الباحث القرآني

فإن قيل قد ينسب الشيء إلى الشيء لمقارنته له وإن لم يكن له فيه تأثير كقوله تعالى: ﴿وَإذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنهم مَن يَقُولُ أيُّكم زادَتْهُ هَذِهِ إيمانًا فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانًا وهم يَسْتَبْشِرُونَ وأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وماتُوا وهم كافِرُونَ﴾ ومعلوم أن السورة لم تحدث لهم زيادة رجس بل قارن زيادة رجسهم نزولها فنسب إليها؟ قيل لم ينحصر الأمر في هذين الأمرين اللذين ذكرتموهما وهما إحداث السورة الرجس، والثاني مقارنته لنزولها بل هاهنا أمر ثالث وهو أن السورة لما أنزلت اقتضى نزولها الإيمان بها والتصديق والإذعان لأوامرها ونواهيها والعمل بما فيها فوطن المؤمنون أنفسهم على ذلك فازدادوا إيمانا بسببها فنسبت زيادة الإيمان إليها إذ هي السبب في زيادته وكذب بها الكافرون وجحدوها وكذبوا من جاء بها ووطنوا أنفسهم على مخالفة ما تضمنته وإنكاره فازدادوا بذلك رجسا فنسب إليها إذ كان نزولها ووصولها إليهم هو السبب في تلك الزيادة فأين هذا من نسبة الأفعال القبيحة عندكم التي لا تجوز نسبتها إلى الله عند دعوتهم إلى الإيمان وتدبر آياته على أن أفعالهم القبيحة لا تنسب إلى الله سبحانه وإنما هي منسوبة إليهم والمنسوب إليه سبحانه أفعاله الحسنة الجميلة المتضمنة للغايات المحمودة والحكم المطلوبة والختم والطبع والقفل والإضلال أفعال حسنة من الله وضعها في أليق المواضع بها إذ لا يليق بذلك المحل الخبيث غيرها والشرك والكفر والمعاصي والظلم أفعالهم القبيحة التي لا تنسب إلى الله فعلا وإن نسبت إليه خلقا فخلقها غيرها والخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول والقضاء غير المقضي والقدر غير المقدور وستمر بك هذه المسألة مستوفاة إن شاء الله في باب اجتماع الرضاء بالقضاء وسخط الكفر والفسوق والعصيان إن شاء الله. قالت القدرية: لما بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء ولم تقتض حكمته تعالى أن يقسرهم على الإيمان لئلا تزول حكمة التكليف عبر عن ترك الإلجاء والقسر بالختم والطبع إعلاما لهم بأنهم انتهوا في الكفر والإعراض إلى حيث لا ينتهون عنه إلا بالقسر وتلك الغاية في وصف لجاجهم وتماديهم في الكفر. قال أهل السنة: هذا كلام باطل فإنه سبحانه قادر على أن يخلق فيهم مشيئة الإيمان وإرادته ومحبته فيؤمنون بغير قسر ولا إلجاء بل إيمان اختيار وطاعة كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرْضِ كُلُّهم جَمِيعا﴾ وإيمان القسر والإلجاء لا يسمى إيمانا ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة ولا يسمى ذلك إيمانا لأنه عن إلجاء واضطرار قال تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها﴾ وما يحصل للنفوس من المعرفة والتصديق بطريق الإلجاء والاضطرار والقسر لا يسمى هدى وكذلك قوله: ﴿أفَلَمْ يَيْأسِ الَّذِينَ آمَنُوا أنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا﴾ فقولكم لم يبق طريق إلى الإيمان إلا بالقسر باطل فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يرهم الله إياه وهو مشيئته وتوفيقه وإلهامه وإمالة قلوبهم إلى الهدى وإقامتها على الصراط المستقيم وذلك أمر لا يعجز عنه رب كل شيء ومليكه بل هو القادر عليه كقدرته على خلقه ذواتهم وصفاتهم ودرائهم ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله فيهم وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم كما منع السفل خصائص العلو ومنع الحار خصائص البارد ومنع الخبيث خصائص الطيب ولا يقال فلم فعل هذا فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته ومن مقتضيات أسمائه وصفاته وهل يليق بحكمته أن يسوي بين الطيب والخبيث والحسن والقبيح والجيد والرديء ومن لوازم الربوبية خلق الزوجين وتنويع المخلوقات وأخلاقها. فقول القائل لم خلق الرديء والخبيث واللئيم سؤال جاهل بأسمائه وصفاته وملكه وربوبيته وهو سبحانه فرق بين خلقه أعظم تفريق وذلك من كمال قدرته وربوبيته فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن ومنه ما لا يقبل شيئا منه وبين ذلك درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الخلاق العليم وهدى كل نفس إلى حصول ما هي قابلة له والقابل والمقبول والقبول كله مفعوله ومخلوقه وأثر فعله وخلقه وهذا هو الذي ذهب عن الجبرية والقدرية ولم يهتدوا إليه وبالله التوفيق.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب