الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَفِيكم سَمّاعُونَ لَهُمْ﴾ أي قابلون ومنقادون. وقيل: عيون وجواسيس وليس بشيء فإن العيون والجواسيس إنما تكون بين الفئتين غير المختلطتين فيحتاج إلى الجواسيس والعيون وهذه الآية إنما هي في حق المنافقين وهم كانوا مختلطين بالصحابة بينهم فلم يكونوا محتاجين إلى عيون وجواسيس وإذا عرف هذا فسمْعُ الإدراك يتعدى بنفسه وسمع القبول يتعدى باللام تارة وبـ (مِن) أخرى وهذا بحسب المعنى فإذا كان السياق يقتضي القبول عدي بـ (مِن) وإذا كان يقتضي الانقياد عدي باللام. وأما سمْع الإجابة فيتعدى باللام نحو سمع الله لمن حمده لتضمنه معنى استجاب له ولا حذف هناك، وإنما هو مضمن، وأما سمع الفهم فيتعدى بنفسه لأن مضمونه يتعدى بنفسه. * (فصل) وَمِن سَمْعِ القَبُولِ: قَوْلُهُ تَعالى ﴿وَفِيكم سَمّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] أيْ قابِلُونَ مِنهم مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ، هَذا أصَحُّ القَوْلَيْنِ في الآيَةِ. وَأمّا قَوْلُ مَن قالَ: عُيُونٌ لَهم وجَواسِيسُ فَضَعِيفٌ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أخْبَرَ عَنْ حِكْمَتِهِ في تَثْبِيطِهِمْ عَنِ الخُرُوجِ بِأنَّ خُرُوجَهم يُوجِبُ الخَبالَ والفَسادَ، والسَّعْيَ بَيْنَ العَسْكَرِ بِالفِتْنَةِ، وفي العَسْكَرِ مَن يَقْبَلُ مِنهُمْ، ويَسْتَجِيبُ لَهُمْ، فَكانَ في إقْعادِهِمْ عَنْهم لُطْفًا بِهِمْ ورَحْمَةً، حَتّى لا يَقَعُوا في عَنَتِ القَبُولِ مِنهم. أمّا اشْتِمالُ العَسْكَرِ عَلى جَواسِيسَ وعُيُونٍ لَهم فَلا تَعَلُّقَ لَهُ بِحِكْمَةِ التَّثْبِيطِ والإقْعادِ، ومَعْلُومٌ أنَّ جَواسِيسَهم وعُيُونَهم مِنهُمْ، وهو سُبْحانُهُ قَدْ أخْبَرَ أنَّهُ أقْعَدَهم لِئَلّا يَسْعَوْا بِالفَسادِ في العَسْكَرِ، ولِئَلّا يَبْغُوهُمُ الفِتْنَةَ، وهَذِهِ الفِتْنَةُ إنَّما تَنْدَفِعُ بِإقْعادِهِمْ، وإقْعادِ جَواسِيسِهِمْ وعُيُونِهِمْ. وَأيْضًا فَإنَّ الجَواسِيسَ إنَّما تُسَمّى عُيُونًا هَذا المَعْرُوفُ في الِاسْتِعْمالِ لا تُسَمّى سَمّاعِينَ. وَأيْضًا فَإنَّ هَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى في إخْوانِهِمُ اليَهُودِ ﴿سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أكّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ [المائدة: ٤٢] أيْ قابِلُونَ لَهُ. والمَقْصُودُ أنَّ سَماعَ خاصَّةِ الخاصَّةِ المُقَرَّبِينَ هو سَماعُ القُرْآنِ بِالِاعْتِباراتِ الثَّلاثَةِ: إدْراكًا وفَهْمًا، وتَدَبُّرًا، وإجابَةً. وكُلُّ سَماعٍ في القُرْآنِ مَدَحَ اللَّهُ أصْحابَهُ وأثْنى عَلَيْهِمْ، وأمَرَ بِهِ أوْلِياءَهُ فَهو هَذا السَّماعُ. وَهُوَ سَماعُ الآياتِ، لا سَماعَ الأبْياتِ، وسَماعُ القُرْآنِ، لا سَماعَ مَزامِيرِ الشَّيْطانِ، وسَماعُ كَلامِ رَبِّ الأرْضِ والسَّماءِ لا سَماعَ قَصائِدِ الشُّعَراءِ، وسَماعُ المَراشِدِ، لا سَماعَ القَصائِدِ، وسَماعُ الأنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ، لا سَماعَ المُغَنِّينَ والمُطْرِبِينَ. فَهَذا السَّماعُ حادٍ يَحْدُو القُلُوبَ إلى جِوارِ عَلّامِ الغُيُوبِ، وسائِقٌ يَسُوقُ الأرْواحَ إلى دِيارِ الأفْرَحِ، ومُحَرِّكٌ يُثِيرُ ساكِنَ العَزَماتِ إلى أعْلى المَقاماتِ وأرْفَعِ الدَّرَجاتِ، ومُنادٍ يُنادِي لِلْإيمانِ، ودَلِيلٌ يَسِيرُ بِالرَّكْبِ في طَرِيقِ الجِنانِ، وداعٍ يَدْعُو القُلُوبَ بِالمَساءِ والصَّباحِ، مِن قِبَلِ فالِقِ الإصْباحِ حَيَّ عَلى الفَلاحِ، حَيَّ عَلى الفَلاحِ. فَلَمْ يُعْدَمْ مَنِ اخْتارَ هَذا السَّماعَ إرْشادًا لِحُجَّةٍ، وتَبْصِرَةً لِعِبْرَةٍ، وتَذْكِرَةً لِمَعْرِفَةٍ، وفِكْرَةً في آيَةٍ، ودَلالَةً عَلى رُشْدٍ، ورَدًّا عَلى ضَلالَةٍ، وإرْشادًا مِن غَيٍّ، وبَصِيرَةً مِن عَمًى، وأمْرًا بِمَصْلَحَةٍ، ونَهْيًا عَنْ مَضَرَّةٍ ومَفْسَدَةٍ، وهِدايَةً إلى نُورٍ، وإخْراجًا مِن ظُلْمَةٍ، وزَجْرًا عَنْ هَوًى، وحَثًّا عَلى تُقًى، وجَلاءً لِبَصِيرَةٍ، وحَياةً لِقَلْبٍ، وغِذاءً ودَواءً وشِفاءً، وعِصْمَةً ونَجاةً، وكَشْفَ شُبْهَةٍ، وإيضاحَ بُرْهانٍ، وتَحْقِيقَ حَقٍّ، وإبْطالَ باطِلٍ. * [فَصْلٌ: في سَماعِ الإجابَةِ] وَأمّا سَماعُ الإجابَةِ: فَفي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَفِيكم سَمّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] أيْ مُسْتَجِيبُونَ لَهم. وفي قَوْلِهِ: ﴿سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ [المائدة: ٤١] أيْ: مُسْتَجِيبُونَ لَهُ. وهو المُرادُ. وهَذا المُرادُ بِقَوْلِ المُصَلِّي: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ أيْ أجابَ اللَّهُ حَمْدَ مَن حَمِدَهُ. وهُوَ السَّمْعُ الَّذِي نَفاهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَمَّنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا. في قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ﴾ [الأنفال: ٢٣] أيْ لَجَعَلَهم يَسْمَعُونَ سَمْعَ إجابَةٍ وانْقِيادٍ. وقِيلَ: المَعْنى لَأفْهَمَهم. وعَلى هَذا: يَكُونُ المَعْنى لَأسْمَعَ قُلُوبَهم. فَإنَّ سَماعَ القَلْبِ يَتَضَمَّنُ الفَهْمَ. والتَّحْقِيقُ: أنَّ كِلا الأمْرَيْنِ مُرادٌ. فَلَوْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا لَأفْهَمَهُمْ، ولَجَعَلَهم يَسْتَجِيبُونَ لِما سَمِعُوهُ وفَهِمُوهُ. والمَقْصُودُ: أنَّ سَماعَ الإجابَةِ هو سَماعُ انْقِيادِ القَلْبِ، والرُّوحِ، والجَوارِحِ، لِما سَمِعَتْهُ الأُذُنانِ. * (فصل) والخبال: الفساد والاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف قال ابن عباس: "ما زادوكم إلا خبالا عجزا وجبنا" يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم وتعظيمهم في صدورهم ثم قال: ﴿وَلأوْضَعُوا خِلالَكُم﴾ أي أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد قال ابن عباس: "يريد ضعفوا شجاعتكم يعني بالتفريق بينهم لتفريق الكلمة فيجبنوا عن العدو" وقال الحسن: "لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين" وقال الكلبي: "ساروا بينكم يبغونكم العيب" قال لبيد: ؎أرانا موضعين لختم عيب ∗∗∗ وسحر بالطعام وبالشراب أي مسرعين ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: ؎تبا لهن بالعرفان لما عرفنني ∗∗∗ وقلن أمرؤ باغ أكل وأوضعا أي أسرع حتى كلت مطيته: ﴿يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكم سَمّاعُونَ لَهُمْ﴾ قال قتادة: "وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم" وقال ابن إسحاق: "وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم" ومعناه على هذا القول وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم قلت فتضمن سماعين معنى مستجيبين وقال مجاهد وابن زيد والكلبي: "المعنى وفيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم أي جواسيس والقول هو الأول كما قال تعالى: ﴿سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ أي قابلون له ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين فإن المنافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم ويجالسونهم ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها وأرصد بينهم عيونا له فالقول قول قتادة وابن إسحاق والله أعلم. فإن قيل انبعاثهم إلى طاعته طاعة له فكيف يكرهها وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم محبوبا له فكيف يعاقبهم عليه؟ قيل هذا سؤال له شأن وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح وكل ممكن فهو جائز عليه ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل والقدرية تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم بل هم منعوا أنفسهم وثبطوها عن الخروج وفعلوا ما لا يريد ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله قالوا وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة من غير أن يكره هو سبحانه انبعاثهم فإنه أمرهم به قالوا وكيف يأمرهم بما يكرهه ولا يخفى على من نور الله بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القرآن فالجواب الصحيح أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره واتّباعا لرسوله ﷺ ونصرة له وللمؤمنين وأحب لك منهم ورضيه لهم دينا وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا الوجه بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه فكان مكروها له من هذا الوجه ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه ولم يرضه منهم وهذا الخروج المكروه له ضدان أحدهما: الخروج المرضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه. والثاني: التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذا الضد فيقول للسائل قعودهم مبغوض له ولكن هاهنا أمران مكروهان له سبحانه وأحدهما أكره له من الآخر لأنه أعظم مفسدة فإن قعودهم مكروه له وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه فإن مفسدة قعودهم تختص بهم ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين فتأمل هذا الموضع فإن قلت فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه وهو الذي خرج عليه المؤمنون قلت قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارا وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله وعند غير أهله فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله وليس كل محل يصلح لذلك ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته فإن قلت وعلى ذلك فهلا جعل المحال كلها صالحة قلت يأباه كمال ربوبيته وملكه وظهور آثار أسمائه وصفاته في الخلق والأمر وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له فإنه يحب أن يذكر ويشكر ويطاع ويوحد ويعبد ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان وهو محبته لجهاز أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم وتخصيصهم بفضله وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ولو تناهوا في العلم والمعرفة إلى الإحاطة بها ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب