الباحث القرآني

وتأمل قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ﴾ كيف جاء بالرضوان مبتدأ منكرا مخبرا عنه بأنه أكبر من كل ما وعدوا به فأيسر شيء من رضوانه أكبر من الجنات وما فيها من المساكن الطيبة وما حوته، ولهذا لما يتجلى لأوليائه في جنات عدن ويمنيهم أي شيء يريدون فيقولون ربنا وأي شيء نريد أفضل مما أعطيتنا؟ فيقول تبارك وتعالى: "إن لكم عندي أفضل من ذلك أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا". * (فائدة) إنَّ رِضا اللَّهِ عَنِ العَبْدِ أكْبَرُ مِنَ الجَنَّةِ وما فِيها. لِأنَّ الرِّضا صِفَةُ اللَّهِ والجَنَّةَ خَلْقُهُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢] بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾. وَهَذا الرِّضا جَزاءٌ عَلى رِضاهم عَنْهُ في الدُّنْيا، ولَمّا كانَ هَذا الجَزاءُ أفْضَلَ الجَزاءِ، كانَ سَبَبُهُ أفْضَلَ الأعْمالِ. * إنَّ العَبْدَ إذا رَضِيَ بِهِ وعَنْهُ في جَمِيعِ الحالاتِ: لَمْ يَتَخَيَّرْ عَلَيْهِ المَسائِلَ. وأغْناهُ رِضاهُ بِما يَقْسِمُهُ لَهُ ويُقَدِّرُهُ ويَفْعَلُهُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ. وجَعَلَ ذِكْرَهُ في مَحَلِّ سُؤالِهِ. بَلْ يَكُونُ مِن سُؤالِهِ لَهُ الإعانَةُ عَلى ذِكْرِهِ، وبُلُوغُ رِضاهُ. فَهَذا يُعْطى أفْضَلَ ما يُعْطاهُ سائِلٌ. كَما جاءَ في الحَدِيثِ «مَن شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطِي السّائِلِينَ». فَإنَّ السّائِلِينَ سَألُوهُ. فَأعْطاهُمُ الفَضْلَ الَّذِي سَألُوهُ. والرّاضُونَ رَضُوا عَنْهُ فَأعْطاهم رِضاهُ عَنْهُمْ، ولا يَمْنَعُ الرِّضا سُؤالُهُ أسْبابَ الرِّضا، بَلْ أصْحابُهُ مُلِحُّونَ في سُؤالِهِ ذَلِكَ. (فائدة أخرى) يَسِيرٌ مِن رِضْوانِهِ - ولا يُقالُ لَهُ يَسِيرٌ - أكْبَرُ مِنَ الجَنّاتِ وما فِيها. وَفِي حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ «فَواللَّهِ ما أعْطاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى وجْهِهِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إنَّهم إذا رَأوْهُ - سُبْحانَهُ - لَمْ يَلْتَفِتُوا إلى شَيْءٍ مِمّا هم فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، حَتّى يَتَوارى عَنْهُمْ». * [فصل: دَرَجاتُ حُرُماتِ اللَّهِ] [الدَّرَجَةُ الأُولى تَعْظِيمُ الأمْرِ والنَّهْيِ] قالَ: وهي عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ. الدَّرَجَةُ الأُولى: تَعْظِيمُ الأمْرِ والنَّهْيِ، لا خَوْفًا مِنَ العُقُوبَةِ، فَتَكُونُ خُصُومَةً لِلنَّفْسِ، ولا طَلَبًا لِلْمَثُوبَةِ. فَيَكُونُ مُسْتَشْرِفًا لِلْأُجْرَةِ، ولا مُشاهِدًا لِأحَدٍ. فَيَكُونُ مُتَزَيِّنًا بِالمُراءاةِ. فَإنَّ هَذِهِ الأوْصافَ كُلَّها مِن شُعَبِ عِبادَةِ النَّفْسِ. هَذا المَوْضِعُ يَكْثُرُ في كَلامِ القَوْمِ. والنّاسُ بَيْنَ مُعَظِّمٍ لَهُ ولِأصْحابِهِ، مُعْتَقِدٍ أنَّ هَذا أرْفَعُ دَرَجاتِ العُبُودِيَّةِ: أنْ لا يَعْبُدَ اللَّهَ ويَقُومَ بِأمْرِهِ ونَهْيِهِ خَوْفًا مِن عِقابِهِ، ولا طَمَعًا في ثَوابِهِ. فَإنَّ هَذا واقِفٌ مَعَ غَرَضِهِ وحَظِّ نَفْسِهِ. وأنَّ المَحَبَّةَ تَأْبى ذَلِكَ. فَإنَّ المُحِبَّ لا حَظَّ لَهُ مَعَ مَحْبُوبِهِ. فَوُقُوفُهُ مَعَ حَظِّهِ عِلَّةٌ في مَحَبَّتِهِ، وأنَّ طَمَعَهُ في الثَّوابِ تَطَلُّعٌ إلى أنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ عَلى اللَّهِ تَعالى أُجْرَةً. فَفي هَذا آفَتانِ: تَطَلُّعُهُ إلى الأُجْرَةِ، وإحْسانُ ظَنِّهِ بِعَمَلِهِ؛ إذْ تَطَلُّعُهُ إلى اسْتِحْقاقِهِ الأجْرَ، وخَوْفُهُ مِنَ العِقابِ: خُصُومَةٌ لِلنَّفْسِ، فَإنَّهُ لا يَزالُ يُخاصِمُها إذا خالَفَتْ. ويَقُولُ: أما تَخافِينَ النّارَ، وعَذابَها، وما أعَدَّ اللَّهُ لِأهْلِها؟ فَلا تَزالُ الخُصُومَةُ بِذَلِكَ بَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ. وَمِن وجْهٍ آخَرَ أيْضًا: وهو أنَّهُ كالمُخاصِمِ عَنْ نَفْسِهِ، الدّافِعِ عَنْها خَصْمَهُ الَّذِي يُرِيدُ هَلاكَهُ، وهو عَيْنُ الِاهْتِمامِ بِالنَّفْسِ، والِالتِفاتِ إلى حُظُوظِها، مُخاصَمَةً عَنْها، واسْتِدْعاءً لِما تَلْتَذُّ بِهِ. وَلا يُخَلِّصُهُ مِن هَذِهِ المُخاصَمَةِ، وذَلِكَ الِاسْتِشْرافِ إلّا تَجْرِيدُ القِيامِ بِالأمْرِ والنَّهْيِ مِن كُلِّ عِلَّةٍ. بَلْ يَقُومُ بِهِ تَعْظِيمًا لِلْآمِرِ النّاهِي. وأنَّهُ أهْلٌ أنْ يُعْبَدَ، وتُعَظَّمَ حُرُماتُهُ. فَهو يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ والتَّعْظِيمَ والإجْلالَ لِذاتِهِ، كَما في الأثَرِ الإسْرائِيلِيِّ: لَوْ لَمْ أخْلُقْ جَنَّةً ولا نارًا، أما كُنْتُ أهْلًا أنْ أُعْبَدَ؟ وَمِنهُ قَوْلُ القائِلِ: ؎هَبِ البَعْثَ لَمْ تَأْتِنا رُسْلُهُ ∗∗∗ وجاحِمَةَ النّارِ لَمْ تُضْرَمِ ؎ألَيْسَ مِنَ الواجِبِ المُسْتَحَ ∗∗∗ قِّ عَلى ذَوِي الوَرى الشُّكْرُ لِلْمُنْعِمِ؟ فالنُّفُوسُ العَلِيَّةُ الزَّكِيَّةُ تَعْبُدُهُ لِأنَّهُ أهْلٌ أنْ يُعْبَدَ، ويُجَلَّ ويُحَبَّ ويُعَظَّمَ. فَهو لِذاتِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبادَةِ. قالُوا: ولا يَكُونُ العَبْدُ كَأجِيرِ السُّوءِ. إنْ أُعْطِيَ أجْرَهُ عَمِلَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَعْمَلْ. فَهَذا عَبْدُ الأُجْرَةِ لا عَبْدُ المَحَبَّةِ والإرادَةِ. قالُوا: والعُمّالُ شاخِصُونَ إلى مَنزِلَتَيْنِ: مَنزِلَةِ الآخِرَةِ، ومَنزِلَةِ القُرْبِ مِنَ المُطاعِ. قالَ تَعالى في حَقِّ نَبِيِّهِ داوُدَ: ﴿وَإنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: ٢٥]. فالزُّلْفى مَنزِلَةُ القُرْبِ، وحُسْنُ المَآبِ حُسْنُ الثَّوابِ والجَزاءِ. وقالَ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦] والحُسْنى: الجَزاءُ. والزِّيادَةُ: مَنزِلَةُ القُرْبِ. ولِهَذا فُسِّرَتْ بِالنَّظَرِ إلى وجْهِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وهَذانِ هُما اللَّذانِ وعَدَهُما فِرْعَوْنُ لِلسَّحَرَةِ إنْ غَلَبُوا مُوسى، فَقالُوا لَهُ: ﴿إنَّ لَنا لَأجْرًا إنْ كُنّا نَحْنُ الغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وإنَّكم لَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ [الأعراف: ١١٣]، وقالَ تَعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢]. قالُوا: والعارِفُونَ عَمَلُهم عَلى المَنزِلَةِ والدَّرَجَةِ. والعُمّالُ عَمَلُهم عَلى الثَّوابِ والأُجْرَةِ. وشَتّانَ ما بَيْنَهُما. * (فَصْلٌ) وَطائِفَةٌ ثانِيَةٌ تَجْعَلُ هَذا الكَلامَ مِن شَطَحاتِ القَوْمِ ورَعُوناتِهِمْ. وتَحْتَجُّ بِأحْوالِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ والصِّدِّيقِينَ، ودُعائِهِمْ وسُؤالِهِمْ، والثَّناءِ عَلَيْهِمْ بِخَوْفِهِمْ مِنَ النّارِ، ورَجائِهِمْ لِلْجَنَّةِ. كَما قالَ تَعالى في حَقِّ خَواصِّ عِبادِهِ الَّذِينَ عَبَدَهُمُ المُشْرِكُونَ: إنَّهم يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ - كَما تَقَدَّمَ - وقالَ عَنْ أنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ: ﴿وَزَكَرِيّا إذْ نادى رَبَّهُ﴾ [الأنبياء: ٨٩]- إلى أنْ قالَ - ﴿إنَّهم كانُوا يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ ويَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا وكانُوا لَنا خاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٠]. أيْ رَغَبًا فِيما عِنْدَنا، ورَهَبًا مِن عَذابِنا. والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: " إنَّهم " عائِدٌ عَلى الأنْبِياءِ المَذْكُورِينَ في هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ عامَّةِ المُفَسِّرِينَ. والرَّغَبُ والرَّهَبُ: رَجاءُ الرَّحْمَةِ، والخَوْفُ مِنَ النّارِ عِنْدَهم أجْمَعِينَ. وَذَكَرَ سُبْحانَهُ عِبادَهُ الَّذِينَ هم خَواصُّ خَلْقِهِ. وأثْنى عَلَيْهِمْ بِأحْسَنِ أعْمالِهِمْ. وجَعَلَ مِنها: اسْتِعاذَتَهم بِهِ مِنَ النّارِ، فَقالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا اصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا - إنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقامًا﴾ [الفرقان: ٦٥-٦٦]. وأخْبَرَ عَنْهُمْ: أنَّهم تَوَسَّلُوا إلَيْهِ بِإيمانِهِمْ أنْ يُنْجِيَهم مِنَ النّارِ. فَقالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إنَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وقِنا عَذابَ النّارِ﴾ [آل عمران: ١٦] فَجَعَلُوا أعْظَمَ وسائِلِهِمْ إلَيْهِ: وسِيلَةَ الإيمانِ، وأنْ يُنْجِيَهم مِنَ النّارِ. وَأخْبَرَ تَعالى عَنْ ساداتِ العارِفِينَ أُولِي الألْبابِ: أنَّهم كانُوا يَسْألُونَهُ جَنَّتَهُ. ويَتَعَوَّذُونَ بِهِ مِن نارِهِ. فَقالَ تَعالى: ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الألْبابِ﴾ [آل عمران: ١٩٠] الآياتِ إلى آخِرِها، ولا خِلافَ أنَّ المَوْعُودَ بِهِ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ: هي الجَنَّةُ الَّتِي سَألُوها. وَقالَ عَنْ خَلِيلِهِ إبْراهِيمَ ﷺ: ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ - رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ [الشعراء: ٨٢-٨٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ - يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ - إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٧-٨٩]. فَسَألَ اللَّهَ الجَنَّةَ، واسْتَعاذَ بِهِ مِنَ النّارِ. وهو الخِزْيُ يَوْمَ البَعْثِ. وَأخْبَرَنا سُبْحانَهُ عَنِ الجَنَّةِ: أنَّها كانَتْ وعْدًا عَلَيْهِ مَسْئُولًا؛ أيْ يَسْألُهُ إيّاها عِبادُهُ وأوْلِياؤُهُ. وَأمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أُمَّتَهُ: أنْ يَسْألُوا لَهُ في وقْتِ الإجابَةِ - عُقَيْبَ الأذانِ - أعْلى مَنزِلَةٍ في الجَنَّةِ. وأخْبَرَ: أنَّ مَن سَألَها لَهُ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفاعَتُهُ. «وَقالَ لَهُ سُلَيْمٌ الأنْصارِيُّ: أمّا إنِّي أسْألُ اللَّهَ الجَنَّةَ، وأسْتَعِيذُ بِهِ مِنَ النّارِ، لا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ ولا دَنْدَنَةَ مُعاذٍ، فَقالَ: أنا ومُعاذٌ حَوْلَها نُدَنْدِنُ». وَفِي الصَّحِيحِ - في حَدِيثِ المَلائِكَةِ السَّيّارَةِ الفُضَّلِ عَنْ كُتّابِ النّاسِ - إنَّ اللَّهَ تَعالى يَسْألُهم عَنْ عِبادِهِ - وهو أعْلَمُ تَبارَكَ وتَعالى - فَيَقُولُونَ: «أتَيْناكَ مِن عِنْدِ عِبادٍ لَكَ يُهَلِّلُونَكَ، ويُكَبِّرُونَكَ، ويَحْمَدُونَكَ، ويُمَجِّدُونَكَ، فَيَقُولُ عَزَّ وجَلَّ: وهَلْ رَأوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لا يا رَبِّ. ما رَأوْكَ. فَيَقُولُ عَزَّ وجَلَّ: كَيْفَ لَوْ رَأوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأوْكَ لَكانُوا لَكَ أشَدَّ تَمْجِيدًا. قالُوا: يا رَبِّ. ويَسْألُونَكَ جَنَّتَكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَأوْها؟ فَيَقُولُونَ: لا وعِزَّتِكَ ما رَأوْها. فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأوْها؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأوْها لَكانُوا لَها أشَدَّ طَلَبًا. قالُوا: ويَسْتَعِيذُونَ بِكَ مِنَ النّارِ، فَيَقُولُ عَزَّ وجَلَّ: وهَلْ رَأوْها؟ فَيَقُولُونَ: لا وعِزَّتِكَ ما رَأوْها. فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأوْها؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأوْها لَكانُوا أشَدَّ مِنها هَرَبًا. فَيَقُولُ: إنِّي أُشْهِدُكم أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وأعْطَيْتُهم ما سَألُوا، وأعَذْتُهم مِمّا اسْتَعاذُوا». والقُرْآنُ والسُّنَّةُ مَمْلُوءانِ مِنَ الثَّناءِ عَلى عِبادِهِ وأوْلِيائِهِ بِسُؤالِ الجَنَّةِ ورَجائِها، والِاسْتِعاذَةِ مِنَ النّارِ، والخَوْفِ مِنها. قالُوا: وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأصْحابِهِ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنَ النّارِ». وقالَ لِمَن سَألَهُ مُرافَقَتَهُ في الجَنَّةِ: «أعِنِّي عَلى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». قالُوا: والعَمَلُ عَلى طَلَبِ الجَنَّةِ والنَّجاةِ مِنَ النّارِ مَقْصُودُ الشّارِعِ مِن أُمَّتِهِ لِيَكُونا دائِمًا عَلى ذِكْرٍ مِنهُما فَلا يَنْسَوْنَهُما. ولِأنَّ الإيمانَ بِهِما شَرْطٌ في النَّجاةِ، والعَمَلَ عَلى حُصُولِ الجَنَّةِ والنَّجاةِ مِنَ النّارِ هو مَحْضُ الإيمانِ. قالُوا: وقَدْ حَضَّ النَّبِيُّ ﷺ أصْحابَهُ وأُمَّتَهُ، فَوَصَفَها وجَلّاها لَهم لِيَخْطُبُوها، وقالَ: «ألا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإنَّها - ورَبِّ الكَعْبَةِ - نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، ورَيْحانَةٌ تَهْتَزُّ، وزَوْجَةٌ حَسْناءُ، وفاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ، وقَصْرٌ مَشِيدٌ، ونَهْرٌ مُطَّرِدٌ - الحَدِيثَ - فَقالَ الصَّحابَةُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ المُشَمِّرُونَ لَها. فَقالَ: قُولُوا: إنْ شاءَ اللَّهُ». وَلَوْ ذَهَبْنا نَذْكُرُ ما في السُّنَّةِ مِن قَوْلِهِ: «مَن عَمِلِ كَذا وكَذا أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ» تَحْرِيضًا عَلى عَمَلِهِ لَها، وأنْ تَكُونَ هي الباعِثَةُ عَلى العِلْمِ: لَطالَ ذَلِكَ جِدًّا. وذَلِكَ في جَمِيعِ الأعْمالِ. قالُوا: فَكَيْفَ يَكُونُ العَمَلُ لِأجْلِ الثَّوابِ وخَوْفِ العِقابِ مَعْلُولًا؟ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحَرِّضُ عَلَيْهِ، ويَقُولُ مَن فَعَلَ كَذا فُتِحَتْ لَهُ أبْوابُ الجَنَّةِ الثَّمانِيَةُ ومَن «قالَ سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ في الجَنَّةِ». و«مَن كَسا مُسْلِمًا عَلى عُرْيٍ كَساهُ اللَّهُ مِن حُلَلِ الجَنَّةِ» و«عائِدُ المَرِيضِ في خُرْفَةِ الجَنَّةِ»، والحَدِيثُ مَمْلُوءٌ مِن ذَلِكَ؟ أفَتَراهُ يُحَرِّضُ المُؤْمِنِينَ عَلى مَطْلَبٍ مَعْلُولٍ ناقِصٍ، ويَدَعُ المَطْلَبَ العالِي البَرِيءَ مِن شَوائِبِ العِلَلِ لا يُحَرِّضُهم عَلَيْهِ؟ قالُوا: وأيْضًا فاللَّهُ سُبْحانَهُ يُحِبُّ مِن عِبادِهِ أنْ يَسْألُوهُ جَنَّتَهُ، ويَسْتَعِيذُوا بِهِ مِن نارِهِ، فَإنَّهُ يُحِبُّ أنْ يُسْألَ. ومَن لَمْ يَسْألْهُ يَغْضَبْ عَلَيْهِ. وأعْظَمُ ما سُئِلَ الجَنَّةُ وأعْظَمُ ما اسْتُعِيذَ بِهِ مِنَ النّارِ. فالعَمَلُ لِطَلَبِ الجَنَّةِ مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ، مَرْضِيٌّ لَهُ. وطَلَبُها عُبُودِيَّةٌ لِلرَّبِّ. والقِيامُ بِعُبُودِيَّتِهِ كُلِّها أوْلى مِن تَعْطِيلِ بَعْضِها. قالُوا: وإذا خَلا القَلْبُ مِن مُلاحَظَةِ الجَنَّةِ والنّارِ، ورَجاءِ هَذِهِ والهَرَبِ مِن هَذِهِ فَتَرَتْ عَزائِمُهُ، وضَعُفَتْ هِمَّتُهُ، ووَهى باعِثُهُ، وكُلَّما كانَ أشَدَّ طَلَبًا لِلْجَنَّةِ، وعَمَلًا لَها كانَ الباعِثُ لَهُ أقْوى، والهِمَّةُ أشَدَّ، والسَّعْيُ أتَمَّ. وهَذا أمْرٌ مَعْلُومٌ بِالذَّوْقِ. وَقالُوا: ولَوْ لَمْ يَكُنْ هَذا مَطْلُوبًا لِلشّارِعِ لَما وصَفَ الجَنَّةَ لِلْعِبادِ، وزَيَّنَها لَهُمْ، وعَرَضَها عَلَيْهِمْ. وأخْبَرَهم عَنْ تَفاصِيلِ ما تَصِلُ إلَيْهِ عُقُولُهم مِنها، وما عَداهُ أخْبَرَهم بِهِ مُجْمَلًا. كُلُّ هَذا تَشْوِيقًا لَهم إلَيْها، وحَثًّا لَهم عَلى السَّعْيِ لَها سَعْيَها. قالُوا: وقَدْ قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ﴾ [يونس: ٢٥]. وهَذا حَثٌّ عَلى إجابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، والمُبادَرَةِ إلَيْها، والمُسارَعَةِ في الإجابَةِ. والتَّحْقِيقُ أنْ يُقالَ: الجَنَّةُ لَيْسَتِ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الأشْجارِ والفَواكِهِ، والطَّعامِ والشَّرابِ، والحُورِ العِينِ، والأنْهارِ والقُصُورِ. وأكْثَرُ النّاسِ يَغْلَطُونَ في مُسَمّى الجَنَّةِ. فَإنَّ الجَنَّةَ اسْمٌ لِدارِ النَّعِيمِ المُطَلَّقِ الكامِلِ. ومِن أعْظَمِ نَعِيمِ الجَنَّةِ التَّمَتُّعُ بِالنَّظَرِ إلى وجْهِ اللَّهِ الكَرِيمِ، وسَماعُ كَلامِهِ، وقُرَّةُ العَيْنِ بِالقُرْبِ مِنهُ وبِرِضْوانِهِ. فَلا نِسْبَةَ لِلَذَّةِ ما فِيها مِنَ المَأْكُولِ والمَشْرُوبِ والمَلْبُوسِ والصُّوَرِ، إلى هَذِهِ اللَّذَّةِ أبَدًا. فَأيْسَرُ يَسِيرٍ مِن رِضْوانِهِ أكْبَرُ مِنَ الجِنانِ وما فِيها مِن ذَلِكَ. كَما قالَ تَعالى: ﴿وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢]. وَأتى بِهِ مُنَكَّرًا في سِياقِ الإثْباتِ؛ أيْ: أيُّ شَيْءٍ كانَ مِن رِضاهُ عَنْ عَبْدِهِ: فَهو أكْبَرُ مِنَ الجَنَّةِ. ؎قَلِيلٌ مِنكَ يُقْنِعُنِي ولَكِنْ ∗∗∗ قَلِيلُكَ لا يُقالُ لَهُ قَلِيلُ وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ - حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ - «فَواللَّهِ ما أعْطاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى وجْهِهِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أنَّهُ سُبْحانَهُ «إذا تَجَلّى لَهُمْ، ورَأوْا وجْهَهُ عِيانًا نَسُوا ما هم فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وذَهَلُوا عَنْهُ، ولَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ». وَلا رَيْبَ أنَّ الأمْرَ هَكَذا. وهو أجَلُّ مِمّا يَخْطُرُ بِالبالِ، أوْ يَدُورُ في الخَيالِ. ولا سِيَّما عِنْدَ فَوْزِ المُحِبِّينَ هُناكَ بِمَعِيَّةِ المُحِبِّ. فَإنَّ المَرْءَ مَعَ مَن أحَبَّ. ولا تَخْصِيصَ في هَذا الحُكْمِ. بَلْ هو ثابِتٌ شاهِدًا وغائِبًا. فَأيُّ نَعِيمٍ، وأيُّ لَذَّةٍ، وأيُّ قُرَّةِ عَيْنٍ، وأيُّ فَوْزٍ يُدانِي نَعِيمَ تِلْكَ المَعِيَّةِ ولَذَّتَها، وقُرَّةَ العَيْنِ بِها؟ وَهَلْ فَوْقَ نَعِيمِ قُرَّةِ العَيْنِ بِمَعِيَّةِ المَحْبُوبِ، الَّذِي لا شَيْءَ أجَلَّ مِنهُ، ولا أكْمَلَ ولا أجْمَلَ: قُرَّةُ عَيْنٍ ألْبَتَّةَ؟ وَهَذا - واللَّهِ - هو العِلْمُ الَّذِي شَمَّرَ إلَيْهِ المُحِبُّونَ، واللِّواءُ الَّذِي أمَّهُ العارِفُونَ. وهو رُوحُ مُسَمّى الجَنَّةِ وحَياتُها. وبِهِ طابَتِ الجَنَّةُ، وعَلَيْهِ قامَتْ. فَكَيْفَ يُقالُ: لا يُعْبَدُ اللَّهُ طَلَبًا لِجَنَّتِهِ، ولا خَوْفًا مِن نارِهِ؟ وَكَذَلِكَ النّارُ أعاذَنا اللَّهُ مِنها، فَإنَّ لِأرْبابِها مِن عَذابِ الحِجابِ عَنِ اللَّهِ وإهانَتِهِ، وغَضَبِهِ وسَخَطِهِ، والبُعْدِ عَنْهُ: أعْظَمَ مِنَ التِهابِ النّارِ في أجْسامِهِمْ وأرْواحِهِمْ، بَلِ التِهابُ هَذِهِ النّارِ في قُلُوبِهِمْ هو الَّذِي أوْجَبَ التِهابَها في أبْدانِهِمْ. ومِنها سَرَتْ إلَيْها. فَمَطْلُوبُ الأنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ والصِّدِّيقِينَ، والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ هو الجَنَّةُ. ومَهْرَبُهم مِنَ النّارِ. واللَّهُ المُسْتَعانُ، وعَلَيْهِ التُّكْلانُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ، وحَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ. وَمَقْصِدُ القَوْمِ أنَّ العَبْدَ يَعْبُدُ رَبَّهُ بِحَقِّ العُبُودِيَّةِ. والعَبْدُ إذا طَلَبَ مِن سَيِّدِهِ أُجْرَةً عَلى خِدْمَتِهِ لَهُ كانَ أحْمَقَ، ساقِطًا مِن عَيْنِ سَيِّدِهِ، إنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ عُقُوبَتَهُ. إذْ عُبُودِيَّتُهُ تَقْتَضِي خِدْمَتَهُ لَهُ. وإنَّما يَخْدِمُ بِالأُجْرَةِ مَن لا عُبُودِيَّةَ لِلْمَخْدُومِ عَلَيْهِ. إمّا أنْ يَكُونَ حُرًّا في نَفْسِهِ، أوْ عَبْدًا لِغَيْرِهِ. وأمّا مَنِ الخَلْقُ عَبِيدُهُ حَقًّا، ومِلْكُهُ عَلى الحَقِيقَةِ، لَيْسَ فِيهِمْ حُرٌّ ولا عَبْدٌ لِغَيْرِهِ فَخِدْمَتُهم لَهُ بِحَقِّ العُبُودِيَّةِ، فاقْتِضاؤُهم لِلْأُجْرَةِ خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ العُبُودِيَّةِ. وَهَذا لا يُنْكَرُ عَلى الإطْلاقِ، ولا يُقْبَلُ عَلى الإطْلاقِ. وهو مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ وتَمْيِيزٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ في أوَّلِ الحَدِيثِ ذِكْرُ طُرُقِ الخَلْقِ في هَذا المَوْضِعِ. وبَيَّنّا طَرِيقَ أهْلِ الِاسْتِقامَةِ. فالنّاسُ في هَذا المَقامِ أرْبَعَةُ أقْسامٍ: أحَدُهُمْ: مَن لا يُرِيدُ رَبَّهُ ولا يُرِيدُ ثَوابَهُ. فَهَؤُلاءِ أعْداؤُهُ حَقًّا. وهم أهْلُ العَذابِ الدّائِمِ. وعَدَمُ إرادَتِهِمْ لِثَوابِهِ إمّا لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ بِهِ، وإمّا لِإيثارِ العاجِلِ عَلَيْهِ، ولَوْ كانَ فِيهِ سَخَطُهُ. والقِسْمُ الثّانِي: مَن يُرِيدُهُ ويُرِيدُ ثَوابَهُ، وهَؤُلاءِ خَواصُّ خَلْقِهِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَإنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنكُنَّ أجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٢٩] فَهَذا خِطابُهُ لِخَيْرِ نِساءِ العالَمِينَ، أزْواجِ نَبِيِّهِ ﷺ. وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَمَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهم مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: ١٩]، فَأخْبَرَ أنَّ السَّعْيَ المَشْكُورَ: سَعْيُ مَن أرادَ الآخِرَةَ. وأصْرَحُ مِنها قَوْلُهُ: لِخَواصِّ أوْلِيائِهِ - وهم أصْحابُ نَبِيِّهِ ﷺ ورَضِيَ عَنْهم - في يَوْمِ أُحُدٍ: ﴿مِنكم مَن يُرِيدُ الدُّنْيا ومِنكم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ [آل عمران: ١٥٢] فَقَسَمَهم إلى هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ لا ثالِثَ لَهُما. وَقَدْ غَلِطَ مَن قالَ: فَأيْنَ مَن يُرِيدُ اللَّهَ؟ فَإنَّ إرادَةَ الآخِرَةِ عِبارَةٌ عَنْ إرادَةِ اللَّهِ تَعالى وثَوابِهِ. فَإرادَةُ الثَّوابِ لا تُنافِي إرادَةَ اللَّهِ. والقِسْمُ الثّالِثُ: مَن يُرِيدُ مِنَ اللَّهِ، ولا يُرِيدُ اللَّهَ. فَهَذا ناقِصٌ غايَةَ النَّقْصِ. وهو حالُ الجاهِلِ بِرَبِّهِ، الَّذِي سَمِعَ: أنَّ ثَمَّ جَنَّةً ونارًا. فَلَيْسَ في قَلْبِهِ غَيْرُ إرادَةِ نَعِيمِ الجَنَّةِ المَخْلُوقِ، لا يَخْطُرُ بِبالِهِ سِواهُ ألْبَتَّةَ. بَلْ هَذا حالُ أكْثَرِ المُتَكَلِّمِينَ، المُنْكِرِينَ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعالى، والتَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إلى وجْهِهِ في الآخِرَةِ، وسَماعَ كَلامِهِ وحُبَّهُ. والمُنْكِرِينَ عَلى مَن يَزْعُمُ أنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ. وهم عَبِيدُ الأُجْرَةِ المَحْضَةِ. فَهَؤُلاءِ لا يُرِيدُونَ اللَّهَ تَعالى. وَمِنهم مَن يُصَرِّحُ بِأنَّ إرادَةَ اللَّهِ مُحالٌ. قالُوا: لِأنَّ الإرادَةَ إنَّما تَتَعَلَّقُ بِالحادِثِ. فالقَدِيمُ لا يُرادُ. فَهَؤُلاءِ مُنْكِرُونَ لِإرادَةِ اللَّهِ غايَةَ الإنْكارِ. وأعْلى الإرادَةِ عِنْدَهُمْ: إرادَةُ الأكْلِ والشُّرْبِ، والنِّكاحِ واللِّباسِ في الجَنَّةِ، وتَوابِعِ ذَلِكَ. فَهَؤُلاءِ في شِقٍّ، وأُولَئِكَ - الَّذِينَ قالُوا: لَمْ نَعْبُدْهُ طَلَبًا لِجَنَّتِهِ، ولا هَرَبًا مِن نارِهِ - في شِقٍّ. وهُما طَرَفا نَقِيضٍ. بَيْنَهُما أعْظَمُ مِن بُعْدِ المَشْرِقَيْنِ. وهَؤُلاءِ مِن أكْثَفِ النّاسِ حِجابًا، وأغْلَظِهِمْ طِباعًا، وأقْساهم قُلُوبًا، وأبْعَدِهِمْ عَنْ رُوحِ المَحَبَّةِ والتَّألُّهِ، ونَعِيمِ الأرْواحِ والقُلُوبِ. وهم يُكَفِّرُونَ أصْحابَ المَحَبَّةِ والشَّوْقِ إلى اللَّهِ والتَّلَذُّذِ بِحُبِّهِ، والتَّصْدِيقِ بِلَذَّةِ النَّظَرِ إلى وجْهِهِ، وسَماعِ كَلامِهِ مِنهُ بِلا واسِطَةٍ. وَأُولَئِكَ لا يَعُدُّونَهم مِنَ البَشَرِ إلّا بِالصُّورَةِ. ومَرْتَبَتُهم عِنْدَهم قَرِيبَةٌ مِن مَرْتَبَةِ الجَمادِ والحَيَوانِ البَهِيمِ. وهم عِنْدَهم في حِجابٍ كَثِيفٍ عَنْ مَعْرِفَةِ نُفُوسِهِمْ وكَمالِها، ومَعْرِفَةِ مَعْبُودِهِمْ وسِرِّ عُبُودِيَّتِهِ. وَحالُ الطّائِفَتَيْنِ عَجَبٌ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ. والقِسْمُ الرّابِعُ - وهو مُحالٌ -: أنْ يُرِيدَ اللَّهَ، ولا يُرِيدَ مِنهُ. فَهَذا هو الَّذِي يَزْعُمُ هَؤُلاءِ أنَّهُ مَطْلُوبُهُمْ، وأنَّ مَن لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ فَفي سَيْرِهِ عِلَّةٌ، وأنَّ العارِفَ يَنْتَهِي إلى هَذا المَقامِ. وهو أنْ يَكُونَ اللَّهُ مُرادَهُ، ولا يُرِيدُ مِنهُ شَيْئًا. كَما يُحْكى عَنْ أبِي يَزِيدَ أنَّهُ قالَ: قِيلَ لِي: ما تُرِيدُ؟ فَقُلْتُ: أُرِيدُ أنْ لا أُرِيدَ. وَهَذا في التَّحْقِيقِ عَيْنُ المُحالِ المُمْتَنِعِ: عَقْلًا وفِطْرَةً، وحِسًّا وشَرْعًا. فَإنَّ الإرادَةَ مِن لَوازِمِ الحَيِّ. وإنَّما يَعْرِضُ لَهُ التَّجَرُّدُ عَنْها بِالغَيْبَةِ عَنْ عَقْلِهِ وحِسِّهِ؛ كالسُّكْرِ والإغْماءِ والنَّوْمِ. فَنَحْنُ لا نُنْكِرُ التَّجْرِيدَ عَنْ إرادَةِ ما سِواهُ مِنَ المَخْلُوقاتِ الَّتِي تُزاحِمُ إرادَتُها إرادَتَهُ. أفَلَيْسَ صاحِبُ هَذا المَقامِ مُرِيدًا لِقُرْبِهِ ورِضاهُ، ودَوامِ مُراقَبَتِهِ، والحُضُورِ مَعَهُ؟ وأيُّ إرادَةٍ فَوْقَ هَذِهِ؟ نَعَمْ. قَدْ زَهِدَ في مُرادٍ لِمُرادٍ هو أجَلُّ مِنهُ وأعْلى. فَلَمْ يَخْرُجْ عَنِ الإرادَةِ. وإنَّما انْتَقَلَ مِن إرادَةٍ إلى إرادَةٍ، ومِن مُرادٍ إلى مُرادٍ. وأمّا خُلُوُّهُ عَنْ صِفَةِ الإرادَةِ بِالكُلِّيَّةِ، مَعَ حُضُورِ عَقْلِهِ وحِسِّهِ فَمُحالٌ. وَإنْ حاكَمَنا في ذَلِكَ مُحاكِمٌ إلى ذَوْقٍ مُصْطَلِمٍ مَأْخُوذٍ عَنْ نَفْسِهِ، فانٍ عَنْ عَوالِمِها: لَمْ نُنْكِرْ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذِهِ حالٌ عارِضَةٌ غَيْرُ دائِمَةٍ، ولا هي غايَةٌ مَطْلُوبَةٌ لِلسّالِكِينَ، ولا مَقْدُورَةٌ لِلْبَشَرِ، ولا مَأْمُورٌ بِها، ولا هي أعْلى المَقاماتِ. فَيُؤْمَرُ بِاكْتِسابِ أسْبابِها. فَهَذا فَصْلُ الخِطابِ في هَذا المَوْضِعِ. واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب