الباحث القرآني
كَرِهَ اللَّهُ طاعاتِهِمْ، لِخُبْثِ قُلُوبِهِمْ وفَسادِ نِيّاتِهِمْ، فَثَبَّطَهم عَنْها وأقْعَدَهُمْ، وأبْغَضَ قُرْبَهم مِنهُ وجِوارَهُ، لِمَيْلِهِمْ إلى أعْدائِهِ، فَطَرَدَهم عَنْهُ وأبْعَدَهُمْ، وأعْرَضُوا عَنْ وحْيِهِ فَأعْرَضَ عَنْهُمْ، وأشْقاهم وما أسْعَدَهُمْ، وحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمٍ عَدْلٍ لا مَطْمَعَ لَهم في الفَلاحِ بَعْدَهُ، إلّا أنْ يَكُونُوا مِنَ التّائِبِينَ، فَقالَ تَعالى ﴿وَلَوْ أرادُوا الخُرُوجَ لَأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ولَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهم فَثَبَّطَهم وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾ [التوبة: ٤٦]
ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَتَهُ في تَثْبِيطِهِمْ وإقْعادِهِمْ، وطَرْدِهِمْ عَنْ بابِهِ وإبْعادِهِمْ، وأنَّ ذَلِكَ مِن لُطْفِهِ بِأوْلِيائِهِ وإسْعادِهِمْ، فَقالَ، وهو أحْكَمُ الحاكِمِينَ ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكم ما زادُوكم إلّا خَبالًا ولَأوْضَعُوا خِلالَكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكم سَمّاعُونَ لَهم واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ﴾ [التوبة: ٤٧].
* (فصل)
وأما التثبيط فقال تعالى: ﴿وَلَوْ أرادُوا الخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ولَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهم فَثَبَّطَهم وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾
والتثبيط رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله قال ابن عباس: "يريد خذلهم وكسلهم عن الخروج"
وقال في رواية أخرى: "حبسهم"
قال مقاتل: "وأوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين"
وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد فقال: ﴿إنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وارْتابَتْ قُلُوبُهم فَهم في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ولَوْ أرادُوا الخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ولَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهم فَثَبَّطَهم وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾
فلما تركوا الإيمان به وبلقائه وارتابوا بما لا ريب فيه ولم يريدوا الخروج في طاعة الله ولم يستعدوا له ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه فإن من لم يرفع به وبرسوله أو كتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها بل بدلها كفرا فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين.
[دَرَجاتُ التَّفْوِيضِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى أنْ يَعْلَمَ أنَّ العَبْدَ لا يَمْلِكُ قَبْلَ عَمَلِهِ اسْتِطاعَةً]
قالَ: وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ: الأُولى: أنْ يَعْلَمَ أنَّ العَبْدَ لا يَمْلِكُ قَبْلَ عَمَلِهِ اسْتِطاعَةً. فَلا يَأْمَنُ مِن مَكْرٍ، ولا يَيْأسُ مِن مَعُونَةٍ، ولا يُعَوِّلُ عَلى نِيَّةٍ.
أيْ يَتَحَقَّقُ أنَّ اسْتِطاعَتَهُ بِيَدِ اللَّهِ، لا بِيَدِهِ، فَهو مالِكُها دُونَهُ. فَإنَّهُ إنْ لَمْ يُعْطِهِ الِاسْتِطاعَةَ فَهو عاجِزٌ. فَهو لا يَتَحَرَّكُ إلّا بِاللَّهِ، لا بِنَفْسِهِ. فَكَيْفَ يَأْمَنُ المَكْرَ، وهو مُحَرَّكٌ لا مُحَرِّكٌ؟ يُحَرِّكُهُ مَن حَرَكَتُهُ بِيَدِهِ، فَإنْ شاءَ ثَبَّطَهُ وأقْعَدَهُ مَعَ القاعِدِينَ.
كَما قالَ فِيمَن مَنَعَهُ هَذا التَّوْفِيقَ: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهم فَثَبَّطَهم وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾ [التوبة: ٤٦].
فَهَذا مَكْرُ اللَّهِ بِالعَبْدِ: أنْ يَقْطَعَ عَنْهُ مَوادَّ تَوْفِيقِهِ. ويُخَلِّي بَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ، ولا يَبْعَثَ دَواعِيهِ، ولا يُحَرِّكَهُ إلى مِراضَيْهِ ومَحابِّهِ. ولَيْسَ هَذا حَقًّا عَلى اللَّهِ. فَيَكُونُ ظالِمًا بِمَنعِهِ، تَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلْ هو مُجَرَّدُ فَضْلِهِ الَّذِي يُحْمَدُ عَلى بَذْلِهِ لِمَن بَذَلَهُ، وعَلى مَنعِهِ لِمَن مَنعَهُ إيّاهُ. فَلَهُ الحَمْدُ عَلى هَذا وهَذا.
وَمَن فَهِمَ هَذا فَهِمَ بابًا عَظِيمًا مِن سِرِّ القَدَرِ، وانْجَلَتْ لَهُ إشْكالاتٌ كَثِيرَةٌ. فَهو سُبْحانَهُ لا يُرِيدُ مِن نَفْسِهِ فِعْلًا يَفْعَلُهُ بِعَبْدِهِ يَقَعُ مِنهُ ما يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ. فَيَمْنَعُهُ فِعْلَ نَفْسِهِ بِهِ، وهو تَوْفِيقُهُ؛ لِأنَّهُ يَكْرَهُهُ، ويَقْهَرُهُ عَلى فِعْلِ مَساخِطِهِ، بَلْ يَكِلُهُ إلى نَفْسِهِ وحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ، ويَتَخَلّى عَنْهُ. فَهَذا هو المَكْرُ.
قَوْلُهُ: ولا يَيْأسُ مِن مَعُونَةٍ، يَعْنِي إذا كانَ المُحَرِّكُ لَهُ هو الرَّبُّ جَلَّ جَلالُهُ. وهو أقْدَرُ القادِرِينَ. وهو الَّذِي تَفَرَّدَ بِخَلْقِهِ ورِزْقِهِ. وهو أرْحَمُ الرّاحِمِينَ. فَكَيْفَ يَيْأسُ مِن مَعُونَتِهِ لَهُ؟
قَوْلُهُ: ولا يُعَوِّلُ عَلى نِيَّةٍ، أيْ لا يَعْتَمِدُ عَلى نِيَّتِهِ وعَزْمِهِ، ويَثِقُ بِها. فَإنَّ نِيَّتَهُ وعَزْمَهُ بِيَدِ اللَّهِ تَعالى لا بِيَدِهِ. وهي إلى اللَّهِ لا إلَيْهِ. فَلْتَكُنْ ثِقَتُهُ بِمَن هي في يَدِهِ حَقًّا، لا بِمَن هي جارِيَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا.
(مسألة)
فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَرْضى لِعَبْدِهِ شَيْئًا، ولا يُعِينُهُ عَلَيْهِ؟
قُلْتُ: لِأنَّ إعانَتَهُ عَلَيْهِ قَدْ تَسْتَلْزِمُ فَواتَ مَحْبُوبٍ لَهُ أعْظَمَ مِن حُصُولِ تِلْكَ الطّاعَةِ الَّتِي رَضِيَها لَهُ. وقَدْ يَكُونُ وُقُوعُ تِلْكَ الطّاعَةِ مِنهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً هي أكْرَهُ إلَيْهِ سُبْحانَهُ مِن مَحَبَّتِهِ لِتِلْكَ الطّاعَةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ وُقُوعُها مِنهُ مُسْتَلْزِمًا لِمَفْسَدَةٍ راجِحَةٍ، ومُفَوِّتًا لِمَصْلَحَةٍ راجِحَةٍ، وقَدْ أشارَ تَعالى إلى ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ أرادُوا الخُرُوجَ لَأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ولَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهم فَثَبَّطَهم وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ - لَوْ خَرَجُوا فِيكم ما زادُوكم إلّا خَبالًا ولَأوْضَعُوا خِلالَكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكم سَمّاعُونَ لَهم واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ﴾ [التوبة: ٤٦-٤٧].
فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ: أنَّهُ كَرِهَ انْبِعاثَهم مَعَ رَسُولِهِ ﷺ لِلْغَزْوِ. وهو طاعَةٌ وقُرْبَةٌ، وقَدْ أمَرَهم بِهِ، فَلَمّا كَرِهَهُ مِنهم ثَبَّطَهم عَنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ بَعْضَ المَفاسِدِ الَّتِي كانَتْ سَتَتَرَتَّبُ عَلى خُرُوجِهِمْ لَوْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَقالَ: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكم ما زادُوكم إلّا خَبالًا﴾ [التوبة: ٤٧] أيْ فَسادًا وشَرًّا ﴿وَلَأوْضَعُوا خِلالَكُمْ﴾ [التوبة: ٤٧] أيْ سَعَوْا فِيما بَيْنَكم بِالفَسادِ والشَّرِّ. ﴿يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكم سَمّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٧]. أيْ قابِلُونِ مِنهم مُسْتَجِيبُونَ لَهم. فَيَتَوَلَّدُ مِن بَيْنِ سَعْيِ هَؤُلاءِ بِالفَسادِ وقَبُولِ أُولَئِكَ مِنهم مَنِ الشَّرِّ ما هو أعْظَمُ مِن مَصْلَحَةِ خُرُوجِهِمْ.
فاقْتَضَتِ الحِكْمَةُ والرَّحْمَةُ: أنْ مَنَعَهم مِنَ الخُرُوجِ، وأقْعَدَهم عَنْهُ.
فاجْعَلْ هَذا المِثالَ أصْلًا لِهَذا البابِ. وقِسْ عَلَيْهِ.
{"ayah":"۞ وَلَوۡ أَرَادُوا۟ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّوا۟ لَهُۥ عُدَّةࣰ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِیلَ ٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











