الباحث القرآني

* (فصل) وأما سورة ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذا البَلَدِ﴾ فذكر فيها جواب القسم وهو قوله ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنسان في كَبَدٍ﴾ وفسر الكبد بالاستواء وانتصاب القامة قال ابن عباس في رواية مقسم منتصبا على قدميه وهذا قول أبي صالح والضحاك وإبراهيم وعكرمة وعبد الله بن شداد قال المنذر سمعت أبا طالب يقول الكبد الاستواء والاستقامة وفسر بالنصب. هذا قول مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ورواية عن علي وعن ابن عباس قال الحسن لم يخلق الله خلقًا يكابد ما يكابد ابن آدم وقال سعيد بن أبي الحسن يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة وقال قتادة يكابد أمر الدنيا والآخرة فلا تلقاه إلا في مشقة وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال يعني حمله وولادته ورضاعه وفصاله ونبت أسنانه وحياته ومعاشه ومماته كل ذلك شدة قال مجاهد حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا ومعيشته في شدة فهو يكابد ذلك وعلى هذا فالكبد من مكابدة الأمر وهي معاناة شدته ومشقته والرجل يكابد الليل إذا قاسى هو له وصعوبته والكبد شدة الأمر ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد ومنه الكبد لأنها دم يغلظ ويشتد وانتصاب القامة والاستواء من ذلك، لأنه إنما يكون عن قوة وشدة فإن الإنسان مخلوق في شدة بكونه في الرحم ثم في القماط والرباط ثم هو على خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف ومكابدة المعيشة والأمر والنهي ثم مكابدة الموت وما بعده في البرزخ وموقف القيامة ثم مكابدة العذاب في النار ولا راحة له إلا في الجنة وفسر الكبد بشدة الخلق وإحكامه وقوته ومنه قول لبيد: ؎يا عين هلا بكيت أربد إذ ∗∗∗ قمنا وقام الخصوم في كبد أي في شدة وعناء وهذا يشبه قوله تعالى ﴿نَحْنُ خَلَقْناهم وشَدَدْنا أسْرَهُمْ﴾ قال ابن عباس أي خلقهم وقال أبو عبيدة الأسر شدة الخلق يقال فرس شديد الأسر قال وكل شيء شددته من قتب أو غير فهو مأسور وقال المبرد الأسر القوى كلها وقال الليث:" الأسر قوة المفاصل والأوصال وشد الله أسر فلان أي قوى خلقه وكل شيء جمع طرفاه فشد أحدهما بالآخر فقد أسر" وقال الحسن شددنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب وقال مجاهد هو الشرج يعني موضع البول والغائط إذا خرج الأذى تقبضا والمقصود أنه سبحانه أقسم في سورة البلد على حال الإنسان وأقسم سبحانه بالبلد الأمين وهو مكة أم القرى ثم أقسم بالوالد وما ولد وهو آدم وذريته في قول جمهور المفسرين وعلى هذا فقد تضمن القسم أصل المكان وأصل السكان فمرجع البلاد إلى مكة ومرجع العباد إلى آدم وقوله ﴿وَأنْتَ حِلٌّ بِهَذا البَلَدِ﴾ فيه قولان أحدهما أنه من الإحلال وهو ضد الإحرام والثاني أنه من الحلول وهو ضد الظعن فإن أريد به المعنى الأول فهو حلال ساكن البلد بخلاف المحرم الذي يحج ويعتمر ويرجع ولأن أمنه إنما تظهر به النعمة عند الحل من الإحرام وإلا ففي حال الإحرام هو في أمان والحرمة هناك للفعل لا للمكان والمقصود هو ذكر حرمة المكان وهي إنما تظهر بحال الحلال الذي لم يتلبس بما يقتضي أمنه ولكن على هذا ففيه تنبيه فإنه إذا أقسم به وفيه الحلال فإذا كان فيه الحرام فهو أولى بالتعظيم والأمن وكذلك إذا أريد المعنى الثاني وهو الحلول فهو متضمن لهذا التعظيم مع تضمنه أمرا آخر وهو الاقسام ببلده المشتمل على رسوله وعبده فهو خير البقاع وقد اشتمل على خير العباد فجعل بيته هدى للناس ونبيه إمامًا وهاديًا لهم وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه كما هو من أعظم آياته ودلائل وحدانيته وربوبيته فمن اعتبر حال بيته وحال نبيه وجد ذلك من أظهر أدلة التوحيد والربوبية وفي الآية قول ثالث وهو أن المعنى وأنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذي يأمن فيه الطير والوحش والجاني وقد استحل قومك فيه حرمتك وهم لا يعضدون به شجرة ولا ينفرون به صيدا وهذا مروي عن شرحبيل بن سعد وعلى كل حال فهي جملة اعتراض في أثناء القسم موقعها من أحسن موقع وألطفه فهذا القسم متضمن لتعظيم بيته ورسوله ثم أنكر سبحانه على الإنسان ظنه وحسبانه أن لن يقدر عليه من خلقه في هذا الكبد والشدة والقوة التي يكابد بها الأمور فإن الذي خلقه كذلك أولى بالقدرة منه وأحق فكيف يقدر على غيره من لم يكن قادرا في نفسه فهذا برهان مستقل بنفسه مع أنه متضمن للجزاء الذي مناطه القدرة والعلم فنبه على ذلك بقوله ﴿أيَحْسَبُ أنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحَدٌ﴾ وبقوله ﴿أيَحْسَبُ أنْ لَمْ يَرَهُ أحَدٌ﴾ فيحصى عليه ما عمل من خير وشر ولا يقدر عليه فيجازيه بما يستحقه ثم أنكر سبحانه على الإنسان قوله ﴿يَقُولُ أهْلَكْتُ مالًا لُبَدًا﴾ وهو الكثير الذي يلبد بعضه فوق بعض فافتخر هذا الإنسان بإهلاكه وإنفاقه في غير وجهه إذ لو أنفقه في وجوهه التي أمر بإنفاقه فيها ووضعه مواضعه لم يكن ذلك إهلاكًا له بل تقربًا به إلى الله وتوصلًا به إلى رضاه وثوابه وذلك ليس بإهلاك له فأنكر سبحانه افتخاره وتبجحه بإنفاق المال في شهواته وأغراضه التي إنفاقه فيها إهلاك له. ثم وبخه بقوله ﴿أيَحْسَبُ أنْ لَمْ يَرَهُ أحَدٌ﴾ وأتى هاهنا بـ (لم) الدالة على المضي في مقابلة قوله ﴿يَقُولُ أهْلَكْتُ مالًا لُبَدًا﴾ فإن ذلك في الماضي أفيحسب أن لم يره أحد فيما أنفقه وفيما أهلكه. * (فصل) وَقالَ تَعالى: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذا البَلَدِ﴾ وَلَيْسَ عَلى وجْهِ الأرْضِ بُقْعَةٌ يَجِبُ عَلى كُلِّ قادِرٍ السَّعْيُ إلَيْها والطَّوافُ بِالبَيْتِ الَّذِي فِيها غَيْرَها، ولَيْسَ عَلى وجْهِ الأرْضِ مَوْضِعٌ يُشْرَعُ تَقْبِيلُهُ واسْتِلامُهُ، وتُحَطُّ الخَطايا والأوْزارُ فِيهِ غَيْرَ الحَجَرِ الأسْوَدِ، والرُّكْنِ اليَمانِيِّ. وثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّ الصَّلاةَ في المَسْجِدِ الحَرامِ بِمِائَةِ ألْفِ صَلاةٍ، فَفي " سُنَنِ النَّسائِيِّ " و" المُسْنَدِ " بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَنْ عبد الله بن الزبير، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «صَلاةٌ في مَسْجِدِي هَذا أفْضَلُ مِن ألْفِ صَلاةٍ فِيما سِواهُ إلّا المَسْجِدَ الحَرامَ، وصَلاةٌ في المَسْجِدِ الحَرامِ أفْضَلُ مِن صَلاةٍ في مَسْجِدِي هَذا بِمِائَةِ صَلاةٍ» وَرَواهُ ابْنُ حِبّانَ في " صَحِيحِهِ " وَهَذا صَرِيحٌ في أنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ أفْضَلُ بِقاعِ الأرْضِ عَلى الإطْلاقِ، ولِذَلِكَ كانَ شَدُّ الرِّحالِ إلَيْهِ فَرْضًا، ولِغَيْرِهِ مِمّا يُسْتَحَبُّ ولا يَجِبُ، وفي " المُسْنَدِ " والتِّرْمِذِيِّ والنَّسائِيِّ عَنْ عبد الله بن عدي بن الحمراء، أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهو واقِفٌ عَلى راحِلَتِهِ بِالحَزْوَرَةِ مِن مَكَّةَ يَقُولُ: «واللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ اللَّهِ وأحَبُّ أرْضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولَوْلا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنكِ ما خَرَجْتُ» قالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. بَلْ ومِن خَصائِصِها كَوْنُها قِبْلَةً لِأهْلِ الأرْضِ كُلِّهِمْ، فَلَيْسَ عَلى وجْهِ الأرْضِ قِبْلَةٌ غَيْرُها. وَمِن خَواصِّها أيْضًا أنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِقْبالُها واسْتِدْبارُها عِنْدَ قَضاءِ الحاجَةِ دُونَ سائِرِ بِقاعِ الأرْضِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب