الباحث القرآني

وكذلك النفس أقسم بها وبمن سواها وألهمها فجورها وتقواها فإن من الناس من يقول قديمة لا مبدع لها ومنهم من يقول بل هي التي تبدع فجورها وتقواها فذكر سبحانه أنه هو الذي سواها وأبدعها وأنه هو الذي ألهمها الفجور والتقوى فأعلمنا أنه خالق نفوسًا وأعمالها وذكر لفظ التسوية كما ذكره في قوله ﴿ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ وفي قوله ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ إيذانًا بدخول البدن في لفظ النفس كقوله ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ وقوله ﴿فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ ﴿وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُم﴾ ﴿لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بِأنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ ونظائره وباجتماع الروح مع البدن تصير النفس فاجرة أو تقية وإلا فالروح بدون البدن لا فجور لها. * (فصل) قال تعالى: ﴿ونَفْسٍ وما سَوّاها، فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ أخبر أنه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ فهو سبحانه سوى نفس الإنسان، كما سوى بدنه، بل سوى بدنه كالقلب لنفسه، فتسوية البدن تابع لتسوية النفس، والبدن موضوع لها كالقلب لما هو موضوع له. ومن هاهنا يعلم أنها تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، فإنها تتأثر وتنتقل عن البدن، كما يتأثر البدن وينتقل عنها، فيكتسب البدن الطيب والخبيث من طيب النفس، وخبيثها وتكتسب النفس الطيب والخبيث من طيب البدن وخبثه، فأشد الأشياء ارتباطا وتناسبا وتفاعلا وتأثرا من أحدهما بالآخر الروح والبدن. ولهذا يقال عند المفارقة: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، واخرجي أيتها النفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث. * (فصل) ومن ذلك إخباره سبحانه بأنه هو الذي يلهم العبد فجوره وتقواه والإلهام الإلقاء في القلب لا مجرد البيان والتعليم، كما قاله طائفة من المفسرين إذ لا يقال لمن بين لغيره شيئا وعلمه إياه أنه قد ألهمه ذلك هذا لا يعرف في اللغة ألبتة بل الصواب ما قاله ابن زيد قال جعل فيها فجورها وتقواها وعليه حديث عمران بن حصين: "أن رجلا من مزينة أو جهينة أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر سابق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم؟ قال: بل شيء قضي عليهم ومضى. قال: ففيم العمل قال: من خلقه الله لإحدى المنزلتين استعمله بعمل أهلها وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿وَنَفْسٍ وما سَوّاها. فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ " فقراءته هذه الآية عقيب إخباره بتقديم القضاء والقدر السابق يدل على أن المراد بالإلهام استعمالها فيما سبق لها لا مجرد تعريفها فإن التعريف والبيان لا يستلزم وقوع ما سبق به القضاء والقدر ومن فسر الآية من السلف بالتعليم والتعريف فمراده تعريف مستلزم لحصول ذلك لا تعريف مجرد عن الحصول فإنه لا يسمى إلهاما وبالله التوفيق. (قاعدة: إذا اجتمع مَن يعقل وغيره غلب مَن يعقل) قال تعالى: ﴿فَمِنهم مَن يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ﴾ وكذا ﴿على أربع﴾ يدل على استعمال (مَن) فيمن لا يعقل. وفيه وجهان: أحدهما: أن صدر الآية قوله تعالى: ﴿واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ مِن ماءٍ﴾ فاجتمع جميع الدواب ومنهم العالمون كالإنس، وغير العالِمِين كالبهائم. والقاعدة: إذا اجتمع مَن يعقل وغيره غلب مَن يعقل، فلما وقع التفصيل وقع تفصيلا للعقلاء فقط. الوجه الثاني: أنه قابل من يمشي في قوله: ﴿وَمِنهم مَن يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ﴾ فعدل عن الأصل للمقابلة المطلوبة. وقيل (ما) للعالِمِين أيضا كقوله: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ وأجيب بأن (ما) هنا مصدرية تقديره: ولا أنتم عابدون عبادتي ولا أنا عابد عبادتكم، فما عبر بها إلا عمن لا يعقل. وكذلك أجابوا عن قوله: ﴿وَنَفْسٍ وما سَوّاها﴾ غير أنه أشكل عليهم الضمير في قوله تعالى: ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ و (ما) المصدرية حرف لا تعود عليها الضمائر. والتزم بعضهم عود الضمير عليها. أعني المصدرية. وهو ضعيف. ومما أُوِّل قوله تعالى: ﴿وَما خَلَقَ الذَّكَرَ والأنْثى﴾ ومما عسر تأويله قوله تعالى: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ﴾ والنساء يعقلن. قال الشيخ: قلت ذكر أبو البقاء وغيره أنه إنما قيل: ﴿وَنَفْسٍ وما سَوّاها﴾ لأن مَن لم يعقل ولا يوصف الله تعالى بهذا الإطلاق وإنما يوصف بالعلم فأتي بـ (ما) الدالة على مسمى شيء سوّاها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب