بل لا يكاد يفهم غيره، كما إذا قلت: هذه جارية قد ربح من اشتراها، وصلاة قد سعد من صلاها، وضالة قد خاب من آواها. ونظائر ذلك.
قالوا: والنفس مؤنثة، فلو عاد الضمير على الله سبحانه لكان وجه الكلام: قد أفلحت نفس زكاها، أو أفلحت من زكاها، لوقوع "مَن" على النفس.
قالوا: وإن جاز تفريغ الفعل من التاء لأجل لفظ "من" كما تقول: قد أفلح من قامت منكن، فذاك حيث لا يقع اشتباه والتباس. فإذا وقع الاشتباه لم يكن بد من ذكر ما يزيله.
قالوا: و "مَن" موصولة بمعنى الذي. ولو قيل: قد أفلح الذي زكاها الله لم يكن جائزا، لعود الضمير المؤنث على الذي، وهو مذكر. قالوا: وهو سبحانه قصد نسبة الفلاح إلى صاحب النفس إذا زكى نفسه. ولهذا فرغ الفعل من التاء، وأتى ب "من" التي هي بمعنى "الذي" وهذا الذي عليه جمهور المفسرين، حتى أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما. وقال قتادة:
﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ [الشمس: ٩].
"من عمل خيرا زكاها بطاعة الله عز وجل"
وقال أيضا: "قد أفلح من زكى نفسه بعمل صالح"
وقال الحسن: "قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله تعالى، وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله تعالى" قال ابن قتيبة: "يريد أفلح من زكى نفسه، أي نماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدقة، واصطناع المعروف".
﴿وَقَدْ خابَ مَن دَسّاها﴾ [الشمس: ١٠].
أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر وركوب المعاصي. والفاجر أبدا خفى المكان، زَمِن المروءة، غامض الشخص، ناكس الرأس.
فمرتكب الفواحش قد دس نفسه وقمعها، ومصطنع المعروف قد شهر نفسه ورفعها.
وكانت أجواد العرب تنزل الربى ويفاع الأرض لتشهر أماكنها للمعتفين. وتوقد النيران في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام، لتخفى أماكنها على الطالبين، فأولئك أعلوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها. وأنشد:
؎وَبَوّاب بَيْتِكَ في مَعْلَمٍ ∗∗∗ رَحيبِ المَباءَةِ والمَسْرَحِ
؎كَفَيْتَ العُفاةَ طِلابَ القِرى ∗∗∗ ونَبحَ الكلابِ لِمُسْتَنْبِح
فهذان قولان مشهوران في الآية.
وفيها قول ثالث: أن المعنى: خاب من دس نفسه مع الصالحين وليس منهم، حكاه الواحدي، قال: ومعنى هذا: أنه أخفى نفسه في الصالحين، يرى الناس أنه منهم وهو منطو على غير ما ينطوى عليه الصالحون.
وهذا- وإن كان حقا في نفسه- لكن في كونه هو المراد بالآية نظر، وإنما يدخل في الآية بطريق العموم. فإن الذي يدس نفسه بالفجور إذا خالط أهل الخير دس نفسه فيهم، والله تعالى أعلم.
* وقال في (التبيان)
وقوله ﴿قد أفلح من زكاها﴾ الضمير مرفوع في (زكاها) عائد على من وكذلك هو في (دساها) المعنى قد أفلح من زكى نفسه وقد خاب من دساها.
هذا القول هو الصحيح وهو نظير قوله ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى﴾
وهو سبحانه إذا ذكر الفلاح علقه بفعل المفلح كقوله ﴿قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هم في صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾ إلى آخر الآيات.
وقوله ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلى هُدىً مِن رَبِّهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾
وقوله ﴿إنَّما كانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾
ونظائره.
قال الحسن قد أفلح من زكى نفسه وحملها على طاعة الله، وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله. وقاله قتادة.
وقال ابن قتيبة يريد أفلح من زكى نفسه أي نماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدقة واصطناع المعروف، وقد خاب من دساها أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر وركوب المعاصي، والفاجر أبدًا خفي المكان زمن المروءة غامض الشخص ناكس الرأس فكأن المتصف بارتكاب الفواحش دس نفسه وقمعها ومصطنع المعروف شهر نفسه ورفعها.
وقال أبو العباس سألت ابن الأعرابي عن قوله ﴿وَقَدْ خابَ مَن دَسّاها﴾ فقال دسى معناه دس نفسه مع الصالحين وليس منهم وعلى هذا فالمعنى أخفى نفسه في الصالحين يرى الناس أنه منهم وهو منطو على غير ما ينطوي عليه الصالحون
وقالت طائفة أخرى الضمير يرجع إلى الله سبحانه قال ابن عباس في رواية عطاء قد أفلحت نفس زكاها الله وأصلحها
وهذا قول مجاهد وعكرمة والكلبي وسعيد ابن جبير ومقاتل قالوا سعدت نفس وأفلحت نفس أصلحها الله وطهرها ووفقها للطاعة حتى عملت بها وخابت وخسرت نفس أضلها الله وأغواها وأبطلها وأهلكها
قال أرباب هذا القول قد أقسم الله بهذه الأشياء التي ذكرها لأنها تدل على وحدانيته وعلى فلاح من طهره وخسارة من خذله حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه وإهلاكها بالمعصية من غير قدر سابق وقضاء متقدم قالوا وهذا أبلغ في التوحيد الذي سيقت له هذه السورة قالوا ويدل عليه قوله ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾
قالوا ويشهد له حديث نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت إنتبهت نفسي ليلة فوجدت رسول الله وهو يقول رب أعطي نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها قالوا فهذا الدعاء هو تأويل الآية بدليل الحديث الآخر أن النبي كان إذا قرأ ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ وقف ثم قال اللهم آت نفسي تقواها أنت وليها ومولاها وزكها أنت خير من زكاها قالوا وفي هذا ما يبين أن الأمر كله له سبحانه فإنه هو خالق النفس وملهمها الفجور والتقوى وهو مزكيها ومدسيها فليس للعبد في الأمر شيء ولا هو مالك من أمر نفسه شيئًا.
قال أرباب القول الأول هذا القول وإن كان جائزًا في العربية حاملًا للضمير المنصوب على معنى من وإن كان لفظها مذكرًا كما في قوله ﴿وَمِنهم مَن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ﴾ جمع الضمير وإن كان لفظ من مفردًا حملا على نظمها فهذا إنما يحسن حيث لا يقع لبس في مفسر الضمائر وهاهنا قد تقدم لفظ من والضمير المرفوع في زكاها يستحقه لفظًا ومعنى فهو أولى به
ثم يعود الضمير المنصوب على النفس التي هي أولى به لفظًا ومعنى فهذا هو النظم الطبيعي الذي يقتضيه سياق الكلام ووضعه وأما عود الضمير الذي يلي من على الموصول السابق وهو قوله ﴿وَنَفْسٍ وما سَوّاها﴾ وإخلاء جاره الملاصق له وهو من ثم عود الضمير المنصوب وهو مؤنث على من ولفظه مذكر دون النفس المؤنثة فهذا يجوز لو لم يكن للكلام محمل غيره أحسن منه فأما إذا كان سياق الكلام ونظمه يقتضي خلافه ولم تدع الضرورة إليه فالحمل عليه ممتنع
قالوا والقول الذي ذكرناه أرجح من جهة المعنى لوجوه:
أحدها أن فيه إشارة إلى ما تقدم من تعليق الفلاح على فعل العبد واختياره كما هي طريقة القرآن.
الثاني أن فيه زيادة فائدة وهي إثبات فعل العبد وكسبه وما يثاب وما يعاقب عليه
وفي قوله ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ إثبات القضاء والقدر السابق فتضمنت الآيتان هذين الأصلين العظيمين
وهما كثيرًا ما يقترنان في القرآن كقوله ﴿إنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ وما يَذْكُرُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾
وقوله ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾
فتضمنت الآيتان الرد على القدرية والجبرية.
الثالث أن قولنا يستلزم قولكم دون العكس فإن العبد إذا زكى نفسه ودساها فإنما يزكيها بعد تزكية الله لها بتوفيقه وإعانته وإنما يدسيها بعد تدسية الله لها بخذلانه والتخلية بينه وبين نفسه، بخلاف ما إذا كان المعنى على القدر السابق المحض لم يبق للكسب وفعل العبد هاهنا ذكر ألبتة.
* [فَصْلٌ: المَعاصِي تُصَغِّرُ النَّفْسَ]
وَمِن عُقُوباتِها: أنَّها تُصَغِّرُ النَّفْسَ، وتَقْمَعُها، وتُدَسِّيها، وتَحْقِرُها، حَتّى تَكُونَ أصْغَرَ كُلِّ شَيْءٍ وأحْقَرَهُ، كَما أنَّ الطّاعَةَ تُنَمِّيها وتُزَكِّيها وتُكَبِّرُها، قالَ تَعالى: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها - وقَدْ خابَ مَن دَسّاها﴾ [الشمس: ٩-١٠]
والمَعْنى قَدْ أفْلَحَ مَن كَبَّرَها وأعْلاها بِطاعَةِ اللَّهِ وأظْهَرَها، وقَدْ خَسِرَ مَن أخْفاها وحَقَّرَها وصَغَّرَها بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ.
وَأصْلُ التَّدْسِيَةِ: الإخْفاءُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ يَدُسُّهُ في التُّرابِ﴾ [النحل: ٥٩].
فالعاصِي يَدُسُّ نَفْسَهُ في المَعْصِيَةِ، ويُخْفِي مَكانَها، يَتَوارى مِنَ الخَلْقِ مِن سُوءِ ما يَأْتِي بِهِ، وقَدِ انْقَمَعَ عِنْدَ نَفْسِهِ، وانْقَمَعَ عِنْدَ اللَّهِ، وانْقَمَعَ عِنْدَ الخَلْقِ، فالطّاعَةُ والبِرُّ تُكَبِّرُ النَّفْسَ وتُعِزُّها وتُعْلِيها، حَتّى تَصِيرَ أشْرَفَ شَيْءٍ وأكْبَرَهُ، وأزْكاهُ وأعْلاهُ، ومَعَ ذَلِكَ فَهي أذَلُّ شَيْءٍ وأحْقَرُهُ وأصْغَرُهُ لِلَّهِ تَعالى، وبِهَذا الذُّلِّ حَصَلَ لَها هَذا العِزُّ والشَّرَفُ والنُّمُوُّ، فَما أصْغَرَ النُّفُوسَ مِثْلُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وما كَبَّرَها وشَرَّفَها ورَفَعَها مِثْلُ طاعَةِ اللَّهِ.
* (فصل)
وَحَقِيقَةُ الأدَبِ اسْتِعْمالُ الخُلُقِ الجَمِيلِ. ولِهَذا كانَ الأدَبُ: اسْتِخْراجَ ما في الطَّبِيعَةِ مِنَ الكَمالِ مِنَ القُوَّةِ إلى الفِعْلِ.
فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ هَيَّأ الإنْسانَ لِقَبُولِ الكَمالِ بِما أعْطاهُ مِنَ الأهْلِيَّةِ والِاسْتِعْدادِ، الَّتِي جَعَلَها فِيهِ كامِنَةً كالنّارِ في الزِّنادِ.
فَألْهَمَهُ ومَكَّنَهُ، وعَرَّفَهُ وأرْشَدَهُ. وأرْسَلَ إلَيْهِ رُسُلَهُ. وأنْزَلَ إلَيْهِ كَتَبَهُ لِاسْتِخْراجِ تِلْكَ القُوَّةِ الَّتِي أهَّلَهُ بِها لِكَمالِهِ إلى الفِعْلِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَنَفْسٍ وما سَوّاها - فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها - قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها - وقَدْ خابَ مَن دَسّاها﴾ [الشمس: ٧-١٠].
فَعَبَّرَ عَنْ خُلُقِ النَّفْسِ بِالتَّسْوِيَةِ لِلدَّلالَةِ عَلى الِاعْتِدالِ والتَّمامِ. ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ قَبُولِها لِلْفُجُورِ والتَّقْوى. وأنَّ ذَلِكَ نالَها مِنهُ امْتِحانًا واخْتِبارًا. ثُمَّ خَصَّ بِالفَلاحِ مَن زَكّاها فَنَمّاها وعَلّاها. ورَفَعَها بِآدابِهِ الَّتِي أدَّبَ بِها رُسُلَهُ وأنْبِياءَهُ وأوْلِياءَهُ. وهي التَّقْوى. ثُمَّ حَكَمَ بِالشَّقاءِ عَلى مَن دَسّاها فَأخْفاها وحَقَّرَها. وصَغَّرَها وقَمَعَها بِالفُجُورِ. واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ المَرْتَبَةُ التّاسِعَةُ مَرْتَبَةُ الإلْهامِ]
[الإلْهامُ هو مَقامُ المُحَدِّثِينَ]
* فَصْلٌ المَرْتَبَةُ التّاسِعَةُ مَرْتَبَةُ الإلْهامِ
قالَ تَعالى ﴿وَنَفْسٍ وما سَوّاها فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ [الشمس: ٧]
وَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِ حُصَيْنِ بْنِ مُنْذِرٍ الخُزاعِيِّ لَمّا أسْلَمَ «قُلِ: اللَّهُمَّ ألْهِمْنِي رُشْدِي، وقِنِي شَرَّ نَفْسِي».
وَقَدْ جَعَلَ صاحِبُ المَنازِلِ الإلْهامَ هو مَقامُ المُحَدَّثِينَ، قالَ: وهو فَوْقَ مَقامِ الفِراسَةِ، لِأنَّ الفِراسَةَ رُبَّما وقَعَتْ نادِرَةً، واسْتُصْعِبَتْ عَلى صاحِبِها وقْتًا، أوِ اسْتَعْصَتْ عَلَيْهِ، والإلْهامُ لا يَكُونُ إلّا في مَقامٍ عَتِيدٍ.
قُلْتُ: التَّحْدِيثُ أخَصُّ مِنَ الإلْهامِ، فَإنَّ الإلْهامَ عامٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ إيمانِهِمْ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ فَقَدْ ألْهَمَهُ اللَّهُ رُشْدَهُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِهِ الإيمانُ، فَأمّا التَّحْدِيثُ فالنَّبِيُّ ﷺ قالَ فِيهِ «إنْ يَكُنْ في هَذِهِ الأُمَّةِ أحَدٌ فَعُمَرُ» يَعْنِي مِنَ المُحَدَّثِينَ، فالتَّحْدِيثُ إلْهامٌ خاصٌّ، وهو الوَحْيُ إلى غَيْرِ الأنْبِياءِ إمّا مِنَ المُكَلَّفِينَ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَأوْحَيْنا إلى أُمِّ مُوسى أنْ أرْضِعِيهِ﴾ [القصص: ٧] وقَوْلِهِ ﴿وَإذْ أوْحَيْتُ إلى الحَوارِيِّينَ أنْ آمِنُوا بِي وبِرَسُولِي﴾ [المائدة: ١١١]
وَإمّا مِن غَيْرِ المُكَلَّفِينَ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا ومِنَ الشَّجَرِ ومِمّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل: ٦٨] فَهَذا كُلُّهُ وحَيُّ إلْهامٍ.
وَأمّا جَعْلُهُ فَوْقَ مَقامِ الفَراسَةِ فَقَدِ احْتُجَّ عَلَيْهِ بِأنَّ الفَراسَةَ رُبَّما وقَعَتْ نادِرَةً كَما تَقَدَّمَ، والنّادِرُ لا حُكْمَ لَهُ، ورُبَّما اسْتَعْصَتْ عَلى صاحِبِها واسْتُصْعِبَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ تُطاوِعْهُ، والإلْهامُ لا يَكُونُ إلّا في مَقامٍ عَتِيدٍ، يَعْنِي في مَقامِ القُرْبِ والحُضُورِ.
والتَّحْقِيقُ في هَذا أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ " الفِراسَةِ " و" الإلْهامِ " يَنْقَسِمُ إلى عامٍّ وخاصٍّ، وخاصُّ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما فَوْقَ عامِّ الآخَرِ، وعامُّ كُلِّ واحِدٍ قَدْ يَقَعُ كَثِيرًا، وخاصُّهُ قَدْ يَقَعُ نادِرًا، ولَكِنَّ الفَرْقَ الصَّحِيحَ أنَّ الفِراسَةَ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِنَوْعِ كَسْبٍ وتَحْصِيلٍ، وأمّا الإلْهامُ فَمَوْهِبَةٌ مُجَرَّدَةٌ، لا تُنالُ بِكَسْبٍ ألْبَتَّةَ.
* [فَصْلٌ دَرَجاتُ الإلْهامِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى نَبَأٌ يَقَعُ وحْيًا قاطِعًا مَقْرُونًا بِسَماعٍ]
* فَصْلٌ دَرَجاتُ الإلْهامِ
قالَ: وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ:
الدَّرَجَةُ الأُولى: نَبَأٌ يَقَعُ وحْيًا قاطِعًا مَقْرُونًا بِسَماعٍ، إذْ مُطْلَقُ النَّبَأِ الخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ، فَلَيْسَ كُلُّ خَبَرٍ نَبَأً، وهو نَبَأُ خَبَرٍ عَنْ غَيْبٍ مُعَظَّمٍ.
وَيُرِيدُ بِالوَحْيِ والإلْهامِ: الإعْلامَ الَّذِي يَقْطَعُ مَن وصَلَ إلَيْهِ بِمُوجَبِهِ، إمّا بِواسِطَةِ سَمْعٍ، أوْ هو الإعْلامُ بِلا واسِطَةٍ.
قُلْتُ: أمّا حُصُولُهُ بِواسِطَةِ سَمْعٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ إلْهامًا، بَلْ هو مِن قَبِيلِ الخِطابِ، وهَذا يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ لِغَيْرِ الأنْبِياءِ، وهو الَّذِي خُصَّ بِهِ مُوسى، إذْ كانَ المُخاطِبُ هو الحَقَّ عَزَّ وجَلَّ.
وَأمّا ما يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِن أرْبابِ الرِّياضاتِ مِن سَماعٍ فَهو مِن أحَدِ وُجُوهٍ ثَلاثَةٍ لا رابِعَ لَها، أعْلاها: أنْ يُخاطِبَهُ المَلَكُ خِطابًا جُزْئِيًّا، فَإنَّ هَذا يَقَعُ لِغَيْرِ الأنْبِياءِ، فَقَدْ كانَتِ المَلائِكَةُ تُخاطِبُ عِمْرانَ بْنَ حُصَيْنٍ بِالسَّلامِ، فَلَمّا اكْتَوى تَرَكَتْ خِطابَهُ، فَلَمّا تَرَكَ الكَيَّ عادَ إلَيْهِ خِطابٌ مَلَكِيٌّ، وهو نَوْعانِ:
أحَدُهُما: خِطابٌ يَسْمَعُهُ بِأُذُنِهِ، وهو نادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلى عُمُومِ المُؤْمِنِينَ.
والثّانِي: خِطابٌ يُلْقى في قَلْبِهِ يُخاطِبُ بِهِ المَلَكُ رُوحَهُ، كَما في الحَدِيثِ المَشْهُورِ
«إنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ، ولِلشَّيْطانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ المَلَكِ: إيعادٌ بِالخَيْرِ، وتَصْدِيقٌ بِالوَعْدِ، ولَمَّةُ الشَّيْطانِ إيعادٌ بِالشَّرِّ وتَكْذِيبٌ بِالوَعْدِ»
ثُمَّ قَرَأ ﴿الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكم بِالفَحْشاءِ واللَّهُ يَعِدُكم مَغْفِرَةً مِنهُ وفَضْلًا﴾ [البقرة: ٢٦٨] وقالَ تَعالى ﴿إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى المَلائِكَةِ أنِّي مَعَكم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفال: ١٢] قِيلَ في تَفْسِيرِها: قَوُّوا قُلُوبَهُمْ، وبَشَّرُوهم بِالنَّصْرِ، وقِيلَ: احْضُرُوا مَعَهُمُ القِتالَ، والقَوْلانِ حَقٌّ، فَإنَّهم حَضَرُوا مَعَهُمُ القِتالَ، وثَبَّتُوا قُلُوبَهم.
وَمِن هَذا الخِطابِ واعِظُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ في قُلُوبِ عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ، كَما في جامِعِ التِّرْمِذِيِّ ومَسْنَدِ أحْمَدَ مِن حَدِيثِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعانَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ «إنَّ اللَّهَ تَعالى ضَرَبَ مَثَلًا صِراطًا مُسْتَقِيمًا، وعَلى كَنَفَتَيِ الصِّراطِ سُورانِ، لَهُما أبْوابٌ مُفَتَّحَةٌ، وعَلى الأبْوابِ سُتُورٌ مُرْخاةٌ، وداعٍ يَدْعُو عَلى رَأْسِ الصِّراطِ، وداعٍ يَدْعُو فَوْقَ الصِّراطِ، فالصِّراطُ المُسْتَقِيمُ الإسْلامُ، والسُّورانِ حُدُودُ اللَّهِ، والأبْوابُ المُفَتَّحَةُ مَحارِمُ اللَّهِ، فَلا يَقَعُ أحَدٌ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ حَتّى يَكْشِفَ السِّتْرَ، والدّاعِي عَلى رَأْسِ الصِّراطِ كِتابُ اللَّهِ، والدّاعِي فَوْقَ الصِّراطِ واعِظُ اللَّهِ في قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» فَهَذا الواعِظُ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ هو الإلْهامُ الإلَهِيُّ بِواسِطَةِ المَلائِكَةِ.
وَأمّا وُقُوعُهُ بِغَيْرِ واسِطَةٍ فَما لَمْ يَتَبَيَّنْ بَعْدُ، والجَزْمُ فِيهِ بِنَفْيٍ أوْ إثْباتٍ مَوْقُوفٌ عَلى الدَّلِيلِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* (فَصْلٌ)
النَّوْعُ الثّانِي مِنَ الخِطابِ المَسْمُوعِ: خِطابُ الهَواتِفِ مِنَ الجانِّ، وقَدْ يَكُونُ المُخاطِبُ جِنِّيًّا مُؤْمِنًا صالِحًا، وقَدْ يَكُونُ شَيْطانًا، وهَذا أيْضًا نَوْعانِ:
أحَدُهُما: أنْ يُخاطِبَهُ خِطابًا يَسْمَعُهُ بِأُذُنِهِ.
والثّانِي: أنْ يُلْقِيَ في قَلْبِهِ عِنْدَما يُلِمُّ بِهِ، ومِنهُ وعْدُهُ وتَمْنِيَتُهُ حِينَ يَعِدُ الإنْسِيَّ ويُمَنِّيهِ، ويَأْمُرُهُ ويَنْهاهُ، كَما قالَ تَعالى ﴿يَعِدُهم ويُمَنِّيهِمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلّا غُرُورًا﴾ [النساء: ١٢٠] وقالَ ﴿الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكم بِالفَحْشاءِ﴾ [البقرة: ٢٦٨]
وَلِلْقَلْبِ مِن هَذا الخِطابِ نَصِيبٌ، ولِلْأُذُنِ أيْضًا مِنهُ نَصِيبٌ، والعِصْمَةُ مُنْتَفِيَةٌ إلّا عَنِ الرُّسُلِ، ومَجْمُوعِ الأُمَّةِ.
فَمِن أيْنَ لِلْمُخاطَبِ أنَّ هَذا الخِطابَ رَحِمانِيٌّ، أوْ مَلَكِيٌّ؟ بِأيِّ بُرْهانٍ؟ أوْ بِأيِّ دَلِيلٍ؟ والشَّيْطانُ يَقْذِفُ في النَّفْسِ وحْيَهُ، ويُلْقِي في السَّمْعِ خِطابَهُ، فَيَقُولُ المَغْرُورُ المَخْدُوعُ: قِيلَ لِي وخُوطِبْتُ، صَدَقْتَ لَكِنَّ الشَّأْنَ في القائِلِ لَكَ والمُخاطِبِ، وقَدْ قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِغَيْلانَ بْنِ سَلَمَةَ وهو مِنَ الصَّحابَةِ لَمّا طَلَّقَ نِساءَهُ، وقَسَّمَ مالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ: إنِّي لَأظُنُّ الشَّيْطانَ فِيما يَسْتَرِقُ مِنَ السَّمْعِ سَمِعَ بِمَوْتِكَ، فَقَذَفَهُ في نَفْسِكَ. فَمَن يَأْمَنُ القُرّاءَ بَعْدَكَ يا شَهْرُ؟
* (فَصْلٌ)
النَّوْعُ الثّالِثُ: خِطابٌ حالِيٌّ، تَكُونُ بِدايَتُهُ مِنَ النَّفْسِ، وعَوْدُهُ إلَيْها، فَيَتَوَهَّمُهُ مِن خارِجٍ، وإنَّما هو مِن نَفْسِهِ، مِنها بَدَأ وإلَيْها يَعُودُ.
وَهَذا كَثِيرًا ما يَعْرِضُ لِلسّالِكِ، فَيَغْلَطُ فِيهِ، ويَعْتَقِدُ أنَّهُ خِطابٌ مِنَ اللَّهِ، كَلَّمَهُ بِهِ مِنهُ إلَيْهِ، وسَبَبُ غَلَطِهِ أنَّ اللَّطِيفَةَ المُدْرِكَةَ مِنَ الإنْسانِ إذا صَفَتْ بِالرِّياضَةِ، وانْقَطَعَتْ عُلَقُها عَنِ الشَّواغِلِ الكَثِيفَةِ صارَ الحَكَمُ لَها بِحُكْمِ اسْتِيلاءِ الرُّوحِ والقَلْبِ عَلى البَدَنِ، ومَصِيرُ الحُكْمِ لَهُما، فَتَنْصَرِفُ عِنايَةُ النَّفْسِ والقَلْبِ إلى تَجْرِيدِ المَعانِي الَّتِي هي مُتَّصِلَةٌ بِهِما، وتَشْتَدُّ عِنايَةُ الرُّوحِ بِها، وتَصِيرُ في مَحَلِّ تِلْكَ العَلائِقِ والشَّواغِلِ، فَتَمْلَأُ القَلْبَ، فَتَنْصَرِفُ تِلْكَ المَعانِي إلى المَنطِقِ والخِطابِ القَلْبِيِّ الرُّوحِيِّ بِحُكْمِ العادَةِ، ويَتَّفِقُ تَجَرُّدُ الرُّوحِ، فَتُشَكَّلُ تِلْكَ المَعانِي لِلْقُوَّةِ السّامِعَةِ بِشَكْلِ الأصْواتِ المَسْمُوعَةِ، ولِلْقُوَّةِ الباصِرَةِ بِشَكْلِ الأشْخاصِ المَرْئِيَّةِ، فَيَرى صُوَرَها، ويَسْمَعُ الخِطابَ، وكُلُّهُ في نَفْسِهِ لَيْسَ في الخارِجِ مِنهُ شَيْءٌ، ويَحْلِفُ أنَّهُ رَأى وسَمِعَ، وصَدَّقَ، لَكِنْ رَأى وسَمِعَ في الخارِجِ، أوْ في نَفْسِهِ؟
وَيَتَّفِقُ ضَعْفُ التَّمْيِيزِ، وقِلَّةُ العِلْمِ، واسْتِيلاءُ تِلْكَ المَعانِي عَلى الرُّوحِ، وتَجَرُّدُها عَنِ الشَّواغِلِ.
فَهَذِهِ الوُجُوهُ الثَّلاثَةُ هي وُجُوهُ الخِطابِ، ومَن سَمَّعَ نَفْسَهُ غَيْرَها فَإنَّما هو غُرُورٌ، وخَدْعٌ وتَلْبِيسٌ، وهَذا المَوْضِعُ مَقْطَعُ القَوْلِ، وهو مِن أجَلِّ المَواضِعِ لِمَن حَقَّقَهُ وفَهِمَهُ، واللَّهُ المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ إلْهامٌ يَقَعُ عِيانًا]
قالَ: " الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: إلْهامٌ يَقَعُ عِيانًا، وعَلامَةُ صِحَّتِهِ أنَّهُ لا يَخْرِقُ سِتْرًا، ولا يُجاوِزُ حَدًّا، ولا يُخْطِئُ أبَدًا ".
الفَرْقُ بَيْنَ هَذا وبَيْنَ الإلْهامِ في الدَّرَجَةِ الأُولى: أنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ شَبِيهٌ بِالضَّرُورِيِّ الَّذِي لا يُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنِ القَلْبِ، وهَذا مُعايَنَةٌ ومُكاشَفَةٌ، فَهو فَوْقَهُ في الدَّرَجَةِ، وأتَمُّ مِنهُ ظُهُورًا، ونِسْبَتُهُ إلى القَلْبِ نِسْبَةُ المَرْئِيِّ إلى العَيْنِ، وذَكَرَ لَهُ ثَلاثَ عَلاماتٍ:
إحْداها: أنَّهُ لا يَخْرِقُ سِتْرًا، أيْ صاحِبُهُ إذا كُوشِفَ بِحالٍ غَيْرِ المَسْتُورِ عَنْهُ لا يَخْرِقُ سِتْرَهُ ويَكْشِفُهُ، خَيْرًا كانَ أوْ شَرًّا، أوْ أنَّهُ لا يَخْرِقُ ما سَتَرَهُ اللَّهُ مِن نَفْسِهِ عَنِ النّاسِ، بَلْ يَسْتُرُ نَفْسَهُ، ويَسْتُرُ مَن كُوشِفَ بِحالِهِ.
الثّانِيَةُ: أنَّهُ لا يُجاوِزُ حَدًّا، يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ لا يَتَجاوَزُ بِهِ إلى ارْتِكابِ المَعاصِي، وتَجاوُزِ حُدُودِ اللَّهِ، مِثْلَ الكُهّانِ، وأصْحابِ الكَشْفِ الشَّيْطانِيِّ.
الثّانِي: أنَّهُ لا يَقَعُ عَلى خِلافِ الحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ، مِثْلَ أنْ يَتَجَسَّسَ بِهِ عَلى العَوْراتِ الَّتِي نَهى اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ عَلَيْها وتَتَبُّعِها، فَإذا تَتَبَّعَها وقَعَ عَلَيْها بِهَذا الكَشْفِ، فَهو شَيْطانِيٌّ لا رَحِمانِيٌّ.
الثّالِثَةُ: أنَّهُ لا يُخْطِئُ أبَدًا، بِخِلافِ الشَّيْطانِيِّ، فَإنَّ خَطَأهُ كَثِيرٌ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِابْنِ صائِدٍ «ما تَرى؟ قالَ: أرى صادِقًا وكاذِبًا، فَقالَ: لَبَّسَ عَلَيْكَ» فالكَشْفُ الشَّيْطانِيُّ لا بُدَّ أنْ يَكْذِبَ، ولا يَسْتَمِرُّ صِدْقُهُ ألْبَتَّةَ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ إلْهامٌ يَجْلُو عَيْنَ التَّحْقِيقِ صَرْفًا]
قالَ: " الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: إلْهامٌ يَجْلُو عَيْنَ التَّحْقِيقِ صَرْفًا، ويَنْطِقُ عَنْ عَيْنِ الأزَلِ مَحْضًا، والإلْهامُ غايَةٌ تَمْتَنِعُ الإشارَةُ إلَيْها ".
عَيْنُ التَّحْقِيقِ عِنْدَهُ هي الفَناءُ في شُهُودِ الحَقِيقَةِ، بِحَيْثُ يَضْمَحِلُّ كُلُّ ما سِواها في ذَلِكَ الشُّهُودِ، وتَعُودُ الرُّسُومُ أعْدامًا مَحْضَةً، فالإلْهامُ في هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَجْلُو هَذا العَيْنَ لِلْمُلْهَمِ صَرْفًا، بِحَيْثُ لا يُمازِجُها شَيْءٌ مِن إدْراكِ العُقُولِ ولا الحَواسِّ، فَإنْ كانَ هُناكَ إدْراكٌ عَقْلِيٌّ أوْ حِسِّيٌّ لَمْ يَتَمَحَّضْ جَلاءُ عَيْنِ الحَقِيقَةِ، والنّاطِقُ عَنْ هَذا الكَشْفِ عِنْدَهم لا يَفْهَمُ عَنْهُ إلّا مَن هو مَعَهُ، ومُشارِكٌ لَهُ، وعِنْدَ أرْبابِ هَذا الكَشْفِ أنَّ كُلَّ الخَلْقِ عَنْهُ في حِجابٍ، وعِنْدَهم أنَّ العِلْمَ والعَقْلَ والحالَ حُجُبٌ عَلَيْهِ، وأنَّ خِطابَ الخَلْقِ إنَّما يَكُونُ عَلى لِسانِ الحِجابِ، وأنَّهم لا يَفْهَمُونَ لُغَةَ ما وراءَ الحِجابِ مِنَ المَعْنى المَحْجُوبِ، فَلِذَلِكَ تَمْتَنِعُ الإشارَةُ إلَيْهِ، والعِبارَةُ عَنْهُ، فَإنَّ الإشارَةَ والعِبارَةَ إنَّما يَتَعَلَّقانِ بِالمَحْسُوسِ والمَعْقُولِ، وهَذا أمْرٌ وراءَ الحِسِّ والعَقْلِ.
وَحاصِلُ هَذا الإلْهامِ أنَّهُ إلْهامٌ تَرْتَفِعُ مَعَهُ الوَسائِطُ وتَضْمَحِلُّ وتُعْدَمُ، لَكِنْ في الشُّهُودِ لا في الوُجُودِ، وأمّا الِاتِّحادِيَّةُ القائِلُونَ بِوَحْدَةِ الوُجُودِ فَإنَّهم يَجْعَلُونَ ذَلِكَ اضْمِحْلالًا وعَدَمًا في الوُجُودِ، ويَجْعَلُونَ صاحِبَ المَنازِلِ مِنهُمْ، وهو بَرِيءٌ مِنهم عَقْلًا ودِينًا وحالًا ومَعْرِفَةً، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":9,"ayahs":["قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا","وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا"],"ayah":"قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق