الباحث القرآني

ثم ذكر برهانًا مقدرًا أنه سبحانه أحق بالرؤية وأولى من هذا العبد الذي له عينان يبصر بهما فكيف يعطيه البصر من لم يره وكيف يعطيه آلة البيان من الشفتين واللسان فينطق ويبين عما في نفسه ويأمر وينهى من لا يتكلم ولا يكلم ولا يخاطب ولا يأمر ولا ينهى وهل كمال المخلوق مستفاد إلا من كمال خالقه. ومن جعل غيره عالمًا بنجدَي الخير والشر وهما طريقاهما أليس هو أولى وأحق بالعلم منه؟ ومن هداه إلى هذين الطريقين كيف يليق به أن يتركه سدى لا يعرفه ما يضره وما ينفعه في معاشه ومعاده؟ وهل النبوة والرسالة إلا لتكميل هداية النجدين؟ فدل هذا كله على إثبات الخالق وصفات كماله وصدق رسله ووعده. وهذه أصول الإيمان التي اتفقت عليها جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، إذا تأمل الإنسان حاله وخلقه وجده من أعظم الأدلة على صحتها وثبوتها فتكفي الإنسان فكرته في نفسه وخلقه والرسل بعثوا مذكرين بما في الفطر والعقول مكملين له لتقوم على العبد حجة الله بفطرته ورسالته، ومع هذا فقامت عليه حجته ولم يقتحم العقبة التي بينه وبين ربه التي لا يصل إليها حتى يقتحمها بالإحسان إلى خلقه بفك رقبة وهو تخليصها من الرق ليخلصه الله من رق نفسه ورق عدوه وإطعام اليتيم والمسكين في يوم المجاعة وبالإخلاص له سبحانه بالإيمان الذي هو خالص حقه عليه وهو تصديق خبره وطاعة أمره وابتغاء وجهه وبنصيحة غيره أن يوصيه بالبر والرحمة ويقبل وصية من أوصاه بها فيكون صابرًا رحيمًا في نفسه معينًا لغيره على الصبر والرحمة فمن لم يقتحم هذه العقبة وهلك دونها هلك منقطعًا عن ربه غير واصل إليه بل محجوبًا عنه والناس قسمان ناج وهو من قطع العقبة وصار وراءها وهالك وهو من دون العقبة وهم أكثر الخلق ولا يقتحم هذه العقبة إلا المضمرون فإنها عقبة كؤود شاقة لا يقطعها إلا خفيف الظهر وهم أصحاب الميمنة والهالكون دون العقبة الذين لم يصدقوا الخبر ولم يطيعوا الأمر فهم ﴿أصْحابُ المَشْأمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾ قد أطبقت عليهم فلا يستطيعون الخروج منها كما أطبقت عليهم أعمال الغي والاعتقادات الباطلة المنافية لما أخبرت به رسله فلم تخرج قلوبهم منها كذلك أطبقت عليهم هذه النار فلم تستطع أجسامهم الخروج منها فتأمل هذه السورة على اختصارها وما اشتملت عليه من مطالب العلم والإيمان وبالله التوفيق. وأيضًا فإن طريقة القرآن بذكر العلم والقدرة تهديدًا وتخويفا لترتب الجزاء عليهما كما قال تعالى ﴿قُلْ هو القادِرُ عَلى أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكم عَذابًا مِن فَوْقِكُمْ﴾ وقوله تعالى ﴿أرَأيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْدًا إذا صَلّى أرَأيْتَ إنْ كانَ عَلى الهُدى أوْ أمَرَ بِالتَّقْوى أرَأيْتَ إنْ كَذَّبَ وتَوَلّى ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللَّهَ يَرى﴾ وقوله تعالى ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكم ورَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ﴾ وقال ﴿أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهم ونَجْواهم بَلى ورُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ وهذا كثير جدًا في القرآن وليس المراد به مجرد الإخبار بالقدرة والعلم لكن الإخبار مع ذلك بما يترتب عليهما من الجزاء وبالعدل فإنه إذا كان قادرًا أمكن مجازاته، وإذا كان عالمًا أمكن ذلك بالقسط والعدل ومن لم يكن قادرًا لم يمكن مجازاته. وإذا كان قادرًا لكنه غير عالم بتفاصيل الأعمال ومقادير جزائها لم يجاز بالعدل. والرب تعالى موصوف بكمال القدرة وكمال العلم فالجزاء منه موقوف على مجرد مشيئته وإرادته فحينئذ يجب على العاقل أن يطلب النجاة منه بالإخلاص والإحسان، فهو اقتحام العقبة المتضمن للتوبة إلى الله تعالى والإحسان إلى خلقه. وقال ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ وهو فعل ماض ولم يكرر معه (لا) إما استعمالًا لأداة (لا) كاستعمال (ما) وإما إجراء لهذا الفعل مجرى الدعاء نحو: فلا سلم، ولا عاش ونحو ذلك. وإما لأن العقبة قد فسرت بمجموع أمور فاقتحامها فعل كل واحد منها فأغنى ذلك عن تكريرها فكأنه قال فلا فك رقبة ولا أطعم ولا كان من الذين آمنوا وقراءة من قرأ ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ بالفعل كأنها أرجح من قراءة من قرأها بالمصدر لأن قوله ﴿وَما أدْراكَ ما العَقَبَةُ﴾ على حد قوله ﴿وَما أدْراكَ ما الحاقَّةُ﴾ ﴿وَما أدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ﴾ ﴿وَما أدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَة﴾ ونظائره. تعظيمًا لشأن العقبة وتفخيمًا لأمرها، وهي جملة اعتراض بين المفسر والمفسر فإن قوله ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ أوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ تفسير لاقتحام العقبة مكان شاق كؤود يقتحمه الناس حتى يصلوا إلى الجنة واقتحامه بفعل هذه الأمور فمن فعلها فقد اقتحم العقبة. ويدل على ذلك قوله تعالى ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهذا عطف على قوله ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ والأحسن تناسب هذه الجمل المعطوفة التي هي تفسير لما ذكر أولًا وأيضًا فإن من قرأها بالمصدر المضاف فلا بد له من تقدير وهو ما أدراك ما اقتحام العقبة واقتحامها فك رقبة وأيضًا فمن قرأها بالفعل فقد طابق بين المفسر وما فسره ومن قرأها بالمصدر فقد طابق بين المفسر وبعض ما فسره فإن التفسير إن كان لقوله اقتحم طابقه لقوله ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وما بعده دون ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ وما يليه وإن كان لقوله العقبة طابقة ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعامٌ﴾ دون قوله ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وما بعده وإن كانت المطابقة حاصلة معنى فحصولها لفظًا ومعنى أتم وأحسن. واختلف في هذه العقبة هل هي في الدنيا أو في الآخرة فقالت طائفة العقبة هاهنا مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والشيطان في أعمال البر وحكوا ذلك عن الحسن ومقاتل قال الحسن عقبة والله شديدة مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه والشيطان وقال مقاتل هذا مثل ضربه الله يريد أن المعتق رقبة والمطعم اليتيم والمسكين يقاحم نفسه وشيطانه مثل أن يتكلف صعود العقبة فشبه المعتق رقبة في شدته عليه بالمكلف صعود العقبة وهذا قول أبي عبيدة وقالت طائفة بل هي عقبة حقيقة يصعدها الناس قال عطاء هي عقبة جهنم وقال الكلبي هي عقبة بين الجنة والنار وهذا قول مقاتل إنها عقبة جهنم وقال مجاهد والضحاك هي الصراط يضرب على جهنم وهذا لعله قول الكلبي وقول هؤلاء أصح نظرًا وأثرًا ولغة قال قتادة فإنها عقبة شديدة فاقتحموها بطاعة الله وفي أثر معروف إن بين أيديكم عقبة كؤودًا لا يقتحمها إلا المخفون أو نحو هذا وأن الله سمى الإيمان به وفعل ما أمر وترك ما نهى عقبة فكثيرًا ما يقع في كلام السلف الوصية بالتضمر لاقتحام العقبة. وقال بعض الصحابة وقد حضره الموت فجعل يبكي ويقول ما لي لا أبكي وبين يدي عقبة كؤود أهبط منها إما إلى جنة وإما إلى نار. فهذا القول أقرب إلى الحقيقة، والآثار السلفية والمألوف من عادة القرآن في استعماله. وما أدراك في الأمور الغائبة العظيمة كما تقدم. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب