الباحث القرآني

قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِن السَّلَفِ: هم أصْحابُ مُحَمَّدٍ ﷺ، ولا رَيْبَ أنَّهم أئِمَّةُ الصّادِقِينَ، وكُلُّ صادِقٍ بَعْدَهم فِيهِمْ يَأْتَمُّ في صِدْقِهِ، بَلْ حَقِيقَةُ صِدْقِهِ اتِّباعُهُ لَهم وكَوْنُهُ مَعَهُمْ، ومَعْلُومٌ أنَّ مَن خالَفَهم في شَيْءٍ وإنْ وافَقَهم في غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مَعَهم فِيما خالَفَهم فِيهِ، وحِينَئِذٍ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أنَّهُ لَيْسَ مَعَهُمْ، فَتَنْتَفِي عَنْهُ المَعِيَّةُ المُطْلَقَةُ، وإنْ ثَبَتَ لَهُ قِسْطٌ مِن المَعِيَّةِ وفِيما وافَقَهم فِيهِ، فَلا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أنَّهُ مَعَهم بِهَذا القِسْطِ، وهَذا كَما نَفى اللَّهُ ورَسُولُهُ الإيمانَ المُطْلَقَ عَنْ الزّانِي والشّارِبِ والسّارِقِ والمُنْتَهِبِ بِحَيْثُ لا يَسْتَحِقُّ اسْمَ المُؤْمِنِ، وإنْ لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ مُطْلَقُ الِاسْمِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ لِأجْلِهِ أنْ يُقالَ: مَعَهُ شَيْءٌ مِن الإيمانِ، وهَذا كَما أنَّ اسْمَ الفَقِيهِ والعالِمِ عِنْدَ الإطْلاقِ لا يُقالُ لِمَن مَعَهُ مَسْألَةٌ أوْ مَسْألَتانِ مِن فِقْهٍ وعِلْمٍ، وإنْ قِيلَ: مَعَهُ شَيْءٌ مِن العِلْمِ، فَفَرْقٌ بَيْنَ المَعِيَّةِ المُطْلَقَةِ ومُطْلَقِ المَعِيَّةِ، ومَعْلُومٌ أنَّ المَأْمُورَ بِهِ الأوَّلُ لا الثّانِي، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يُرِدْ مِنّا أنْ نَكُونَ مَعَهم في شَيْءٍ مِن الأشْياءِ، وأنْ نُحَصِّلَ مِن المَعِيَّةِ ما يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وهَذا غَلَطٌ عَظِيمٌ في فَهْمِ مُرادِ الرَّبِّ تَعالى مِن أوامِرِهِ؛ فَإذا أمَرَنا بِالتَّقْوى والبِرِّ والصِّدْقِ والعِفَّةِ والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ والجِهادِ ونَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُرِدْ مِنّا أنْ نَأْتِيَ مِن ذَلِكَ بِأقَلَّ ما يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهُوَ مُطْلَقُ الماهِيَّةِ المَأْمُورُ بِها بِحَيْثُ نَكُونُ مُمْتَثِلِينَ لِأمْرِهِ إذا أتَيْنا بِذَلِكَ، وتَمامُ تَقْرِيرِ هَذا الوَجْهِ بِما تَقَدَّمَ في تَقْرِيرِ الأمْرِ بِمُتابَعَتِهِمْ سَواءٌ. * [فَصْلٌ: في عَظَمَةُ الصِّدْقِ وتَعْلِيقُ سَعادَةِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، والنَّجاةِ مِن شَرِّهِما بِهِ] فَما أنْجى اللَّهُ مَن أنْجاهُ إلّا بِالصِّدْقِ، ولا أهْلَكَ مَن أهْلَكَهُ إلّا بِالكَذِبِ، وقَدْ أمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ أنْ يَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ، فَقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ﴾ [التوبة: ١١٩]. وَقَدْ قَسَّمَ سُبْحانَهُ الخَلْقَ إلى قِسْمَيْنِ: سُعَداءَ، وأشْقِياءَ، فَجَعَلَ السُّعَداءَ هم أهْلَ الصِّدْقِ والتَّصْدِيقِ، والأشْقِياءَ هم أهْلَ الكَذِبِ والتَّكْذِيبِ، وهو تَقْسِيمٌ حاصِرٌ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ. فالسَّعادَةُ دائِرَةٌ مَعَ الصِّدْقِ والتَّصْدِيقِ، والشَّقاوَةُ دائِرَةٌ مَعَ الكَذِبِ والتَّكْذِيبِ. وَأخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى: أنَّهُ لا يَنْفَعُ العِبادَ يَوْمَ القِيامَةِ إلّا صِدْقُهُمْ؛ وجَعَلَ عَلَمَ المُنافِقِينَ الَّذِي تَمَيَّزُوا بِهِ هو الكَذِبَ في أقْوالِهِمْ وأفْعالِهِمْ، فَجَمِيعُ ما نَعاهُ عَلَيْهِمْ أصْلُهُ الكَذِبُ في القَوْلِ والفِعْلِ، فالصِّدْقُ بَرِيدُ الإيمانِ ودَلِيلُهُ ومَرْكَبُهُ وسائِقُهُ وقائِدُهُ وحِلْيَتُهُ ولِباسُهُ، بَلْ هو لُبُّهُ ورُوحُهُ. والكَذِبُ: بَرِيدُ الكُفْرِ والنِّفاقِ ودَلِيلُهُ ومَرْكَبُهُ وسائِقُهُ وقائِدُهُ وحِلْيَتُهُ ولِباسُهُ ولُبُّهُ، فَمُضادَّةُ الكَذِبِ لِلْإيمانِ كَمُضادَّةِ الشِّرْكِ لِلتَّوْحِيدِ، فَلا يَجْتَمِعُ الكَذِبُ والإيمانُ إلّا ويَطْرُدُ أحَدُهُما صاحِبَهُ، ويَسْتَقِرُّ مَوْضِعَهُ، واللَّهُ سُبْحانَهُ أنْجى الثَّلاثَةَ بِصِدْقِهِمْ، وأهْلَكَ غَيْرَهم مِنَ المُخَلَّفِينَ بِكَذِبِهِمْ، فَما أنْعَمَ اللَّهُ عَلى عَبْدٍ بَعْدَ الإسْلامِ بِنِعْمَةٍ أفْضَلَ مِنَ الصِّدْقِ الَّذِي هو غِذاءُ الإسْلامِ وحَياتُهُ، ولا ابْتَلاهُ بِبَلِيَّةٍ أعْظَمَ مِنَ الكَذِبِ الَّذِي هو مَرَضُ الإسْلامِ وفَسادُهُ، واللَّهُ المُسْتَعانُ. * (فائدة) سأل تلميذ أستاذه أن يمدحه في رقعة إلى رجل ويبالغ في مدحه بما هو فوق رتبته. فقال: "لو فعلت ذلك لكنت عند المكتوب إليه إما مقصرا في الفهم حيث أعطيتك فوق حقك، أو متهما في الإخبار، فأكون كذابا. وكلا الأمرين يضرك لأني شاهدك وإذا قدح في الشاهد بطل حق المشهود له". * [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الصِّدْقِ] وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الصِّدْقِ وهي مَنزِلَةُ القَوْمِ الأعْظَمِ. الَّذِي مِنهُ تَنْشَأُ جَمِيعُ مَنازِلِ السّالِكِينَ، والطَّرِيقُ الأقْوَمُ الَّذِي مَن لَمْ يَسِرْ عَلَيْهِ فَهو مِنَ المُنْقَطِعِينَ الهالِكِينَ. وبِهِ تَمَيَّزَ أهْلُ النِّفاقِ مِن أهْلِ الإيمانِ، وسُكّانُ الجِنانِ مِن أهْلِ النِّيرانِ. وهو سَيْفُ اللَّهِ في أرْضِهِ الَّذِي ما وُضِعَ عَلى شَيْءٍ إلّا قَطَعَهُ. ولا واجَهَ باطِلًا إلّا أرْداهُ وصَرَعَهُ. مَن صالَ بِهِ لَمْ تُرَدَّ صَوْلَتُهُ. ومَن نَطَقَ بِهِ عَلَتْ عَلى الخُصُومِ كَلِمَتُهُ. فَهو رُوحُ الأعْمالِ، ومَحَكُّ الأحْوالِ، والحامِلُ عَلى اقْتِحامِ الأهْوالِ، والبابُ الَّذِي دَخَلَ مِنهُ الواصِلُونَ إلى حَضْرَةِ ذِي الجَلالِ. وهو أساسُ بِناءِ الدِّينِ، وعَمُودُ فُسْطاطِ اليَقِينِ. ودَرَجَتُهُ تالِيَةٌ لِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي هي أرْفَعُ دَرَجاتِ العالِمِينَ. ومِن مَساكِنِهِمْ في الجَنّاتِ تُجْرى العُيُونُ والأنْهارُ إلى مَساكِنِ الصِّدِّيقِينَ. كَما كانَ مِن قُلُوبِهِمْ إلى قُلُوبِهِمْ في هَذِهِ الدّارِ مَدَدٌ مُتَّصِلٌ ومَعِينٌ. وَقَدْ أمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أهْلَ الإيمانِ: أنْ يَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ. وخَصَّ المُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيَّيْنِ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ. فَقالَ تَعالى ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ﴾ [التوبة: ١١٩] وقالَ تَعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ﴾ [النساء: ٦٩] فَهُمُ الرَّفِيقُ الأعْلى ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: ٦٩] ولا يَزالُ اللَّهُ يَمُدُّهم بِأنْعُمِهِ وألْطافِهِ ومَزِيدِهِ إحْسانًا مِنهُ وتَوْفِيقًا. ولَهم مَرْتَبَةُ المَعِيَّةِ مَعَ اللَّهِ. فَإنَّ اللَّهَ مَعَ الصّادِقِينَ، ولَهم مَنزِلَةُ القُرْبِ مِنهُ. إذْ دَرَجَتُهم مِنهُ ثانِي دَرَجَةِ النَّبِيِّينَ. وَأخْبَرَ تَعالى أنَّ مَن صَدَقَهُ فَهو خَيْرٌ لَهُ. فَقالَ ﴿فَإذا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [محمد: ٢١]. وَأخْبَرَ تَعالى عَنْ أهْلِ البِرِّ. وأثْنى عَلَيْهِمْ بِأحْسَنِ أعْمالِهِمْ: مِنَ الإيمانِ، والإسْلامِ، والصَّدَقَةِ، والصَّبْرِ. بِأنَّهم أهْلُ الصِّدْقِ فَقالَ ﴿وَلَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ والمَلائِكَةِ والكِتابِ والنَّبِيِّينَ وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسّائِلِينَ وفي الرِّقابِ وأقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عاهَدُوا والصّابِرِينَ في البَأْساءِ والضَّرّاءِ وحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٧] وهَذا صَرِيحٌ في أنَّ الصِّدْقَ بِالأعْمالِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ. وأنَّ الصِّدْقَ هو مَقامُ الإسْلامِ والإيمانِ. وَقَسَّمَ اللَّهُ سُبْحانَهُ النّاسَ إلى صادِقٍ ومُنافِقٍ. فَقالَ ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ويُعَذِّبَ المُنافِقِينَ إنْ شاءَ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [الأحزاب: ٢٤]. والإيمانُ أساسُهُ الصِّدْقُ. والنِّفاقُ أساسُهُ الكَذِبُ. فَلا يَجْتَمِعُ كَذِبٌ وإيمانٌ إلّا وأحَدُهُما مُحارِبٌ لِلْآخَرِ. وَأخْبَرَ سُبْحانَهُ: أنَّهُ في يَوْمِ القِيامَةِ لا يَنْفَعُ العَبْدَ ويُنْجِيهِ مِن عَذابِهِ إلّا صِدْقُهُ. قالَ تَعالى ﴿هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهم لَهم جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [المائدة: ١١٩] وقالَ تَعالى: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ [الزمر: ٣٣] فالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ: هو مِن شَأْنِهِ الصِّدْقُ في قَوْلِهِ وعَمَلِهِ وحالِهِ. فالصِّدْقُ: في هَذِهِ الثَّلاثَةِ. فالصِّدْقُ في الأقْوالِ: اسْتِواءُ اللِّسانِ عَلى الأقْوالِ، كاسْتِواءِ السُّنْبُلَةِ عَلى ساقِها. والصِّدْقُ في الأعْمالِ: اسْتِواءُ الأفْعالِ عَلى الأمْرِ والمُتابَعَةِ. كاسْتِواءِ الرَّأْسِ عَلى الجَسَدِ. والصِّدْقُ في الأحْوالِ: اسْتِواءُ أعْمالِ القَلْبِ والجَوارِحِ عَلى الإخْلاصِ. واسْتِفْراغُ الوُسْعِ، وبَذْلُ الطّاقَةِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ العَبْدُ مِنَ الَّذِينَ جاءُوا بِالصِّدْقِ. وبِحَسَبِ كَمالِ هَذِهِ الأُمُورِ فِيهِ وقِيامِها بِهِ: تَكُونُ صِدِّيقِيَّتُهُ. ولِذَلِكَ كانَ لِأبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأرْضاهُ: ذُرْوَةُ سَنامِ الصِّدِّيقِيَّةِ، سُمِّيَ الصِّدِّيقَ عَلى الإطْلاقِ، والصِّدِّيقُ أبْلَغُ مِنَ الصَّدُوقِ والصَّدُوقُ أبْلَغُ مِنَ الصّادِقِ. فَأعْلى مَراتِبِ الصِّدْقِ: مَرْتَبَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ. وهي كَمالُ الِانْقِيادِ لِلرَّسُولِ ﷺ، مَعَ كَمالِ الإخْلاصِ لِلْمُرْسِلِ. وَقَدْ أمَرَ اللَّهُ تَعالى رَسُولَهُ: أنْ يَسْألَهُ أنْ يَجْعَلَ مُدْخَلَهُ ومُخْرَجَهُ عَلى الصِّدْقِ. فَقالَ ﴿وَقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَلْ لِي مِن لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٠] وأخْبَرَ عَنْ خَلِيلِهِ إبْراهِيمَ ﷺ، أنَّهُ سَألَهُ أنْ يَهَبَ لَهُ لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ. فَقالَ ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ [الشعراء: ٨٤] وبَشَّرَ عِبادَهُ بِأنَّ لَهم عِنْدَهُ قَدَمَ صِدْقٍ، ومَقْعَدَ صِدْقٍ. فَقالَ تَعالى ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أنَّ لَهم قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [يونس: ٢] وقالَ ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ ونَهَرٍ - في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: ٥٤-٥٥]. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أشْياءَ: مُدْخَلُ الصِّدْقِ، ومُخْرَجُ الصِّدْقِ. ولِسانُ الصِّدْقِ، وقَدَمُ الصِّدْقِ، ومَقْعَدُ الصِّدْقِ. وَحَقِيقَةُ الصِّدْقِ في هَذِهِ الأشْياءِ: هو الحَقُّ الثّابِتُ، المُتَّصِلُ بِاللَّهِ، المُوَصِّلُ إلى اللَّهِ. وهو ما كانَ بِهِ ولَهُ، مِنَ الأقْوالِ والأعْمالِ. وجَزاءُ ذَلِكَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. فَمُدْخَلُ الصِّدْقِ، ومُخْرَجُ الصِّدْقِ: أنْ يَكُونَ دُخُولُهُ وخُرُوجُهُ حَقًّا ثابِتًا بِاللَّهِ، وفي مَرْضاتِهِ. بِالظَّفَرِ بِالبُغْيَةِ، وحُصُولِ المَطْلُوبِ، ضِدَّ مُخْرَجِ الكَذِبِ ومُدْخَلِهِ الَّذِي لا غايَةَ لَهُ يُوَصَلُ إلَيْها. ولا لَهُ ساقٌ ثابِتَةٌ يَقُومُ عَلَيْها. كَمُخْرَجِ أعْدائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ. ومُخْرَجُ الصِّدْقِ كَمُخْرَجِهِ ﷺ هو وأصْحابُهُ في تِلْكَ الغَزْوَةِ. وَكَذَلِكَ مُدْخَلُهُ ﷺ المَدِينَةَ: كانَ مُدْخَلُ صِدْقٍ بِاللَّهِ، ولِلَّهِ، وابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ. فاتَّصَلَ بِهِ التَّأْيِيدُ، والظَّفَرُ والنَّصْرُ، وإدْراكُ ما طَلَبَهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، بِخِلافِ مُدْخَلِ الكَذِبِ الَّذِي رامَ أعْداؤُهُ أنْ يَدْخُلُوا بِهِ المَدِينَةَ يَوْمَ الأحْزابِ. فَإنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِاللَّهِ، ولا لِلَّهِ. بَلْ كانَ مُحادَّةً لِلَّهِ ورَسُولِهِ، فَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ إلّا الخِذْلانُ والبَوارُ. وَكَذَلِكَ مُدْخَلُ مَن دَخَلَ مِنَ اليَهُودِ المُحارِبِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِصْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَإنَّهُ لَمّا كانَ مُدْخَلَ كَذِبٍ: أصابَهُ مَعَهم ما أصابَهم. فَكُلُّ مُدْخَلٍ مَعَهم ومُخْرَجٍ كانَ بِاللَّهِ ولِلَّهِ. فَصاحِبُهُ ضامِنٌ عَلى اللَّهِ. فَهو مُدْخَلُ صِدْقٍ، ومُخْرَجُ صِدْقٍ. وَكانَ بَعْضُ السَّلَفِ إذا خَرَجَ مِن دارِهِ: رَفَعَ رَأسَهُ إلى السَّماءِ، وقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أُخْرَجَ مُخْرَجًا لا أكُونُ فِيهِ ضامِنًا عَلَيْكَ. يُرِيدُ: أنْ لا يَكُونَ المُخْرَجُ مُخْرَجَ صِدْقٍ. ولِذَلِكَ فُسِّرَ مُدْخَلُ الصِّدْقِ ومُخْرَجُهُ: بِخُرُوجِهِ ﷺ مِن مَكَّةَ، ودُخُولِهِ المَدِينَةَ. ولا رَيْبَ أنَّ هَذا عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. فَإنَّ هَذا المُدْخَلَ والمُخْرَجَ مِن أجَلِّ مَداخِلِهِ ومَخارِجِهِ ﷺ. وإلّا فَمَداخِلُهُ كُلُّها مَداخِلُ صِدْقٍ، ومَخارِجُهُ مَخارِجُ صِدْقٍ. إذْ هي لِلَّهِ وبِاللَّهِ وبِأمْرِهِ، ولِابْتِغاءِ مَرْضاتِهِ. وَما خَرَجَ أحَدٌ مِن بَيْتِهِ ودَخَلَ سُوقَهُ - أوْ مُدْخَلًا آخَرَ - إلّا بِصِدْقٍ أوْ بِكَذِبٍ، فَمُخْرَجُ كُلِّ واحِدٍ ومُدْخَلُهُ: لا يَعْدُو الصِّدْقَ والكَذِبَ. واللَّهُ المُسْتَعانُ. وَأمّا لِسانُ الصِّدْقِ: فَهو الثَّناءُ الحَسَنُ عَلَيْهِ ﷺ مِن سائِرِ الأُمَمِ بِالصِّدْقِ. لَيْسَ ثَناءً بِالكَذِبِ. كَما قالَ عَنْ إبْراهِيمَ وذُرِّيَّتِهِ مِنَ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ ﴿وَجَعَلْنا لَهم لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ [مريم: ٥٠] والمُرادُ بِاللِّسانِ هاهُنا: الثَّناءُ الحَسَنُ. فَلَمّا كانَ الصِّدْقُ بِاللِّسانِ، وهو مَحَلُّهُ. أطْلَقَ اللَّهُ سُبْحانَهُ ألْسِنَةَ العِبادِ بِالثَّناءِ عَلى الصّادِقِ، جَزاءً وِفاقًا. وعَبَّرَ بِهِ عَنْهُ. فَإنَّ اللِّسانَ يُرادُ بِهِ ثَلاثَةُ مَعانٍ: هَذا، واللُّغَةُ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤] وقَوْلِهِ: ﴿واخْتِلافُ ألْسِنَتِكم وألْوانِكُمْ﴾ [الروم: ٢٢] وقَوْلِهِ: ﴿لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَمِيٌّ وهَذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣] ويُرادُ بِهِ الجارِحَةُ نَفْسُها. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ [القيامة: ١٦]. وَأمّا قَدَمُ الصِّدْقِ: فَفُسِّرَ بِالجَنَّةِ. وفُسِّرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ. وفُسِّرَ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ. وَحَقِيقَةُ القَدَمِ ما قَدَّمُوهُ. وما يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيامَةِ. وهم قَدَّمُوا الأعْمالَ والإيمانَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، ويَقْدَمُونَ عَلى الجَنَّةِ الَّتِي هي جَزاءُ ذَلِكَ. فَمَن فَسَّرَهُ بِها أرادَ: ما يَقْدَمُونَ عَلَيْهِ. ومَن فَسَّرَهُ بِالأعْمالِ وبِالنَّبِيِّ ﷺ: فَلِأنَّهم قَدَّمُوها. وقَدَّمُوا الإيمانَ بِهِ بَيْنَ أيْدِيهِمْ. فالثَّلاثَةُ قَدَمُ صِدْقٍ. وأمّا مَقْعَدُ الصِّدْقِ: فَهو الجَنَّةُ عِنْدَ الرَّبِّ تَبارَكَ وتَعالى. وَوَصْفُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالصِّدْقِ مُسْتَلْزِمٌ ثُبُوتَهُ واسْتِقْرارَهُ، وأنَّهُ حَقُّ، ودَوامَهُ ونَفْعَهُ، وكَمالَ عائِدَتِهِ. فَإنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالحَقِّ سُبْحانَهُ، كائِنٌ بِهِ ولَهُ. فَهو صِدْقٌ غَيْرُ كَذِبٍ. وحَقٌّ غَيْرُ باطِلٍ. ودائِمٌ غَيْرُ زائِلٍ. ونافِعٌ غَيْرُ ضارٍّ. وما لِلْباطِلِ ومُتَعَلَّقاتِهِ إلَيْهِ سَبِيلٌ ولا مَدْخَلٌ. وَمِن عَلاماتِ الصِّدْقِ: طُمَأْنِينَةُ القَلْبِ إلَيْهِ. ومِن عَلاماتِ الكَذِبِ: حُصُولُ الرِّيبَةِ، كَما في التِّرْمِذِيِّ - مَرْفُوعًا - مِن حَدِيثِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «الصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ. والكَذِبُ رِيبَةٌ». وفي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ. وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ. وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ. وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النّارِ. وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتّى يُكْتُبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذّابًا» فَجَعَلَ الصِّدْقَ مِفْتاحَ الصِّدِّيقِيَّةِ ومَبْدَأها. وهي غايَتُهُ. فَلا يَنالُ دَرَجَتَها كاذِبٌ ألْبَتَّةَ. لا في قَوْلِهِ:، ولا في عَمَلِهِ، ولا في حالِهِ. ولا سِيَّما كاذِبٌ عَلى اللَّهِ في أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، ونَفْيِ ما أثْبَتَهُ. أوْ إثْباتِ ما نَفاهُ عَنْ نَفْسِهِ. فَلَيْسَ في هَؤُلاءِ صِدِّيقٌ أبَدًا. وَكَذَلِكَ الكَذِبُ عَلَيْهِ في دِينِهِ وشَرْعِهِ. بِتَحْلِيلِ ما حَرَّمَهُ. وتَحْرِيمِ ما لَمْ يُحَرِّمْهُ. وإسْقاطِ ما أوْجَبَهُ، وإيجابِ ما لَمْ يُوجِبْهُ، وكَراهَةِ ما أحَبَّهُ، واسْتِحْبابِ ما لَمْ يُحِبَّهُ. كُلُّ ذَلِكَ مُنافٍ لِلصِّدِّيقِيَّةِ. وَكَذَلِكَ الكَذِبُ مَعَهُ في الأعْمالِ: بِالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ الصّادِقِينَ المُخْلِصِينَ، والزّاهِدِينَ المُتَوَكِّلِينَ. ولَيْسَ في الحَقِيقَةِ مِنهم. فَلِذَلِكَ كانَتِ الصِّدِّيقِيَّةُ: كَمالَ الإخْلاصِ والِانْقِيادِ، والمُتابَعَةَ لِلْخَبَرِ والأمْرِ، ظاهِرًا وباطِنًا، حَتّى إنَّ صِدْقَ المُتَبايِعَيْنِ يُحِلُّ البَرَكَةَ في بَيْعِهِما. وكَذِبَهُما يَمْحَقُ بَرَكَةَ بَيْعِهِما. كَما في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «البَيِّعانِ بِالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا. فَإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لَهُما في بَيْعِهِما. وإنْ كَذَبا وكَتَما: مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِما». * [فَصْلٌ في كَلِماتٍ في حَقِيقَةِ الصِّدْقِ] قالَ عَبْدُ الواحِدِ بْنُ زَيْدٍ: الصِّدْقُ: الوَفاءُ لِلَّهِ بِالعَمَلِ. وَقِيلَ: مُوافَقَةُ السِّرِّ النُّطْقَ. وَقِيلَ: اسْتِواءُ السِّرِّ والعَلانِيَةِ. يَعْنِي أنَّ الكاذِبَ عَلانِيَتُهُ خَيْرٌ مِن سَرِيرَتِهِ. كالمُنافِقِ الَّذِي ظاهِرُهُ خَيْرٌ مِن باطِنِهِ. وَقِيلَ: الصِّدْقُ: القَوْلُ بِالحَقِّ في مَواطِنِ الهَلَكَةِ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ الحَقِّ عِنْدَ مَن تَخافُهُ وتَرْجُوهُ. وَقالَ الجُنَيْدُ: الصّادِقُ يَتَقَلَّبُ في اليَوْمِ أرْبَعِينَ مَرَّةً. والمُرائِي يَثْبُتُ عَلى حالَةٍ واحِدَةٍ أرْبَعِينَ سَنَةً. وَهَذا الكَلامُ يَحْتاجُ إلى شَرْحٍ. وقَدْ يَسْبِقُ إلى الذِّهْنِ خِلافُهُ، وأنَّ الكاذِبَ مُتَلَوِّنٌ. لِأنَّ الكَذِبَ ألْوانٌ، فَهو يَتَلَوَّنُ بِتَلَوُّنِهِ. والصّادِقُ مُسْتَمِرٌّ عَلى حالَةٍ واحِدَةٍ. فَإنَّ الصِّدْقَ واحِدٌ في نَفْسِهِ، وصاحِبُهُ لا يَتَلَوَّنُ ولا يَتَغَيَّرُ. لَكِنَّ مُرادَ الشَّيْخِ أبِي القاسِمِ صَحِيحٌ غَيْرُ هَذا. فَإنَّ المُعارَضاتِ والوارِداتِ الَّتِي تَرِدُ عَلى الصّادِقِ لا تَرِدُ عَلى الكاذِبِ المُرائِي. بَلْ هو فارِغٌ مِنها. فَإنَّهُ لا يَرِدُ عَلَيْهِ مِن قِبَلِ الحَقِّ مَوارِدُ الصّادِقِينَ عَلى الكاذِبِينَ المُرائِينَ. ولا يُعارِضُهُمُ الشَّيْطانُ. كَما يُعارِضُ الصّادِقِينَ. فَإنَّهُ لا أرَبَ لَهُ في خَرِبَةٍ لا شَيْءَ فِيها. وهَذِهِ الوارِداتُ تُوجِبُ تَقَلُّبَ الصّادِقِ بِحَسَبِ اخْتِلافِها وتَنَوُّعِها. فَلا تَراهُ إلّا هارِبًا مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ ومِن عَمَلٍ إلى عَمَلٍ. ومِن حالٍ إلى حالٍ. ومِن سَبَبٍ إلى سَبَبٍ. لِأنَّهُ يَخافُ في كُلِّ حالٍ يَطْمَئِنُّ إلَيْها. ومَكانٍ وسَبَبٍ: أنْ يَقْطَعَهُ عَنْ مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ لا يُساكِنُ حالَةً ولا شَيْئًا دُونَ مَطْلُوبِهِ. فَهو كالجَوّالِ في الآفاقِ في طَلَبِ الغِنى الَّذِي يَفُوقُ بِهِ الأغْنِياءَ. والأحْوالُ والأسْبابُ تَتَقَلَّبُ بِهِ، وتُقِيمُهُ وتُقْعِدُهُ، وتُحَرِّكُهُ وتُسَكِّنُهُ، حَتّى يَجِدَ فِيها ما يُعِينُهُ عَلى مَطْلُوبِهِ. وهَذا عَزِيزٌ فِيها. فَقَلْبُهُ في تَقَلُّبٍ، وحَرَكَةٍ شَدِيدَةٍ بِحَسَبِ سَعَةِ مَطْلُوبِهِ. وعَظْمَتِهِ وهِمَّتِهِ أعْلى مِن أنْ يَقِفَ دُونَ مَطْلَبِهِ عَلى رَسْمٍ أوْ حالٍ، أوْ يُساكِنَ شَيْئًا غَيْرَهُ. فَهو كالمُحِبِّ الصّادِقِ، الَّذِي هِمَّتُهُ التَّفْتِيشُ عَلى مَحْبُوبِهِ. وكَذا حالُ الصّادِقِ في طَلَبِ العِلْمِ، وحالُ الصّادِقِ في طَلَبِ الدُّنْيا. فَكُلُّ صادِقٍ في طَلَبِ شَيْءٍ لا يَسْتَقِرُّ لَهُ قَرارٌ. ولا يَدُومُ عَلى حالَةٍ واحِدَةٍ. وَأيْضًا: فَإنَّ الصّادِقَ مَطْلُوبُهُ رِضا رَبِّهِ، وتَنْفِيذُ أوامِرِهِ، وتَتَبُّعُ مَحابِّهِ. فَهو مُتَقَلِّبٌ فِيها يَسِيرُ مَعَها أيْنَ تَوَجَّهَتْ رَكائِبُها. ويَسْتَقِلُّ مَعَها أيْنَ اسْتَقَلَّتْ مَضارِبُها فَبَيْنا هو في صَلاةٍ إذْ رَأيْتُهُ في ذِكْرٍ ثُمَّ في غَزْوٍ، ثُمَّ في حَجٍّ. ثُمَّ في إحْسانٍ لِلْخَلْقِ بِالتَّعْلِيمِ وغَيْرِهِ، مِن أنْواعِ النَّفْعِ. ثُمَّ في أمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، أوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. أوْ في قِيامٍ بِسَبَبٍ في عِمارَةِ الدِّينِ والدُّنْيا، ثُمَّ في عِيادَةِ مَرِيضٍ، أوْ تَشْيِيعِ جِنازَةٍ. أوْ نَصْرِ مَظْلُومٍ - إنْ أمْكَنَ - إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن أنْواعِ القُرْبِ والمَنافِعِ. فَهُوَ في تَفَرُّقٍ دائِمٍ لِلَّهِ، وجَمْعِيَّةٍ عَلى اللَّهِ. لا يَمْلِكُهُ رَسْمٌ ولا عادَةٌ ولا وضْعٌ. ولا يَتَقَيَّدُ بِقَيْدٍ ولا إشارَةٍ. ولا بِمَكانٍ مُعَيَّنٍ يُصَلِّي فِيهِ لا يُصَلِّي في غَيْرِهِ. وزِيٍّ مُعَيَّنٍ لا يَلْبَسُ سِواهُ. وعِبادَةٍ مُعَيَّنَةٍ لا يَلْتَفِتُ إلى غَيْرِها، مَعَ فَضْلِ غَيْرِها عَلَيْها، أوْ هي أعْلى مِن غَيْرِها في الدَّرَجَةِ. وبُعْدُ ما بَيْنَهُما كَبُعْدِ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ. فَإنَّ البَلاءَ والآفاتِ والرِّياءَ والتَّصَنُّعَ، وعِبادَةَ النَّفْسِ، وإيثارَ مُرادِها، والإشارَةَ إلَيْها: كُلُّها في هَذِهِ الأوْضاعِ، والرُّسُومَ والقُيُودَ، الَّتِي حَبَسَتْ أرْبابَها عَنِ السَّيْرِ إلى قُلُوبِهِمْ. فَضْلًا عَنِ السَّيْرِ مِن قُلُوبِهِمْ إلى اللَّهِ تَعالى. فَإذا خَرَجَ أحَدُهم عَنْ رَسْمِهِ ووَضْعِهِ وزِيِّهِ وقَيْدِهِ وإشارَتِهِ - ولَوْ إلى أفْضَلَ مِنهُ - اسْتَهْجَنَ ذَلِكَ. ورَآهُ نَقْصًا، وسُقُوطًا مِن أعْيُنِ النّاسِ، وانْحِطاطًا لِرُتْبَتِهِ عِنْدَهم. وهو قَدِ انْحَطَّ وسَقَطَ مِن عَيْنِ اللَّهِ. وَقَدْ يُحِسُّ أحَدُهم ذَلِكَ مِن نَفْسِهِ وحالِهِ. ولا تَدَعُهُ رُسُومُهُ وأوْضاعُهُ وزِيُّهُ وقُيُودُهُ: أنْ يَسْعى في تَرْمِيمِ ذَلِكَ وإصْلاحِهِ. وهَذا شَأْنُ الكَذّابِ المُرائِي الَّذِي يُبْدِي لِلنّاسِ خِلافَ ما يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِن باطِنِهِ، العامِلِ عَلى عِمارَةِ نَفْسِهِ ومَرْتَبَتِهِ. وهَذا هو النِّفاقُ بِعَيْنِهِ. ولَوْ كانَ عامِلًا عَلى مُرادِ اللَّهِ مِنهُ، وعَلى الصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ: لَأثْقَلَتْهُ تِلْكَ القُيُودُ. وحَبَسَتْهُ تِلْكَ الرُّسُومُ. ولَرَأى الوُقُوفَ عِنْدَها ومَعَها عَيْنَ الِانْقِطاعِ عَنِ اللَّهِ لا إلَيْهِ. ولَما بالى أيَّ ثَوْبٍ لَبِسَ، ولا أيَّ عَمَلٍ عَمِلَ، إذا كانَ عَلى مُرادِ اللَّهِ مِنَ العَبْدِ. فَكَلامُ أبِي القاسِمِ الجُنَيْدِ حَقٌّ، كَلامُ راسِخٍ في الصِّدْقِ، عالِمٍ بِتَفاصِيلِهِ وآفاتِهِ، ومَواضِعِ اشْتِباهِهِ بِالكَذِبِ. وَأيْضًا فَحِمْلُ الصِّدْقِ كَحِمْلِ الجِبالِ الرَّواسِي. لا يُطِيقُهُ إلّا أصْحابُ العَزائِمِ. فَهم يَتَقَلَّبُونَ تَحْتَهُ تَقَلُّبَ الحامِلِ بِحِمْلِهِ الثَّقِيلِ. والرِّياءُ والكَذِبُ خَفِيفٌ كالرِّيشَةِ لا يَجِدُ لَهُ صاحِبُهُ ثِقَلًا ألْبَتَّةَ. فَهو حامِلٌ لَهُ في أيِّ مَوْضِعٍ اتَّفَقَ، بِلا تَعَبٍ ولا مَشَقَّةٍ ولا كُلْفَةٍ. فَهو لا يَتَقَلَّبُ تَحْتَ حِمْلِهِ ولا يَجِدُ ثِقَلَهُ. وَقالَ بَعْضُهُمْ: لا يَشَمُّ رائِحَةَ الصِّدْقِ عَبْدٌ داهَنَ نَفْسَهُ أوْ غَيْرَهُ. وَقالَ بَعْضُهُمْ: الصّادِقُ الَّذِي يَتَهَيَّأُ لَهُ أنْ يَمُوتَ ولا يَسْتَحْيِيَ مِن سِرِّهِ لَوْ كُشِفَ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [البقرة: ٩٤]. وَقالَ إبْراهِيمُ الخَواصُّ: الصّادِقُ لا تَراهُ إلّا في فَرْضٍ يُؤَدِّيهِ، أوْ فَضْلٍ يَعْمَلُ فِيهِ. وَقالَ الجُنَيْدُ: حَقِيقَةُ الصِّدْقِ: أنَّ تَصْدُقَ في مَوْطِنٍ لا يُنْجِيكَ مِنهُ إلّا الكَذِبُ. وَقِيلَ: ثَلاثٌ لا تُخْطِئُ الصّادِقَ: الحَلاوَةُ، والمَلاحَةُ، والهَيْبَةُ. وَفِي أثَرٍ إلَهِيٍّ مَن صَدَقَنِي في سَرِيرَتِهِ صَدَقْتُهُ في عَلانِيَتِهِ عِنْدَ خَلْقِي. وَقالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أوَّلُ خِيانَةِ الصِّدِّيقِينَ: حَدِيثُهم مَعَ أنْفُسِهِمْ. وَقالَ يُوسُفُ بْنُ أسْباطٍ: لَأنْ أبِيتَ لَيْلَةً أُعامِلُ اللَّهَ بِالصِّدْقِ أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ أضْرِبَ بِسَيْفِي في سَبِيلِ اللَّهِ. وَقالَ الحارِثُ المُحاسِبِيُّ: الصّادِقُ هو الَّذِي لا يُبالِي لَوْ خَرَجَ كُلُّ قَدْرٍ لَهُ في قُلُوبِ الخَلْقِ مِن أجْلِ صَلاحِ قَلْبِهِ. ولا يُحِبُّ اطِّلاعَ النّاسِ عَلى مَثاقِيلِ الذَّرِّ مِن حُسْنِ عَمَلِهِ. ولا يَكْرَهُ أنْ يَطَّلِعَ النّاسُ عَلى السَّيِّئِ مِن عَمَلِهِ. فَإنَّ كَراهَتَهُ لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ يُحِبُّ الزِّيادَةَ عِنْدَهم. ولَيْسَ هَذا مِن عَلاماتِ الصِّدِّيقِينَ. وَفِي هَذا نَظَرٌ. لِأنَّ كَراهَتَهُ لِاطِّلاعِ النّاسِ عَلى مَساوِئِ عَمَلِهِ مِن جِنْسِ كَراهَتِهِ لِلضَّرْبِ والمَرَضِ وسائِرِ الآلامِ. وهَذا أمْرٌ جَبَلِيٌّ طَبِيعِيٌّ. ولا يَخْرُجُ صاحِبُهُ عَنِ الصِّدْقِ، لاسِيَّما إذا كانَ قُدْوَةً مُتَّبَعًا. فَإنَّ كَراهَتَهُ لِذَلِكَ مِن عَلاماتِ صِدْقِهِ. لِأنَّ فِيها مَفْسَدَتَيْنِ: مَفْسَدَةَ تَرْكِ الِاقْتِداءِ بِهِ، واتِّباعِهِ عَلى الخَيْرِ وتَنْفِيذِهِ. ومَفْسَدَةَ اقْتِداءِ الجُهّالِ بِهِ فِيها. فَكَراهِيَتُهُ لِاطِّلاعِهِمْ عَلى مَساوِئِ عَمَلِهِ: لا تُنافِي صِدْقَهُ، بَلْ قَدْ تَكُونُ مِن عَلاماتِ صِدْقِهِ. نَعَمِ المُنافِي لِلصِّدْقِ: أنْ لا يَكُونَ لَهُ مُرادٌ سِوى عِمارَةِ حالِهِ عِنْدَهُمْ، وسُكْناهُ في قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمًا لَهُ. فَلَوْ كانَ مُرادُهُ تَنْفِيذًا لِأمْرِ اللَّهِ، ونَشْرًا لِدِينِهِ، وأمْرًا بِالمَعْرُوفِ، ونَهْيًا عَنِ المُنْكَرِ، ودَعْوَةً إلى اللَّهِ: فَهَذا الصّادِقُ حَقًّا. واللَّهُ يَعْلَمُ سَرائِرَ القُلُوبِ ومَقاصِدَها. وَأظُنُّ أنَّ هَذا هو مُرادُ المُحاسِبِيِّ بِقَوْلِهِ: ولا يَكْرَهُ اطِّلاعَ النّاسِ عَلى السَّيِّئِ مِن عَمَلِهِ فَإنَّهم يُرِيدُونَ ذَلِكَ فُضُولًا، ودُخُولًا فِيما لا يَعْنِي. فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حَيْثُ قالَ: لَأُقاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، واللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَناقًا - أوْ عِقالًا - كانُوا يُؤَدُّونَها إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَقاتَلْتُهم عَلَيْهِ. فَهَذا وأمْثالُهُ يَعُدُّونَهُ ويَرَوْنَهُ مِن سَيِّئِ الأعْمالِ عِنْدَ العَوامِّ والجُهّالِ. وَقالَ بَعْضُهُمْ: مَن لَمْ يُؤَدِّ الفَرْضَ الدّائِمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنهُ الفَرْضُ المُؤَقَّتُ. قِيلَ: وما الفَرْضُ الدّائِمُ؟ قالَ: الصِّدْقُ. وَقِيلَ: مَن طَلَبَ اللَّهَ بِالصِّدْقِ أعْطاهُ مِرْآةً يُبْصِرُ فِيها الحَقَّ والباطِلَ. وَقِيلَ: عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ حَيْثُ تَخافُ أنَّهُ يَضُرُّكَ. فَإنَّهُ يَنْفَعُكَ. وَدَعِ الكَذِبَ حَيْثُ تَرى أنَّهُ يَنْفَعُكَ. فَإنَّهُ يَضُرُّكَ. وقِيلَ: ما أمْلَقَ تاجِرٌ صَدُوقٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب