الباحث القرآني

* (فائدة) التَّوْبَةُ كَما أنَّها مِن أوَّلِ المَقاماتِ فَهي آخِرُها أيْضًا، بَلْ هي في كُلِّ مَقامٍ مُسْتَصْحَبَةٌ، ولِهَذا جَعَلَها اللَّهُ تَعالى آخِرَ مَقاماتِ خاصَّتِهِ، فَقالَ تَعالى في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وهي آخِرُ الغَزَواتِ الَّتِي قَطَعُوا فِيها الأوْدِيَةَ والبِداياتِ والأحْوالَ والنِّهاياتِ ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في ساعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ فَجَعَلَ التَّوْبَةَ أوَّلَ أمْرِهِمْ وآخِرَهُ. * (فصل) اعْلَمِ الآنَ: أنَّ التَّوْبَةَ نِهايَةُ كُلِّ عارِفٍ، وغايَةُ كُلِّ سالِكٍ، وكَما أنَّها بِدايَةٌ فَهي نِهايَةٌ، والحاجَةُ إلَيْها في النِّهايَةِ أشَدُّ مِنَ الحاجَةِ إلَيْها في البِدايَةِ، بَلْ هي في النِّهايَةِ في مَحَلِّ الضَّرُورَةِ. فاسْمَعِ الآنَ ما خاطَبَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ في آخِرِ الأمْرِ عِنْدَ النِّهايَةِ، وكَيْفَ كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في آخِرِ حَياتِهِ أشَدَّ ما كانَ اسْتِغْفارًا وأكْثَرَهُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في ساعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٧] وَهَذا أنْزَلَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وهي آخِرُ الغَزَواتِ الَّتِي غَزاها ﷺ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ شُكْرانًا لِما تَقَدَّمَ مِن تِلْكَ الأعْمالِ، وذَلِكَ الجِهادُ، وقالَ تَعالى في آخِرِ ما أنْزَلَ عَلى رَسُولِهِ: إذا ﴿جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ - ورَأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كانَ تَوّابًا﴾ [النصر: ١-٣] وَفِي الصَّحِيحِ أنَّهُ ﷺ ما صَلّى صَلاةً - بَعْدَ ما نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ - إلّا قالَ فِيها: «سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» وذَلِكَ في نِهايَةِ أمْرِهِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ، ولِهَذا فَهِمَ مِنها عُلَماءُ الصَّحابَةِ - كَعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أنَّ أجَلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أعْلَمَهُ اللَّهُ إيّاهُ، فَأمَرَهُ سُبْحانَهُ بِالِاسْتِغْفارِ في نِهايَةِ أحْوالِهِ، وآخِرِ أمْرِهِ، عَلى ما كانَ عَلَيْهِ ﷺ مَقامًا وحالًا، وآخِرُ ما سُمِعَ مِن كَلامِهِ عِنْدَ قُدُومِهِ عَلى رَبِّهِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وألْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأعْلى وكانَ ﷺ يَخْتِمُ عَلى كُلِّ عَمَلٍ صالِحٍ بِالِاسْتِغْفارِ»، كالصَّوْمِ، والصَّلاةِ، والحَجِّ، والجِهادِ، فَإنَّهُ كانَ إذا فَرَغَ مِنهُ، وأشْرَفَ عَلى المَدِينَةِ، قالَ: «آيِبُونَ، تائِبُونَ، لِرَبِّنا حامِدُونَ» وشَرَّعَ أنْ يُخْتَمَ المَجْلِسُ بِالِاسْتِغْفارِ، وإنْ كانَ مَجْلِسَ خَيْرٍ وطاعَةٍ، وشَرَّعَ أنْ يَخْتِمَ العَبْدُ عَمَلَ يَوْمِهِ بِالِاسْتِغْفارِ، فَيَقُولُ عِنْدَ النَّوْمِ «أسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ وأتُوبُ إلَيْهِ» وأنْ يَنامَ عَلى سَيِّدِ الِاسْتِغْفارِ. والعارِفُ بِاللَّهِ وأسْمائِهِ وصِفاتِهِ وحُقُوقِهِ يَعْلَمُ أنَّ العَبْدَ أحْوَجُ ما يَكُونُ إلى التَّوْبَةِ في نِهايَتِهِ، وأنَّهُ أحْوَجُ إلى التَّوْبَةِ مِنَ الفَناءِ، والِاتِّصالِ، وجَمْعِ الشَّواهِدِ، وجَمْعِ الوُجُودِ، وجَمْعِ العَيْنِ، وكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ أعْلى مَقاماتِ السّالِكِينَ، وغايَةُ مَطْلَبِ المُقَرَّبِينَ، ولَمْ يَأْتِ لَهُ ذِكْرٌ في القُرْآنِ، ولا في السُّنَّةِ، ولا يَعْرِفُهُ إلّا النّادِرُ مِنَ النّاسِ، ولا يَتَصَوَّرُهُ أكْثَرُهم إلّا بِصُعُوبَةٍ ومَشَقَّةٍ، ولَوْ سَمِعَهُ أكْثَرُ الخَلْقِ لَما فَهِمُوهُ، ولا عَرَفُوا المُرادَ مِنهُ إلّا بِتَرْجَمَةٍ؟ فَأيْنَ في كِتابِ اللَّهِ، أوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، أوْ كَلامِ الصَّحابَةِ - الَّذِينَ نِسْبَةُ مَعارِفِ مَن بَعْدَهم إلى مَعارِفِهِمْ كَنِسْبَةِ فَضْلِهِمْ ودِينِهِمْ وجِهادِهِمْ إلَيْهِمْ - ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، أوْ يُشِيرُ إلَيْهِ؟ * (فائدة) وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في ساعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ هَذا مِن أعْظَمِ ما يُعَرِّفُ العَبْدَ قَدْرَ التَّوْبَةِ وفَضْلَها عِنْدَ اللَّهِ، وأنَّها غايَةُ كَمالِ المُؤْمِنِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أعْطاهم هَذا الكَمالَ بَعْدَ آخِرِ الغَزَواتِ بَعْدَ أنْ قَضَوْا نَحْبَهُمْ، وبَذَلُوا نُفُوسَهم وأمْوالَهم ودِيارَهم لِلَّهِ، وكانَ غايَةَ أمْرِهِمْ أنْ تابَ عَلَيْهِمْ، ولِهَذا جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ تَوْبَةِ كَعْبٍ خَيْرَ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْهِ مُنْذُ ولَدَتْهُ أُمُّهُ إلى ذَلِكَ اليَوْمِ، ولا يَعْرِفُ هَذا حَقَّ مَعْرِفَتِهِ إلّا مَن عَرَفَ اللَّهَ، وعَرَفَ حُقُوقَهُ عَلَيْهِ، وعَرَفَ ما يَنْبَغِي لَهُ مِن عُبُودِيَّتِهِ، وعَرَفَ نَفْسَهُ وصِفاتِها وأفْعالَها، وأنَّ الَّذِي قامَ بِهِ مِنَ العُبُودِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلى حَقِّ رَبِّهِ عَلَيْهِ كَقَطْرَةٍ في بَحْرٍ، هَذا إذا سَلِمَ مِنَ الآفاتِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، فَسُبْحانَ مَن لا يَسَعُ عِبادَهُ غَيْرُ عَفْوِهِ ومَغْفِرَتِهِ وتَغَمُّدِهِ لَهم بِمَغْفِرَتِهِ ورَحْمَتِهِ، ولَيْسَ إلّا ذَلِكَ أوِ الهَلاكَ، فَإنْ وضَعَ عَلَيْهِمْ عَدْلَهُ فَعَذَّبَ أهْلَ سَماواتِهِ وأرْضِهِ، عَذَّبَهم وهو غَيْرُ ظالِمٍ لَهُمْ، وإنْ رَحِمَهم فَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ لَهم مِن أعْمالِهِمْ، ولا يُنْجِي أحَدًا مِنهم عَمَلُهُ. * [فَصْلٌ: في مَعْنى تَكْرِيرِ اللَّهِ لِلَفْظِ (التَّوْبَةِ) في الآيَةِ] وَتَأمَّلْ تَكْرِيرَهُ سُبْحانَهُ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ مَرَّتَيْنِ في أوَّلِ الآيَةِ وآخِرِها، فَإنَّهُ تابَ عَلَيْهِمْ أوَّلًا بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتَّوْبَةِ، فَلَمّا تابُوا تابَ عَلَيْهِمْ ثانِيًا بِقَبُولِها مِنهُمْ، وهو الَّذِي وفَّقَهم لِفِعْلِها، وتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِها، فالخَيْرُ كُلُّهُ مِنهُ وبِهِ ولَهُ وفي يَدَيْهِ، يُعْطِيهِ مَن يَشاءُ إحْسانًا وفَضْلًا، ويَحْرِمُهُ مَن يَشاءُ حِكْمَةً وعَدْلًا. * [فَصْلٌ تَوْبَةُ العَبْدِ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِن رَبِّهِ] وَتَوْبَةُ العَبْدِ إلى اللَّهِ مَحْفُوفَةٌ بِتَوْبَةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَها، وتَوْبَةٍ مِنهُ بَعْدَها، فَتَوْبَتُهُ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِن رَبِّهِ، سابِقَةٍ ولاحِقَةٍ، فَإنَّهُ تابَ عَلَيْهِ أوَّلًا إذْنًا وتَوْفِيقًا وإلْهامًا، فَتابَ العَبْدُ، فَتابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ثانِيًا، قَبُولًا وإثابَةً، قالَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في ساعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ - وعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهم وظَنُّوا أنْ لا مَلْجَأ مِنَ اللَّهِ إلّا إلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة: ١١٧-١١٨] فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ سَبَقَتْ تَوْبَتَهُمْ، وأنَّها هي الَّتِي جَعَلَتْهم تائِبِينَ، فَكانَتْ سَبَبًا مُقْتَضِيًا لِتَوْبَتِهِمْ، فَدَلَّ عَلى أنَّهم ما تابُوا حَتّى تابَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ، والحُكْمُ يَنْتَفِي لِانْتِفاءِ عِلَّتِهِ. وَنَظِيرُ هَذا هِدايَتُهُ لِعَبْدِهِ قَبْلَ الِاهْتِداءِ، فَيَهْتَدِي بِهِدايَتِهِ، فَتُوجِبُ لَهُ تِلْكَ الهِدايَةُ هِدايَةً أُخْرى يُثِيبُهُ اللَّهُ بِها هِدايَةً عَلى هِدايَتِهِ، فَإنَّ مِن ثَوابِ الهُدى الهُدى بَعْدَهُ، كَما أنَّ مِن عُقُوبَةِ الضَّلالَةِ الضَّلالَةُ بَعْدَها، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهم هُدًى﴾ [محمد: ١٧] فَهَداهم أوْلًا فاهْتَدَوْا، فَزادَهم هُدًى ثانِيًا، وعَكْسُهُ في أهْلِ الزَّيْغِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] فَهَذِهِ الإزاغَةُ الثّانِيَةُ عُقُوبَةٌ لَهم عَلى زَيْغِهِمْ. وَهَذا القَدْرُ مِن سِرِّ اسْمَيْهِ الأوَّلِ والآخِرِ، فَهو المُعِدُّ، وهو المُمِدُّ، ومِنهُ السَّبَبُ والمُسَبَّبُ، وهو الَّذِي يُعِيذُ مِن نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، كَما قالَ أعْرَفُ الخَلْقِ بِهِ: «وَأعُوذُ بِكَ مِنكَ،» والعَبْدُ تَوّابٌ، واللَّهُ تَوّابٌ، فَتَوْبَةُ العَبْدِ رُجُوعُهُ إلى سَيِّدِهِ بَعْدَ الإباقِ، وتَوْبَةُ اللَّهِ نَوْعانِ: إذْنٌ وتَوْفِيقٌ، وقَبُولٌ وإمْدادٌ. * [فَصْلٌ مَبْدَأُ التَّوْبَةِ ومُنْتَهاها] والتَّوْبَةُ لَها مَبْدَأٌ ومُنْتَهًى، فَمَبْدَؤُها الرُّجُوعُ إلى اللَّهِ بِسُلُوكِ صِراطِهِ المُسْتَقِيمِ الَّذِي نَصَبَهُ لِعِبادِهِ، مُوصِلًا إلى رِضْوانِهِ، وأمَرَهم بِسُلُوكِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ [الأنعام: ١٥٣] وبِقَوْلِهِ: ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ [الشورى: ٥٢] وبِقَوْلِهِ: ﴿وَهُدُوا إلى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وهُدُوا إلى صِراطِ الحَمِيدِ﴾ [الحج: ٢٤]. وَنِهايَتُها الرُّجُوعُ إلَيْهِ في المَعادِ، وسُلُوكُ صِراطِهِ الَّذِي نَصَبَهُ مُوصِلًا إلى جَنَّتِهِ، فَمَن رَجَعَ إلى اللَّهِ في هَذِهِ الدّارِ بِالتَّوْبَةِ رَجَعَ إلَيْهِ في المَعادِ بِالثَّوابِ، وهَذا هو أحَدُ التَّأْوِيلاتِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وَمَن تابَ وعَمِلَ صالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلى اللَّهِ مَتابًا﴾ [الفرقان: ٧١] قالَ البَغَوِيُّ وغَيْرُهُ: يَتُوبُ إلى اللَّهِ مَتابًا يَعُودُ إلَيْهِ بَعْدَ المَوْتِ، مَتابًا حَسَنًا يُفَضَّلُ عَلى غَيْرِهِ فالتَّوْبَةُ الأُولى - وهي قَوْلُهُ: ومَن تابَ - رُجُوعٌ عَنِ الشِّرْكِ، والثّانِيَةُ: رُجُوعٌ إلى اللَّهِ لِلْجَزاءِ والمُكافَأةِ. والتَّأْوِيلُ الثّانِي: أنَّ الجَزاءَ مُتَضَمِّنٌ مَعْنى الأوامِرِ، والمَعْنى: ومَن عَزَمَ عَلى التَّوْبَةِ وأرادَها، فَلْيَجْعَلْ تَوْبَتَهُ إلى اللَّهِ وحْدَهُ، ولِوَجْهِهِ خالِصًا، لا لِغَيْرِهِ. التَّأْوِيلُ الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ لازِمُ هَذا المَعْنى، وهو إشْعارُ التّائِبِ وإعْلامُهُ بِمَن تابَ إلَيْهِ، ورَجَعَ إلَيْهِ، والمَعْنى: فَلْيَعْلَمْ تَوْبَتَهُ إلى مَن؟ ورُجُوعُهُ إلى مَن؟ فَإنَّها إلى اللَّهِ لا إلى غَيْرِهِ. وَنَظِيرُ هَذا - عَلى أحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ - قَوْلُهُ تَعالى ﴿ياأيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ﴾ [المائدة: ٦٧] أيِ اعْلَمْ ما يَتَرَتَّبُ عَلى مَن عَصى أوامِرَهُ ولَمْ يُبَلِّغْ رِسالَتَهُ. والتَّأْوِيلُ الرّابِعُ: أنَّ التَّوْبَةَ تَكُونُ أوَّلًا بِالقَصْدِ والعَزْمِ عَلى فِعْلِها، ثُمَّ إذا قَوِيَ العَزْمُ وصارَ جازِمًا وجَدَ بِهِ فِعْلَ التَّوْبَةِ، فالتَّوْبَةُ الأُولى بِالعَزْمِ والقَصْدِ لِفِعْلِها، والثّانِيَةُ بِنَفْسِ إيقاعِ التَّوْبَةِ وإيجادِها، والمَعْنى: فَمَن تابَ إلى اللَّهِ قَصْدًا ونِيَّةً وعَزْمًا، فَتَوْبَتُهُ إلى اللَّهِ عَمَلًا وفِعْلًا، وهَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ ﷺ «فَمَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ، ومَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها، أوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُها، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إلَيْهِ». * [فَصْلٌ: مَعْنى كَلِمَةِ (خُلِّفُوا) في الآيَةِ] وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ قَدْ فَسَّرَها كعب بِالصَّوابِ، وهو أنَّهم خُلِّفُوا مِن بَيْنِ مَن حَلَفَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، واعْتَذَرَ مِنَ المُتَخَلِّفِينَ، فَخَلَّفَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةَ عَنْهُمْ، وأرْجَأ أمْرَهم دُونَهُمْ، ولَيْسَ ذَلِكَ تَخَلُّفَهم عَنِ الغَزْوِ؛ لِأنَّهُ لَوْ أرادَ ذَلِكَ لَقالَ: تَخَلَّفُوا، كَما قالَ تَعالى: ﴿ما كانَ لِأهْلِ المَدِينَةِ ومَن حَوْلَهم مِنَ الأعْرابِ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١٢٠]، وذَلِكَ لِأنَّهم تَخَلَّفُوا بِأنْفُسِهِمْ، بِخِلافِ تَخْلِيفِهِمْ عَنْ أمْرِ المُتَخَلِّفِينَ سِواهُمْ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ هو الَّذِي خَلَّفَهم عَنْهُمْ، ولَمْ يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ بِأنْفُسِهِمْ. واللَّهُ أعْلَمُ. * (فصل) وقد قسم الله خلقه إلى قسمين لا ثالث لهما تائبين وظالمين فقال: ﴿وَمَن لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ وكذلك جعلهم قسمين معذبين وتائبين فمن لم يتب فهو معذب ولا بد قال تعالى: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والمُشْرِكِينَ والمُشْرِكاتِ ويَتُوبَ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ وأمر جميع المؤمنين من أولهم إلى آخرهم بالتوبة ولا يستثنى من ذلك أحد وعلق فلاحهم بها قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أيُّها المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ وعدد سبحانه من جملة نعمه على خير خلقه وأكرمهم عليه وأطوعهم له وأخشاهم له أن تاب عليه وعلى خواص أتباعه فقال: ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في ساعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهُمْ﴾ ثم كرر توبته عليهم فقال: ﴿ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ وقدم توبته عليهم على توبة الثلاثة الذين خلفوا، وأخبر سبحانه أن الجنة التي وعدها أهلها في التوراة والإنجيل أنها يدخلها التائبون فذكر عموم التائبين أولا ثم خص النبي والمهاجرين والأنصار بها ثم خص الثلاثة الذين خلفوا، فعلم بذلك احتياج جميع الخلق إلى توبته عليهم ومغفرته لهم وعفوه عنهم وقد قال تعالى لسيد ولد آدم وأحب خلقه إليه ﴿عفا الله عنك﴾ فهذا خبر منه وهو أصدق القائلين أو دعاء لرسوله بعفوه عنه وهو طلب من نفسه. وكان ﷺ يقول في سجوده أقرب ما يكون من ربه: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وقال لأطوع نساء الأمة وأفضلهن وخيرهن الصديقة بنت الصديق وقد قالت له: يا رسول الله لئن وافقت ليلة القدر فما أدعو به قال: "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" قال الترمذي حديث حسن صحيح. وهو سبحانه لمحبته للعفو والتوبة خلق خلقه على صفات وهيئات وأحوال تقتضي توبتهم إليه واستغفارهم وطلبهم عفوه ومغفرته وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" والله تعالى يحب التوابين والتوبة من أحب الطاعات إليه ويكفي في محبتها شدة فرحه بها كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني والله للهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلاة" وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود عن رسول الله ﷺ: "للهُ أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال أرجع إلى المكان الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده" وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير يرفعه إلى النبي ﷺ قال: "للهُ أشد فرحا بتوبة عبده من رجل حمل زاده ومزاده على بعير ثم سار حتى كان بفلاة فأدركته القائلة فنزل فقال تحت شجرة فغلبته عينه وانسل بعيره فاستيقظ فسعى شرفا فلم ير شيئا ثم سعى شرفا ثانيا ثم سعى شرفا ثالثا فلم ير شيئا فأقبل حتى أتى إلى مكانه الذي قال فيه فبينا هو قاعد فيه إذ جاء بعيره يمشي حتى وضع خطامه في يده" فالله أشد فرحا بتوبة العبد من هذا حين وجد بعيره. فتأمل محبته سبحانه لهذه الطاعة التي هي أصل الطاعات وأساسها فإن من زعم أن أحدا من الناس يستغني عنها ولا حاجة به إليها فقد جهل حق الربوبية ومرتبة العبودية وينتقص بمن أغناه بزعمه عن التوبة من حيث زعم أنه معظم له إذ عطله عن هذه الطاعة العظيمة التي هي من أجل الطاعات والقربة الشريفة التي هي من أجل القربات وقال لست من أهل هذه الطاعة ولا حاجة بك إليها فلا قدر الله حق قدره ولا قدر العبد حق قدره وقد جعل بعض عباده غنيا عن مغفرة الله وعفوه وتوبته إليه وزعم أنه لا يحتاج إلى ربه في ذلك. وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله ﷺ: "للهُ أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب عن أحدكم من رجل كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع وقد يئس من راحلته فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح" وأكمل الخلق أكملهم توبة وأكثرهم استغفارا. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" ولما سمع أبو هريرة هذا من النبي ﷺ كان يقول ما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد عنه: "إني لأستغفر الله في اليوم والليلة اثني عشر ألف مرة بقدر ديتي" ثم ساقه من طريق آخر وقال: "بقدر ذنبه" وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا محمد بن راشد عن مكحول عن رجل عن أبي هريرة قال: "ما جلست إلى أحد أكثر استغفارا من رسول الله ﷺ" قال الرجل: "وما جلست إلى أحد أكثر استغفارا من أبي هريرة" وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني أن رسول الله ﷺ قال: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" وفي السنن والمسند من حديث ابن عمر قال: "كنا نعد لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل ثنا يونس عن حميد بن هلال عن أبي بردة قال جلست إلى الشيخ من أصحاب رسول الله ﷺ في مسجد الكوفة فحدثني قال: سمعت رسول الله أو قال قال رسول الله ﷺ: "يا أيها الناس توبوا إلى الله عز وجل واستغفروه فإني أتوب إلى الله وأستغفره كل يوم مائة مرة" قال الإمام أحمد وثنا يحيى عن شعبة ثنا عمرو بن مرة قال سمعت أبا بردة قال سمعت الأغر يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم عز وجل فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة" وقال أحمد ثنا يزيد أنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن عائشة قالت كان النبي ﷺ يقول: "اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤا استغفروا" وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن النبي ﷺ كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير". وحقيقة الأمر أن العبد فقير إلى الله من كل وجه وبكل اعتبار، فهو فقير إليه من جهة ربوبيته له وإحسانه إليه وقيامه بمصالحه وتدبيره له وفقير إليه من جهة إلهيته وكونه معبوده وإلهه ومحبوبه الأعظم الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون أحب شيء إليه فيكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله ووالده وولده ومن الخلق كلهم وفقير إليه من جهة معافاته له من أنواع البلاء فإنه إن لم يعافيه منها هلك ببعضها وفقير إليه من جهة عفوه عنه ومغفرته له فإن لم يعف عن العبد ويغفر له فلا سبيل إلى النجاة فما نجى أحد إلا بعفو الله ولا دخل الجنة إلا برحمة الله وكثير من الناس ينظر إلى نفس ما يتاب منه فيراه نقصا ولا ينظر إلى كمال الغاية الحاصلة بالتوبة وأن العبد بعد التوبة النصوح خير منه قبل الذنب ولا ينظر إلى كمال الربوبية وتفرد الرب بالكمال وحده وأن لوازم البشرية لا ينفك منها البشر وأن التوبة غاية كل أحد من ولد آدم وكماله كما كانت هي غايته وكماله فليس للعبد كمال بدون التوبة ألبتة كما أنه ليس له انفكاك عن سببها فإنه سبحانه هو المتفرد المستأثر بالغنى والحمد من كل وجه وبكل اعتبار والعبد هو الفقير المحتاج إليه المضطر إليه بكل وجه وبكل اعتبار فرحمته للعبد خير له من عمله فإن عمله لا يستقل بنجاته ولا سعادته ولو وكل إلى عمله لم ينج به ألبتة فهذا بعض ما يتعلق بقوله ﷺ: "إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم" ومما يوضحه أن شكره سبحانه مستحق عليهم بجهة ربوبيته لهم وكونهم عبيده ومماليكه وذلك يوجب عليهم أن يعرفوه ويعظموه ويوحدوه ويتقربوا إليه تقرب العبد المحب الذي يتقلب في نعمه ولا غناء به عنه طرفة عين فهو يدأب في التقرب إليه بجهده ويستفرغ في ذلك وسعه وطاقته ولا يعدل به سواه في شيء من الأشياء ويؤثر رضا سيده على إرادته وهواه بل لا هوى له ولا إرادة إلا فيما يريد سيده ويحبه وهذا يستلزم علوما وأعمالا وإرادات وغرائم لا يعارضها غيرها ولا يبقى له معها التفات إلى غيره بوجه ومعلوم أن ما يطبع عليه البشر لا يفي بذلك وما يستحقه الرب تعالى لذاته وأنه أهل أن يعبد أعظم مما يستحقه لإحسانه فهو المستحق لنهاية العبادة والخضوع والذل لذاته ولإحسانه وإنعامه. وفي بعض الآثار "لو لم أخلق جنة ولا نارا لكنت أهلا أن أعبد" ولهذا يقول أعبد خلقه له يوم القيامة وهم الملائكة "سبحانك ما عبدناك حق عبادتك" فمن كرمه وجوده ورحمته أن رضي من عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يعبد به ويستحقه لذاته وإحسانه فلا نسبة للواقع منهم إلى ما يستحقه بوجه من الوجوه فلا يسعهم إلا عفوه وتجاوزه وهو سبحانه أعلم بعباده منهم بأنفسهم فلو عذبهم لعذبهم بما يعلمه منهم وإن لم يحيطوا به علما ولو عذبهم قبل أن يرسل رسله إليهم على أعمالهم لم يكن ظالما لهم كما أنه سبحانه لم يظلمهم بمقته لهم قبل إرسال رسوله على كفرهم وشركهم وقبائحهم فإنه سبحانه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ولكن أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه برسالته وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر نعمه ولا يقوم بذلك أحد كان حقه سبحانه على كل أحد وله المطالبة به وإن لم يغفر له ويرحمه وإلا عذبه فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه فإن لم يحفظهم هلكوا وإن لم يرزقهم هلكوا وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا ولهذا قال أبوهم آدم وأمهم حواء: ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ وهذا شأن ولده من بعده وقد قال موسى كليمه سبحانه: ﴿رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي﴾ وقال: ﴿سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ﴾ وقال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِأخِي وأدْخِلْنا في رَحْمَتِكَ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ وقال: ﴿أنْتَ ولِيُّنا فاغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ﴾ وقال خليله إبراهيم: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وتَقَبَّلْ دُعاءِ رَبَّنا اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسابُ﴾ وقال: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ إلى قوله: ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ وقال أول رسله إلى أهل الأرض: ﴿رَبِّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ وقال لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: ﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ وقال: ﴿إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَق﴾ إلى قوله: ﴿واسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ وقال: ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ وقد تقدم حديث ابن عباس في دعائه ﷺ: "رب أعني ولا تعن عليّ" وفيه "رب تقبل توبتي واغسل حوبتي" الحديث. * [فصل في اعْتِذارُ المُخَلَّفِينَ] «وَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ بَدَأ بِالمَسْجِدِ، فَصَلّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنّاسِ، فَجاءَهُ المُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ ويَحْلِفُونَ لَهُ، وكانُوا بِضْعَةً وثَمانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلانِيَتَهُمْ، وبايَعَهم واسْتَغْفَرَ لَهُمْ، ووَكَلَ سَرائِرَهم إلى اللَّهِ وجاءَهُ كَعْبُ بْنُ مالِكٍ، فَلَمّا سَلَّمَ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ، ثُمَّ قالَ لَهُ: تَعالَ، قالَ: فَجِئْتُ أمْشِي حَتّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقالَ لِي: ما خَلَّفَكَ، ألَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ " فَقُلْتُ: بَلى، إنِّي واللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِن أهْلِ الدُّنْيا لَرَأيْتُ أنْ أخْرُجَ مِن سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، ولَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، ولَكِنِّي واللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ إنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضى بِهِ عَلَيَّ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، ولَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إنِّي لَأرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ عَنِّي، واللَّهِ ما كانَ لِي مِن عُذْرٍ، واللَّهِ ما كُنْتُ قَطُّ أقْوى ولا أيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أمّا هَذا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ. فَقُمْتُ، وثارَ رِجالٌ مِن بَنِي سَلَمَةَ فاتَّبَعُونِي يُؤَنِّبُونِي، فَقالُوا لِي: واللَّهِ ما عَلِمْناكَ كُنْتَ أذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذا، ولَقَدْ عَجَزْتَ ألّا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِما اعْتَذَرَ إلَيْهِ المُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كانَ كافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفارُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَكَ، قالَ: فَواللَّهِ ما زالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتّى أرَدْتُ أنْ أرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذا مَعِي أحَدٌ؟ قالُوا: نَعَمْ رَجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُما مِثْلَ ما قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَن هُما؟ قالُوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صالِحَيْنِ شَهِدا بَدْرًا فِيهِما أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُما لِي وَنَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنا - أيُّها الثَّلاثَةُ - مِن بَيْنِ مَن تَخَلَّفَ عَنْهُ، فاجْتَنَبَنا النّاسُ وتَغَيَّرُوا لَنا، حَتّى تَنَكَّرَتْ لِيَ الأرْضُ، فَما هي بِالَّتِي أعْرِفُ، فَلَبِثْنا عَلى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأمّا صاحِبايَ فاسْتَكانا وقَعَدا في بُيُوتِهِما يَبْكِيانِ، وأمّا أنا فَكُنْتُ أشَبَّ القَوْمِ وأجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أخْرُجُ فَأشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ المُسْلِمِينَ، وأطُوفُ في الأسْواقِ، ولا يُكَلِّمُنِي أحَدٌ، وآتِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وهو في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَأقُولُ في نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ عَلَيَّ أمْ لا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنهُ فَأُسارِقُهُ النَّظَرَ، فَإذا أقْبَلْتُ عَلى صَلاتِي أقْبَلَ إلَيَّ، وإذا التَفَتُّ نَحْوَهُ أعْرَضَ عَنِّي، حَتّى إذا طالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِن جَفْوَةِ المُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتّى تَسَوَّرْتُ جِدارَ حائِطِ أبي قتادة، وهو ابْنُ عَمِّي، وأحَبُّ النّاسِ إلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَواللَّهِ ما رَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ، فَقُلْتُ: يا أبا قتادة، أنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ﷺ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَناشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَناشَدْتُهُ، فَقالَ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، فَفاضَتْ عَيْنايَ، وتَوَلَّيْتُ حَتّى تَسَوَّرْتُ الجِدارَ فَبَيْنا أنا أمْشِي بِسُوقِ المَدِينَةِ، إذا نَبَطِيٌّ مِن أنْباطِ الشّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعامِ يَبِيعُهُ بِالمَدِينَةِ يَقُولُ: مَن يَدُلُّ عَلى كَعْبِ بْنِ مالِكٍ، فَطَفِقَ النّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتّى إذا جاءَنِي دَفَعَ إلَيَّ كِتابًا مِن مَلِكِ غَسّانَ، فَإذا فِيهِ أمّا بَعْدُ: فَإنَّهُ بَلَغَنِي أنَّ صاحِبَكَ قَدْ جَفاكَ، ولَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدارِ هَوانٍ ولا مَضْيَعَةٍ، فالحَقْ بِنا نُواسِكَ، فَقُلْتُ لَمّا قَرَأْتُها: وهَذا أيْضًا مِنَ البَلاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِها التَّنُّورَ فَسَجَرْتُها، حَتّى إذا مَضَتْ أرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الخَمْسِينَ إذا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَأْتِينِي فَقالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُكَ أنْ تَعْتَزِلَ امْرَأتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُها أمْ ماذا؟ قالَ: لا، ولَكِنِ اعْتَزِلْها ولا تَقْرَبْها، وأرْسَلَ إلى صاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِامْرَأتِي: الحَقِي بِأهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهم حَتّى يَقْضِيَ اللَّهُ في هَذا الأمْرِ، فَجاءَتِ امْرَأةُ هلال بن أمية فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هلال بن أمية شَيْخٌ ضائِعٌ لَيْسَ لَهُ خادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أنْ أخْدُمَهُ؟ قالَ: لا، ولَكِنْ لا يَقْرَبُكِ، قالَتْ: إنَّهُ واللَّهِ ما بِهِ حَرَكَةٌ إلى شَيْءٍ، واللَّهِ ما زالَ يَبْكِي مُنْذُ كانَ مِن أمْرِهِ ما كانَ إلى يَوْمِهِ هَذا، قالَ كعب: فَقالَ لِي بَعْضُ أهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في امْرَأتِكَ كَما أذِنَ لِامْرَأةِ هلال بن أمية أنْ تَخْدُمَهُ، فَقُلْتُ: واللَّهِ لا أسْتَأْذِنُ فِيها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وما يُدْرِينِي ما يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيها وأنا رَجُلٌ شابٌّ، ولَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيالٍ حَتّى كَمُلَتْ لَنا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِن حِينِ نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ كَلامِنا، فَلَمّا صَلَّيْتُ صَلاةَ الفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلى سَطْحِ بَيْتٍ مِن بُيُوتِنا، بَيْنا أنا جالِسٌ عَلى الحالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى - قَدْ ضاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وضاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ - سَمِعْتُ صَوْتَ صارِخٍ أوْفى عَلى جَبَلٍ سَلْعٍ بِأعْلى صَوْتِهِ: يا كَعْبُ بْنَ مالِكٍ أبْشِرْ، فَخَرَرْتُ ساجِدًا، فَعَرَفْتُ أنْ قَدْ جاءَ فَرَجٌ مِنَ اللَّهِ، وآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنا حِينَ صَلّى الفَجْرَ، فَذَهَبَ النّاسُ يُبَشِّرُونَنا، وذَهَبَ قِبَلَ صاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، ورَكَضَ إلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا، وسَعى ساعٍ مِن أسْلَمَ فَأوْفى عَلى ذِرْوَةِ الجَبَلِ - وكانَ الصَّوْتُ أسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ - فَلَمّا جاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبِي فَكَسَوْتُهُ إيّاهُما بِبُشْراهُ، واللَّهِ ما أمْلِكُ غَيْرَهُما، واسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُما، فانْطَلَقْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَتَلَقّانِي النّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، قالَ كعب: حَتّى دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإذا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جالِسٌ في المَسْجِدِ حَوْلَهُ النّاسُ، فَقامَ إلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ، حَتّى صافَحَنِي وهَنَّأنِي، واللَّهِ ما قامَ إلَيَّ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرِينَ غَيْرُهُ، ولَسْتُ أنْساها لطلحة، فَلَمّا سَلَّمْتُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ - وهو يَبْرُقُ وجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ ـ: (أبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ ولَدَتْكَ أُمُّكَ، قالَ: قُلْتُ: أمِن عِنْدَكَ يا رَسُولَ اللَّهِ أمْ مِن عِنْدِ اللَّهِ؟ قالَ: " لا، بَلْ مِن عِنْدِ اللَّهِ)، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا سُرَّ اسْتَنارَ وجْهُهُ حَتّى كَأنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وكُنّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنهُ، فَلَمّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِن تَوْبَتِي أنْ أنْخَلِعَ مِن مالِي صَدَقَةً إلى اللَّهِ وإلى رَسُولِهِ، فَقالَ: أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مالِكَ فَهو خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: فَإنِّي أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ إنَّما نَجّانِي بِالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبَتِي ألّا أُحَدِّثَ إلّا صِدْقًا ما بَقِيتُ، فَواللَّهِ ما أعْلَمُ أحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ أبْلاهُ اللَّهُ في صِدْقِ الحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى يَوْمِي هَذا ما أبْلانِي، واللَّهِ ما تَعَمَّدْتُ بَعْدَ ذَلِكَ إلى يَوْمِي هَذا كَذِبًا، وإنِّي لَأرْجُوُ أنْ يَحْفَظَنِيَ اللَّهُ فِيما بَقِيتُ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى عَلى رَسُولِهِ: ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ﴾ [التوبة: ١١٧] إلى قَوْلِهِ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ﴾ [التوبة: ١١٩]، فَواللَّهِ ما أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ نِعْمَةً قَطُّ بَعْدَ أنْ هَدانِي لِلْإسْلامِ أعْظَمَ في نَفْسِي مِن صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، أنْ لا أكُونَ كَذَبْتُهُ فَأهْلِكَ كَما هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فَإنَّ اللَّهَ قالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أنْزَلَ الوَحْيَ شَرَّ ما قالَ لِأحَدٍ، قالَ: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكم إذا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٩٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ [التوبة: ٩٦] قالَ كعب: وكانَ تَخَلُّفُنا أيُّها الثَّلاثَةُ عَنْ أمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبايَعَهم واسْتَغْفَرَ لَهم وأرْجَأ أمْرَنا حَتّى قَضى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذَلِكَ قالَ اللَّهُ: ﴿وَعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ [التوبة: ١١٨] ولَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمّا خَلَّفَنا عَنِ الغَزْوِ، وإنَّما هو تَخْلِيفُهُ إيّانا وإرْجاؤُهُ أمْرَنا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ واعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَبِلَ مِنهُ» وَقالَ عُثْمانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيُّ: حَدَّثَنا عبد الله بن صالح، حَدَّثَنِي معاوية بن صالح، عَنْ علي بن أبي طلحة، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا﴾ [التوبة: ١٠٢] قالَ: كانُوا عَشَرَةَ رَهْطٍ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمّا حَضَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أوْثَقَ سَبْعَةٌ مِنهم أنْفُسَهم بِسَوارِي المَسْجِدِ، وكانَ يَمُرُّ النَّبِيُّ ﷺ إذا رَجَعَ في المَسْجِدِ عَلَيْهِمْ، فَلَمّا رَآهم قالَ: مَن هَؤُلاءِ المُوثِقُونَ أنْفُسَهم بِالسَّوارِي؟ قالُوا: هَذا أبو لبابة وأصْحابٌ لَهُ، تَخَلَّفُوا عَنْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ، أوْثَقُوا أنْفُسَهم حَتّى يُطْلِقَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ ويَعْذِرَهُمْ، قالَ: وأنا أُقْسِمُ بِاللَّهِ لا أُطْلِقُهم ولا أعْذِرُهم حَتّى يَكُونَ اللَّهُ هو الَّذِي يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا عَنِّي وتَخَلَّفُوا عَنِ الغَزْوِ مَعَ المُسْلِمِينَ، فَلَمّا بَلَغَهم ذَلِكَ قالُوا: ونَحْنُ لا نُطْلِقُ أنْفُسَنا حَتّى يَكُونَ اللَّهُ هو الَّذِي يُطْلِقُنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ وَعَسى مِنَ اللَّهِ واجِبٌ ﴿إنَّهُ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ٣٧] فَلَمّا نَزَلَتْ أرْسَلَ إلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ فَأطْلَقَهم وعَذَرَهُمْ، فَجاءُوا بِأمْوالِهِمْ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أمْوالُنا فَتَصَدَّقْ بِها عَنّا واسْتَغْفِرْ لَنا، قالَ: ما أُمِرْتُ أنْ آخُذَ أمْوالَكُمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها وصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٠٣ - ] يَقُولُ: اسْتَغْفِرْ لَهم ﴿إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ [التوبة: ١٠٣] فَأخَذَ مِنهُمُ الصَّدَقَةَ واسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وكانَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ لَمْ يُوثِقُوا أنْفُسَهم بِالسَّوارِي، فَأُرْجِئُوا لا يَدْرُونَ أيُعَذَّبُونَ أمْ يُتابُ عَلَيْهِمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ﴾ [التوبة: ١١٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿وَعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ [التوبة: ١١٨] إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة: ١١٨] تابَعَهُ عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ. * [فَصْلٌ: في الإشارَةِ إلى بَعْضِ ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الغَزْوَةُ مِنَ الفِقْهِ والفَوائِدِ] فَمِنها: جَوازُ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ إنْ كانَ خُرُوجُهُ في رَجَبٍ مَحْفُوظًا عَلى ما قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ، ولَكِنْ هاهُنا أمْرٌ آخَرُ، وهو أنَّ أهْلَ الكِتابِ لَمْ يَكُونُوا يُحَرِّمُونَ الشَّهْرَ الحَرامَ، بِخِلافِ العَرَبِ، فَإنَّها كانَتْ تُحَرِّمُهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ في نَسْخِ تَحْرِيمِ القِتالِ فِيهِ قَوْلَيْنِ وذَكَرْنا حُجَجَ الفَرِيقَيْنِ. وَمِنها: تَصْرِيحُ الإمامِ لِلرَّعِيَّةِ وإعْلامُهم بِالأمْرِ الَّذِي يَضُرُّهم سَتْرُهُ وإخْفاؤُهُ؛ لِيَتَأهَّبُوا لَهُ ويُعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، وجَوازُ سَتْرِ غَيْرِهِ عَنْهم والكِنايَةِ عَنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ وَمِنها: أنَّ الإمامَ إذا اسْتَنْفَرَ الجَيْشَ لَزِمَهُمُ النَّفِيرُ، ولَمْ يَجُزْ لِأحَدٍ التَّخَلُّفُ إلّا بِإذْنِهِ، ولا يُشْتَرَطُ في وُجُوبِ النَّفِيرِ تَعْيِينُ كُلِّ واحِدٍ مِنهم بِعَيْنِهِ، بَلْ مَتى اسْتَنْفَرَ الجَيْشَ لَزِمَ كُلَّ واحِدٍ مِنهُمُ الخُرُوجُ مَعَهُ، وهَذا أحَدُ المَواضِعِ الثَّلاثَةِ الَّتِي يَصِيرُ فِيها الجِهادُ فَرْضَ عَيْنٍ. والثّانِي: إذا حَضَرَ العَدُوُّ البَلَدَ. والثّالِثُ: إذا حَضَرَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. وَمِنها: وُجُوبُ الجِهادِ بِالمالِ كَما يَجِبُ بِالنَّفْسِ، وهَذا إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْ أحمد، وهي الصَّوابُ الَّذِي لا رَيْبَ فِيهِ، فَإنَّ الأمْرَ بِالجِهادِ بِالمالِ شَقِيقُ الأمْرِ بِالجِهادِ بِالنَّفْسِ في القُرْآنِ، وقَرِينُهُ - بَلْ جاءَ مُقَدَّمًا عَلى الجِهادِ بِالنَّفْسِ - في كُلِّ مَوْضِعٍ إلّا مَوْضِعًا واحِدًا، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الجِهادَ بِهِ أهَمُّ وآكَدُ مِنَ الجِهادِ بِالنَّفْسِ، ولا رَيْبَ أنَّهُ أحَدُ الجِهادَيْنِ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَن جَهَّزَ غازِيًا فَقَدْ غَزا» فَيَجِبُ عَلى القادِرِ عَلَيْهِ كَما يَجِبُ عَلى القادِرِ بِالبَدَنِ، ولا يَتِمُّ الجِهادُ بِالبَدَنِ إلّا بِبَذْلِهِ، ولا يَنْتَصِرُ إلّا بِالعَدَدِ والعُدَدِ، فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ أنْ يُكْثِرَ العَدَدَ وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَمُدَّ بِالمالِ والعُدَّةِ، وإذا وجَبَ الحَجُّ بِالمالِ عَلى العاجِزِ بِالبَدَنِ فَوُجُوبُ الجِهادِ بِالمالِ أوْلى وأحْرى وَمِنها: ما بَرَزَ بِهِ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ مِنَ النَّفَقَةِ العَظِيمَةِ في هَذِهِ الغَزْوَةِ، وسَبَقَ بِهِ النّاسَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يا عثمان ما أسْرَرْتَ وما أعْلَنْتَ، وما أخْفَيْتَ وما أبْدَيْتَ، ثُمَّ قالَ: ما ضَرَّ عثمان ما فَعَلَ بَعْدَ اليَوْمِ» وكانَ قَدْ أنْفَقَ ألْفَ دِينارٍ وثَلاثَمِائَةِ بَعِيرٍ بِعُدَّتِها وأحْلاسِها وأقْتابِها وَمِنها: أنَّ العاجِزَ بِمالِهِ لا يُعْذَرُ حَتّى يَبْذُلَ جُهْدَهُ ويَتَحَقَّقَ عَجْزُهُ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ إنَّما نَفى الحَرَجَ عَنْ هَؤُلاءِ العاجِزِينَ بَعْدَ أنْ أتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِيَحْمِلَهم فَقالَ: ﴿لا أجِدُ ما أحْمِلُكم عَلَيْهِ﴾ [التوبة: ٩٢] فَرَجَعُوا يَبْكُونَ لِما فاتَهم مِنَ الجِهادِ، فَهَذا العاجِزُ الَّذِي لا حَرَجَ عَلَيْهِ وَمِنها: اسْتِخْلافُ الإمامِ إذا سافَرَ رَجُلًا مِنَ الرَّعِيَّةِ عَلى الضُّعَفاءِ والمَعْذُورِينَ والنِّساءِ والذُّرِّيَّةِ، ويَكُونُ نائِبُهُ مِنَ المُجاهِدِينَ؛ لِأنَّهُ مِن أكْبَرِ العَوْنِ لَهُمْ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْتَخْلِفُ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ فاسْتَخْلَفَهُ بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً وَأمّا في غَزْوَةِ تَبُوكَ فالمَعْرُوفُ عِنْدَ أهْلِ الأثَرِ أنَّهُ اسْتَخْلَفَ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ كَما في " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ قالَ: «خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ تُخَلِّفُنِي مَعَ النِّساءِ والصِّبْيانِ؟ فَقالَ: أما تَرْضى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هارُونَ مِن مُوسى، غَيْرَ أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي» ولَكِنَّ هَذِهِ كانَتْ خِلافَةً خاصَّةً عَلى أهْلِهِ ﷺ، وأمّا الِاسْتِخْلافُ العامُّ فَكانَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الأنْصارِيِّ، ويَدُلُّ عَلى هَذا أنَّ المُنافِقِينَ لَمّا أرْجَفُوا بِهِ وقالُوا: خَلَّفَهُ اسْتِثْقالًا أخَذَ سِلاحَهُ ثُمَّ لَحِقَ بِالنَّبِيِّ ﷺ فَأخْبَرَهُ، فَقالَ: «كَذَبُوا، ولَكِنْ خَلَّفْتُكَ لِما تَرَكْتُ ورائِي، فارْجِعْ فاخْلُفْنِي في أهْلِي وأهْلِكَ» وَمِنها: جَوازُ الخَرْصِ لِلرُّطَبِ عَلى رُءُوسِ النَّخْلِ، وأنَّهُ مِنَ الشَّرْعِ، والعَمَلِ بِقَوْلِ الخارِصِ، وقَدْ تَقَدَّمَ في غَزاةِ خَيْبَرَ، وأنَّ الإمامَ يَجُوزُ أنْ يَخْرِصَ بِنَفْسِهِ كَما خَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَدِيقَةَ المَرْأةِ وَمِنها: أنَّ الماءَ الَّذِي بِآبارِ ثَمُودَ لا يَجُوزُ شُرْبُهُ، ولا الطَّبْخُ مِنهُ، ولا العَجِينُ بِهِ، ولا الطَّهارَةُ بِهِ، ويَجُوزُ أنْ يُسْقى البَهائِمَ إلّا ما كانَ مِن بِئْرِ النّاقَةِ، وكانَتْ مَعْلُومَةً باقِيَةً إلى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ عِلْمُ النّاسِ بِها قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ إلى وقْتِنا هَذا، فَلا يَرِدُ الرُّكُوبُ بِئْرًا غَيْرَها، وهي مَطْوِيَّةٌ مُحْكَمَةُ البِناءِ واسِعَةُ الأرْجاءِ، آثارُ العِتْقِ عَلَيْها بادِيَةٌ، لا تَشْتَبِهُ بِغَيْرِها وَمِنها: أنَّ مَن مَرَّ بِدِيارِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والمُعَذَّبِينَ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَدْخُلَها ولا يُقِيمَ بِها، بَلْ يُسْرِعُ السَّيْرَ ويَتَقَنَّعُ بِثَوْبِهِ حَتّى يُجاوِزَها، ولا يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ إلّا باكِيًا مُعْتَبِرًا وَمِن هَذا إسْراعُ النَّبِيِّ ﷺ السَّيْرَ في وادِي مُحَسِّرٍ بَيْنَ مِنًى وعَرَفَةَ، فَإنَّهُ المَكانُ الَّذِي أهْلَكَ اللَّهُ فِيهِ الفِيلَ وأصْحابَهُ وَمِنها: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ في السَّفَرِ، وقَدْ جاءَ جَمْعُ التَّقْدِيمِ في هَذِهِ القِصَّةِ في حَدِيثِ معاذ كَما تَقَدَّمَ، وذَكَرْنا عِلَّةَ الحَدِيثِ ومَن أنْكَرَهُ، ولَمْ يَجِئْ جَمْعُ التَّقْدِيمِ عَنْهُ في سَفَرٍ إلّا هَذا، وصَحَّ عَنْهُ جَمْعُ التَّقْدِيمِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ دُخُولِهِ إلى عَرَفَةَ، فَإنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ والعَصْرِ في وقْتِ الظُّهْرِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ لِأجْلِ النُّسُكِ كَما قالَ أبو حنيفة، وقِيلَ: لِأجْلِ السَّفَرِ الطَّوِيلِ، كَما قالَهُ الشّافِعِيُّ وأحمد، وقِيلَ: لِأجْلِ الشُّغْلِ وهو اشْتِغالُهُ بِالوُقُوفِ واتِّصالُهُ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ، قالَ أحمد: يَجْمَعُ لِلشُّغْلِ، وهو قَوْلُ جَماعَةٍ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ، وقَدْ تَقَدَّمَ وَمِنها: جَوازُ التَّيَمُّمِ بِالرَّمْلِ، فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ وأصْحابَهُ قَطَعُوا الرِّمالَ الَّتِي بَيْنَ المَدِينَةِ وتَبُوكَ ولَمْ يَحْمِلُوا مَعَهم تُرابًا بِلا شَكٍّ، وتِلْكَ مَفاوِزُ مُعْطِشَةٌ شَكَوْا فِيها العَطَشَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقَطْعًا كانُوا يَتَيَمَّمُونَ بِالأرْضِ الَّتِي هم فِيها نازِلُونَ، هَذا كُلُّهُ مِمّا لا شَكَّ فِيهِ، مَعَ قَوْلِهِ ﷺ: «فَحَيْثُما أدْرَكَتْ رَجُلًا مِن أُمَّتِي الصَّلاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وطَهُورُهُ» وَمِنها: «أنَّهُ ﷺ أقامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلاةَ» ولَمْ يَقُلْ لِلْأُمَّةِ: لا يَقْصُرُ الرَّجُلُ الصَّلاةَ إذا أقامَ أكْثَرَ مِن ذَلِكَ، ولَكِنِ اتَّفَقَتْ إقامَتُهُ هَذِهِ المُدَّةَ وهَذِهِ الإقامَةُ في حالِ السَّفَرِ لا تَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ، سَواءٌ طالَتْ أوْ قَصُرَتْ إذا كانَ غَيْرَ مُسْتَوْطِنٍ ولا عازِمٍ عَلى الإقامَةِ بِذَلِكَ المَوْضِعِ وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ والخَلَفُ في ذَلِكَ اخْتِلافًا كَثِيرًا. وَمِنها: قَوْلُهُ ﷺ: «ما أنا حَمَلْتُكم ولَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ» قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الجَبْرِيُّ، ولا مُتَعَلِّقَ لَهُ بِهِ، وإنَّما هَذا مِثْلُ قَوْلِهِ: «واللَّهِ لا أُعْطِي أحَدًا شَيْئًا ولا أمْنَعُ، وإنَّما أنا قاسِمٌ أضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» فَإنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ، إنَّما يَتَصَرَّفُ بِالأمْرِ، فَإذا أمَرَهُ رَبُّهُ بِشَيْءٍ نَفَّذَهُ، فاللَّهُ هو المُعْطِي والمانِعُ والحامِلُ، والرَّسُولُ مُنَفِّذٌ لِما أمَرَ بِهِ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ [الأنفال: ١٧] فالمُرادُ بِهِ القَبْضَةُ مِنَ الحَصْباءِ الَّتِي رَمى بِها وُجُوهَ المُشْرِكِينَ فَوَصَلَتْ إلى عُيُونِ جَمِيعِهِمْ، فَأثْبَتَ اللَّهُ سُبْحانَهُ لَهُ الرَّمْيَ بِاعْتِبارِ النَّبْذِ والإلْقاءِ، فَإنَّهُ فَعَلَهُ، ونَفاهُ عَنْهُ بِاعْتِبارِ الإيصالِ إلى جَمِيعِ المُشْرِكِينَ، وهَذا فِعْلُ الرَّبِّ تَعالى لا تَصِلُ إلَيْهِ قُدْرَةُ العَبْدِ، والرَّمْيُ يُطْلَقُ عَلى الخَذْفِ، وهو مَبْدَؤُهُ، وعَلى الإيصالِ، وهو نِهايَتُهُ * [فصل تَرْكُهُ ﷺ قَتْلَ المُنافِقِينَ] * فَصْلٌ وَمِنها: تَرْكُهُ قَتْلَ المُنافِقِينَ، وقَدْ بَلَغَهُ عَنْهُمُ الكُفْرُ الصَّرِيحُ، فاحْتَجَّ بِهِ مَن قالَ: لا يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ إذا أظْهَرَ التَّوْبَةَ؛ لِأنَّهم حَلَفُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهم ما قالُوا، وهَذا إذا لَمْ يَكُنْ إنْكارًا فَهو تَوْبَةٌ وإقْلاعٌ، وقَدْ قالَ أصْحابُنا وغَيْرُهُمْ: ومَن شُهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ فَشَهِدَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ لَمْ يَكْشِفْ عَنْ شَيْءٍ عَنْهُ بَعْدُ، وقالَ بَعْضُ الفُقَهاءِ: إذا جَحَدَ الرِّدَّةَ كَفاهُ جَحْدُها، ومَن لَمْ يَقْبَلْ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ قالَ: هَؤُلاءِ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ بَيِّنَةٌ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ لا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمِهِ، والَّذِي بَلَّغَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْهم قَوْلَهم لَمْ يُبَلِّغْهم إيّاهُ نِصابُ البَيِّنَةِ، بَلْ شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِمْ واحِدٌ فَقَطْ، كَما شَهِدَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ وحْدَهُ عَلى عبد الله بن أبي، وكَذَلِكَ غَيْرُهُ أيْضًا إنَّما شَهِدَ عَلَيْهِ واحِدٌ وَفِي هَذا الجَوابِ نَظَرٌ، فَإنَّ نِفاقَ عبد الله بن أبي وأقْوالَهُ في النِّفاقِ كانَتْ كَثِيرَةً جِدًّا كالمُتَواتِرَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ، وبَعْضُهم أقَرَّ بِلِسانِهِ وقالَ: إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ، وقَدْ واجَهَهُ بَعْضُ الخَوارِجِ في وجْهِهِ بِقَوْلِهِ: إنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ، والنَّبِيُّ ﷺ لَمّا قِيلَ لَهُ: ألا تَقْتُلُهُمْ؟ لَمْ يَقُلْ: ما قامَتْ عَلَيْهِمْ بَيِّنَةٌ، بَلْ قالَ: لا يَتَحَدَّثُ النّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصْحابَهُ فالجَوابُ الصَّحِيحُ إذَنْ، أنَّهُ كانَ في تَرْكِ قَتْلِهِمْ في حَياةِ النَّبِيِّ ﷺ مَصْلَحَةٌ تَتَضَمَّنُ تَأْلِيفَ القُلُوبِ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وجَمْعَ كَلِمَةِ النّاسِ عَلَيْهِ، وكانَ في قَتْلِهِمْ تَنْفِيرٌ، والإسْلامُ بَعْدُ في غُرْبَةٍ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ أحْرَصُ شَيْءٍ عَلى تَأْلِيفِ النّاسِ، وأتْرَكُ شَيْءٍ لِما يُنَفِّرُهم عَنِ الدُّخُولِ في طاعَتِهِ، وهَذا أمْرٌ كانَ يَخْتَصُّ بِحالِ حَياتِهِ ﷺ، وكَذَلِكَ تَرْكُ قَتْلِ مَن طَعَنَ عَلَيْهِ في حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ في قِصَّةِ الزبير وخَصْمِهِ: أنْ كانَ ابْنَ عَمَّتِكَ وَفِي قَسْمِهِ بِقَوْلِهِ: إنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بِها وجْهُ اللَّهِ، وقَوْلُ الآخَرِ لَهُ: إنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ، فَإنَّ هَذا مَحْضُ حَقِّهِ، لَهُ أنْ يَسْتَوْفِيَهِ، ولَهُ أنْ يَتْرُكَهُ، ولَيْسَ لِلْأُمَّةِ بَعْدَهُ تَرْكُ اسْتِيفاءِ حَقِّهِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمُ اسْتِيفاؤُهُ، ولا بُدَّ ولِتَقْرِيرِ هَذِهِ المَسائِلِ مَوْضِعٌ آخَرُ، والغَرَضُ التَّنْبِيهُ والإشارَةُ * [فصل في إذا أحْدَثَ أحَدٌ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ حَدَثًا فِيهِ ضَرَرٌ عَلى المُسْلِمِينَ انْتَقَضَ عَهْدُهُ] * فَصْلٌ وَمِنها: أنَّ أهْلَ العَهْدِ والذِّمَّةِ إذا أحْدَثَ أحَدٌ مِنهم حَدَثًا فِيهِ ضَرَرٌ عَلى الإسْلامِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ في مالِهِ ونَفْسِهِ، وأنَّهُ إذا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الإمامُ فَدَمُهُ ومالُهُ هَدْرٌ، وهو لِمَن أخَذَهُ، كَما قالَ في صُلْحِ أهْلِ أيْلَةَ: فَمَن أحْدَثَ مِنهم حَدَثًا فَإنَّهُ لا يَحُولُ مالُهُ دُونَ نَفْسِهِ، وهو لِمَن أخَذَهُ مِنَ النّاسِ، وهَذا لِأنَّهُ بِالأحْداثِ صارَ مُحارَبًا حُكْمُهُ حُكْمُ أهْلِ الحَرْبِ * [فصل في جَوازُ الدَّفْنِ لَيْلًا] * فَصْلٌ وَمِنها: جَوازُ الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ كَما دَفَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذا البجادين لَيْلًا. وَقَدْ سُئِلَ أحمد عَنْهُ فَقالَ: وما بَأْسٌ بِذَلِكَ، وقالَ: أبو بكر دُفِنَ لَيْلًا، وعلي دَفَنَ فاطمة لَيْلًا، وقالَتْ عائشة: (سَمِعْنا صَوْتَ المَساحِي مِن آخِرِ اللَّيْلِ في دَفْنِ النَّبِيِّ ﷺ. انْتَهى. ودُفِنَ عثمان وعائشة وابْنُ مَسْعُودٍ لَيْلًا وَفِي الترمذي عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا فَأُسْرِجَ لَهُ سِراجٌ فَأخَذَهُ مِن قِبَلِ القِبْلَةِ، وقالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، إنْ كُنْتَ لَأوّاهًا تَلّاءً لِلْقُرْآنِ» قالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي البُخارِيِّ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَألَ عَنْ رَجُلٍ، فَقالَ: مَن هَذا؟ قالُوا: فُلانٌ دُفِنَ البارِحَةَ، فَصَلّى عَلَيْهِ» فَإنْ قِيلَ: فَما تَصْنَعُونَ بِما رَواهُ مسلم في " صَحِيحِهِ " «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَبَ يَوْمًا، فَذَكَرَ رَجُلًا مِن أصْحابِهِ قُبِضَ فَكُفِّنَ في كَفَنٍ غَيْرِ طائِلٍ وقُبِرَ لَيْلًا، فَزَجَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ حَتّى يُصَلّى عَلَيْهِ، إلّا أنْ يَضْطَرَّ إنْسانٌ إلى ذَلِكَ» قالَ الإمامُ أحْمَدُ: إلَيْهِ أذْهَبُ قِيلَ: نَقُولُ بِالحَدِيثَيْنِ بِحَمْدِ اللَّهِ، ولا نَرُدُّ أحَدَهُما بِالآخَرِ، فَنَكْرَهُ الدَّفْنَ بِاللَّيْلِ، بَلْ نَزْجُرُ عَنْهُ، إلّا لِضَرُورَةٍ أوْ مَصْلَحَةٍ راجِحَةٍ، كَمَيِّتٍ ماتَ مَعَ المُسافِرِينَ بِاللَّيْلِ ويَتَضَرَّرُونَ بِالإقامَةِ بِهِ إلى النَّهارِ، وكَما إذا خِيفَ عَلى المَيِّتِ الِانْفِجارَ ونَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الأسْبابِ المُرَجِّحَةِ لِلدَّفْنِ لَيْلًا. وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. * [فصل في ثَوابُ مَن حَبَسَهُ العُذْرُ] * فَصْلٌ وَمِنها: قَوْلُهُ ﷺ: «إنَّ بِالمَدِينَةِ أقْوامًا ما سِرْتُمْ مَسِيرًا ولا قَطَعْتُمْ وادِيًا إلّا كانُوا مَعَكُمْ»، فَهَذِهِ المَعِيَّةُ هي بِقُلُوبِهِمْ وهِمَمِهِمْ، لا كَما يَظُنُّهُ طائِفَةٌ مِنَ الجُهّالِ أنَّهم مَعَهم بِأبْدانِهِمْ، فَهَذا مُحالٌ؛ لِأنَّهم قالُوا لَهُ: وهم بِالمَدِينَةِ؟ قالَ: (وَهم بِالمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ العُذْرُ) وكانُوا مَعَهُ بِأرْواحِهِمْ وبِدارِ الهِجْرَةِ بِأشْباحِهِمْ، وهَذا مِنَ الجِهادِ بِالقَلْبِ، وهو أحَدُ مَراتِبِهِ الأرْبَعِ، وهِيَ: القَلْبُ واللِّسانُ والمالُ والبَدَنُ، وفي الحَدِيثِ: «جاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِألْسِنَتِكم وقُلُوبِكم وأمْوالِكُمْ» * [فصل في تَحْرِيقُ أمْكِنَةِ المَعْصِيَةِ وهَدْمُها] * فَصْلٌ وَمِنها: تَحْرِيقُ أمْكِنَةِ المَعْصِيَةِ الَّتِي يُعْصى اللَّهُ ورَسُولُهُ فِيها وهَدْمُها، كَما حَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَسْجِدَ الضِّرارِ وأمَرَ بِهَدْمِهِ، وهو مَسْجِدٌ يُصَلّى فِيهِ ويُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ فِيهِ؛ لَمّا كانَ بِناؤُهُ ضِرارًا وتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ ومَأْوًى لِلْمُنافِقِينَ، وكُلُّ مَكانٍ هَذا شَأْنُهُ فَواجِبٌ عَلى الإمامِ تَعْطِيلُهُ، إمّا بِهَدْمٍ وتَحْرِيقٍ، وإمّا بِتَغْيِيرِ صُورَتِهِ وإخْراجِهِ عَمّا وُضِعَ لَهُ، وإذا كانَ هَذا شَأْنَ مَسْجِدِ الضِّرارِ فَمَشاهِدُ الشِّرْكِ الَّتِي تَدْعُو سَدَنَتُها إلى اتِّخاذِ مَن فِيها أنْدادًا مِن دُونِ اللَّهِ أحَقُّ بِالهَدْمِ وأوْجَبُ، وكَذَلِكَ مَحالُّ المَعاصِي والفُسُوقِ كالحاناتِ وبُيُوتِ الخَمّارِينَ وأرْبابِ المُنْكَراتِ وَقَدْ حَرَقَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ قَرْيَةً بِكَمالِها يُباعُ فِيها الخَمْرُ، وحَرَقَ حانُوتَ رويشد الثقفي وسَمّاهُ فُوَيْسِقًا، وحَرَقَ قَصْرَ سعد عَلَيْهِ لَمّا احْتَجَبَ فِيهِ عَنِ الرَّعِيَّةِ. وهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتَحْرِيقِ بُيُوتِ تارِكِي حُضُورِ الجَماعَةِ والجُمُعَةِ. وَمِنها: جَوازُ إنْشادِ الشِّعْرِ لِلْقادِمِ فَرَحًا وسُرُورًا بِهِ، ما لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مُحَرَّمٌ مِن لَهْوٍ كَمِزْمارٍ وشَبّابَةٍ وعُودٍ، ولَمْ يَكُنْ غِناءً يَتَضَمَّنْ رُقْيَةَ الفَواحِشِ وما حَرَّمَ اللَّهُ، فَهَذا لا يُحَرِّمُهُ أحَدٌ، وتَعَلُّقُ أرْبابِ السَّماعِ الفِسْقِيِّ بِهِ، كَتَعَلُّقِ مَن يَسْتَحِلُّ شُرْبَ الخَمْرِ المُسْكِرِ قِياسًا عَلى أكْلِ العِنَبِ وشُرْبِ العَصِيرِ الَّذِي لا يُسْكِرُ، ونَحْوِ هَذا مِنَ القِياساتِ الَّتِي تُشْبِهُ قِياسَ الَّذِينَ قالُوا: ﴿إنَّما البَيْعُ مِثْلُ الرِّبا﴾ [البقرة: ٢٧٥] وَمِنها: اسْتِماعُ النَّبِيِّ ﷺ مَدْحَ المادِحِينَ لَهُ وتَرْكُ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ، ولا يَصِحُّ قِياسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ في هَذا؛ لِما بَيْنَ المادِحِينَ والمَمْدُوحِينَ مِنَ الفُرُوقِ، وقَدْ قالَ: «احْثُوا في وُجُوهِ المَدّاحِينَ التُّرابَ» ومِنها: ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا مِنَ الحِكَمِ والفَوائِدِ الجَمَّةِ، فَنُشِيرُ إلى بَعْضِها: فَمِنها: جَوازُ إخْبارِ الرَّجُلِ عَنْ تَفْرِيطِهِ وتَقْصِيرِهِ في طاعَةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، وعَنْ سَبَبِ ذَلِكَ، وما آلَ إلَيْهِ أمْرُهُ، وفي ذَلِكَ مِنَ التَّحْذِيرِ والنَّصِيحَةِ وبَيانِ طُرُقِ الخَيْرِ والشَّرِّ وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْها، ما هو مِن أهَمِّ الأُمُورِ وَمِنها: جَوازُ مَدْحِ الإنْسانِ نَفْسَهُ بِما فِيهِ مِنَ الخَيْرِ إذا لَمْ يَكُنْ عَلى سَبِيلِ الفَخْرِ والتَّرَفُّعِ. وَمِنها: تَسْلِيَةُ الإنْسانِ نَفْسَهُ عَمّا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ مِنَ الخَيْرِ بِما قُدِّرَ لَهُ مِن نَظِيرِهِ أوْ خَيْرٍ مِنهُ وَمِنها: أنَّ بَيْعَةَ العَقَبَةِ كانَتْ مِن أفْضَلِ مَشاهِدِ الصَّحابَةِ، حَتّى إنَّ كعبا كانَ لا يَراها دُونَ مَشْهَدِ بَدْرٍ وَمِنها: أنَّ الإمامَ إذا رَأى المَصْلَحَةَ في أنْ يَسْتُرَ عَنْ رَعِيَّتِهِ بَعْضَ ما يَهُمُّ بِهِ ويَقْصِدُهُ مِنَ العَدُوِّ ويُوَرِّي بِهِ عَنْهُ اسْتُحِبَّ لَهُ ذَلِكَ أوْ يَتَعَيَّنُ بِحَسَبِ المَصْلَحَةِ وَمِنها: أنَّ السَّتْرَ والكِتْمانَ إذا تَضَمَّنَ مَفْسَدَةً لَمْ يَجُزْ وَمِنها: أنَّ الجَيْشَ في حَياةِ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يَكُنْ لَهم دِيوانٌ وأوَّلُ مَن دَوَّنَ الدِّيوانَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهَذا مِن سُنَّتِهِ الَّتِي أمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِاتِّباعِها، وظَهَرَتْ مَصْلَحَتُها وحاجَةُ المُسْلِمِينَ إلَيْها وَمِنها: أنَّ الرَّجُلَ إذا حَضَرَتْ لَهُ فُرْصَةُ القُرْبَةِ والطّاعَةِ فالحَزْمُ كُلُّ الحَزْمِ في انْتِهازِها والمُبادَرَةِ إلَيْها، والعَجْزُ في تَأْخِيرِها والتَّسْوِيفِ بِها، ولا سِيَّما إذا لَمْ يَثِقْ بِقُدْرَتِهِ وتَمَكُّنِهِ مِن أسْبابِ تَحْصِيلِها، فَإنَّ العَزائِمَ والهِمَمَ سَرِيعَةُ الِانْتِقاضِ قَلَّما ثَبَتَتْ، واللَّهُ سُبْحانَهُ يُعاقِبُ مَن فَتَحَ لَهُ بابًا مِنَ الخَيْرِ فَلَمْ يَنْتَهِزْهُ، بِأنْ يَحُولَ بَيْنَ قَلْبِهِ وإرادَتِهِ، فَلا يُمْكِنُهُ بَعْدُ مِن إرادَتِهِ عُقُوبَةً لَهُ، فَمَن لَمْ يَسْتَجِبْ لِلَّهِ ورَسُولِهِ إذا دَعاهُ حالَ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَلْبِهِ وإرادَتِهِ، فَلا يُمْكِنُهُ الِاسْتِجابَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، قالَ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكم لِما يُحْيِيكم واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: ٢٤] وقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِهَذا في قَوْلِهِ: ﴿وَنُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ١١٠] وقالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥]، وقالَ: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهم حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُونَ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٥] وهو كَثِيرٌ في القُرْآنِ وَمِنها: أنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلّا أحَدُ رِجالٍ ثَلاثَةٍ؛ إمّا مَغْمُوصٌ عَلَيْهِ في النِّفاقِ أوْ رَجُلٌ مِن أهْلِ الأعْذارِ، أوْ مَن خَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ واسْتَعْمَلَهُ عَلى المَدِينَةِ، أوْ خَلَّفَهُ لِمَصْلَحَةٍ وَمِنها: أنَّ الإمامَ والمُطاعَ لا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يُهْمِلَ مَن تَخَلَّفَ عَنْهُ في بَعْضِ الأُمُورِ، بَلْ يُذَكِّرُهُ لِيُراجِعَ الطّاعَةَ ويَتُوبَ، فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ بِتَبُوكَ: ما فَعَلَ كعب؟ ولَمْ يَذْكُرْ سِواهُ مِنَ المُخَلَّفِينَ اسْتِصْلاحًا لَهُ ومُراعاةً، وإهْمالًا لِلْقَوْمِ المُنافِقِينَ وَمِنها: جَوازُ الطَّعْنِ في الرَّجُلِ بِما يَغْلِبُ عَلى اجْتِهادِ الطّاعِنِ حَمِيَّةً أوْ ذَبًّا عَنِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، ومِن هَذا طَعْنُ أهْلِ الحَدِيثِ فِيمَن طَعَنُوا فِيهِ مِنَ الرُّواةِ، ومِن هَذا طَعْنُ ورَثَةِ الأنْبِياءِ وأهْلِ السُّنَّةِ في أهْلِ الأهْواءِ والبِدَعِ لِلَّهِ لا لِحُظُوظِهِمْ وأغْراضِهِمْ وَمِنها: جَوازُ الرَّدِّ عَلى الطّاعِنِ إذا غَلَبَ عَلى ظَنِّ الرّادِّ أنَّهُ وهْمٌ وغَلَطٌ، كَما قالَ معاذ لِلَّذِي طَعَنَ في كعب: بِئْسَ ما قُلْتَ، واللَّهِ يا رَسُولَ اللَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ إلّا خَيْرًا، ولَمْ يُنْكِرْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى واحِدٍ مِنهُما وَمِنها: أنَّ السُّنَّةَ لِلْقادِمِ مِنَ السَّفَرِ أنْ يَدْخُلَ البَلَدَ عَلى وُضُوءٍ وأنْ يَبْدَأ بِبَيْتِ اللَّهِ قَبْلَ بَيْتِهِ، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَجْلِسُ لِلْمُسَلِّمِينَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ إلى أهْلِهِ وَمِنها: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يَقْبَلُ عَلانِيَةَ مَن أظْهَرَ الإسْلامَ مِنَ المُنافِقِينَ، ويَكِلُ سَرِيرَتَهُ إلى اللَّهِ، ويُجْرِي عَلَيْهِ حُكْمَ الظّاهِرِ، ولا يُعاقِبُهُ بِما لَمْ يَعْلَمْ مِن سِرِّهِ وَمِنها: تَرْكُ الإمامِ والحاكِمِ رَدَّ السَّلامِ عَلى مَن أحْدَثَ حَدَثًا؛ تَأْدِيبًا لَهُ وزَجْرًا لِغَيْرِهِ، فَإنَّهُ ﷺ لَمْ يُنْقَلْ أنَّهُ رَدَّ عَلى كعب، بَلْ قابَلَ سَلامَهُ بِتَبَسُّمِ المُغْضَبِ وَمِنها: أنَّ التَّبَسُّمَ قَدْ يَكُونُ عَنِ الغَضَبِ كَما يَكُونُ عَنِ التَّعَجُّبِ والسُّرُورِ، فَإنَّ كُلًّا مِنهُما يُوجِبُ انْبِساطَ دَمِ القَلْبِ وثَوَرانَهُ، ولِهَذا تَظْهَرُ حُمْرَةُ الوَجْهِ لِسُرْعَةِ ثَوَرانِ الدَّمِ فِيهِ، فَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ السُّرُورُ، والغَضَبُ تَعَجُّبٌ يَتْبَعُهُ ضَحِكٌ وتَبَسُّمٌ، فَلا يَغْتَرُّ المُغْتَرُّ بِضَحِكِ القادِرِ عَلَيْهِ في وجْهِهِ، ولا سِيَّما عِنْدَ المَعْتَبَةِ كَما قِيلَ ؎إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بارِزَةً ∗∗∗ فَلا تَظُنَّنَّ أنَّ اللَّيْثَ مُبْتَسِمُ وَمِنها: مُعاتَبَةُ الإمامِ والمُطاعِ أصْحابَهُ ومَن يَعِزُّ عَلَيْهِ ويَكْرُمُ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ عاتَبَ الثَّلاثَةَ دُونَ سائِرِ مَن تَخَلَّفَ عَنْهُ، وقَدْ أكْثَرَ النّاسُ مِن مَدْحِ عِتابِ الأحِبَّةِ واسْتِلْذاذِهِ والسُّرُورِ بِهِ، فَكَيْفَ بِعِتابِ أحَبِّ الخَلْقِ عَلى الإطْلاقِ إلى المَعْتُوبِ عَلَيْهِ، ولِلَّهِ ما كانَ أحْلى ذَلِكَ العِتابَ وما أعْظَمَ ثَمَرَتَهُ وأجَلَّ فائِدَتَهُ، ولِلَّهِ ما نالَ بِهِ الثَّلاثَةُ مِن أنْواعِ المَسَرّاتِ وحَلاوَةِ الرِّضا وخِلَعِ القَبُولِ وَمِنها: تَوْفِيقُ اللَّهِ لكعب وصاحِبَيْهِ فِيما جاءُوا بِهِ مِنَ الصِّدْقِ، ولَمْ يَخْذُلْهم حَتّى كَذَبُوا واعْتَذَرُوا بِغَيْرِ الحَقِّ، فَصَلُحَتْ عاجِلَتُهم وفَسَدَتْ عاقِبَتُهم كُلَّ الفَسادِ، والصّادِقُونَ تَعِبُوا في العاجِلَةِ بَعْضَ التَّعَبِ فَأعْقَبَهم صَلاحَ العاقِبَةِ والفَلاحَ كُلَّ الفَلاحِ، وعَلى هَذا قامَتِ الدُّنْيا والآخِرَةُ، فَمَراراتُ المُبادِي حَلاواتٌ في العَواقِبِ، وحَلاواتُ المُبادِي مَراراتٌ في العَواقِبِ. «وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ لكعب: (أمّا هَذا فَقَدْ صَدَقَ)»، دَلِيلٌ ظاهِرٌ في التَّمَسُّكِ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ عِنْدَ قِيامِ قَرِينَةٍ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ المَذْكُورِ بِالحُكْمِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ - فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ [الأنبياء: ٧٨-٧٩]، وقَوْلُهُ ﷺ: «جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وتُرْبَتُها طَهُورًا»، وقَوْلُهُ في هَذا الحَدِيثِ: (أمّا هَذا فَقَدْ صَدَقَ)، وهَذا مِمّا لا يَشُكُّ السّامِعُ أنَّ المُتَكَلِّمَ قَصَدَ تَخْصِيصَهُ بِالحُكْمِ. وَقَوْلُ كعب: هَلْ لَقِيَ هَذا مَعِي أحَدٌ؟ فَقالُوا: نَعَمْ، مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، فِيهِ أنَّ الرَّجُلَ يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَرُدَّ حَرَّ المُصِيبَةِ بِرُوحِ التَّأسِّي بِمَن لَقِيَ مِثْلَ ما لَقِيَ، وقَدْ أرْشَدَ سُبْحانَهُ إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا في ابْتِغاءِ القَوْمِ إنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهم يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ﴾ [النساء: ١٠٤]، وهَذا هو الرَّوْحُ الَّذِي مَنَعَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ أهْلَ النّارِ فِيها بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أنَّكم في العَذابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف: ٣٩]. وقَوْلُهُ: " فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صالِحَيْنِ قَدْ شَهِدا بَدْرًا لِي فِيهِما أُسْوَةٌ ". هَذا المَوْضِعُ مِمّا عُدَّ مِن أوْهامِ الزُّهْرِيِّ، فَإنَّهُ لا يُحْفَظُ عَنْ أحَدٍ مِن أهْلِ المَغازِي والسِّيَرِ ألْبَتَّةَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ في أهْلِ بَدْرٍ، لا ابْنُ إسْحاقَ، ولا مُوسى بْنُ عُقْبَةَ ولا الأموي، ولا الواقِدِيُّ، ولا أحَدٌ مِمَّنْ عَدَّ أهْلَ بَدْرٍ، وكَذَلِكَ يَنْبَغِي ألّا يَكُونا مِن أهْلِ بَدْرٍ، فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَهْجُرْ حاطبا، ولا عاقَبَهُ وقَدْ جَسَّ عَلَيْهِ، وقالَ لعمر لَمّا هَمَّ بِقَتْلِهِ: «وَما يُدْرِيكَ أنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلى أهْلِ بَدْرٍ، فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»، وأيْنَ ذَنْبُ التَّخَلُّفِ مِن ذَنْبِ الجَسِّ. قالَ أبُو الفَرَجِ ابْنُ الجَوْزِيِّ: ولَمْ أزَلْ حَرِيصًا عَلى كَشْفِ ذَلِكَ وتَحْقِيقِهِ حَتّى رَأيْتُ أبا بَكْرٍ الأثْرَمَ قَدْ ذَكَرَ الزُّهْرِيَّ، وذَكَرَ فَضْلَهُ وحِفْظَهُ وإتْقانَهُ، وأنَّهُ لا يَكادُ يُحْفَظُ عَلَيْهِ غَلَطٌ إلّا في هَذا المَوْضِعِ، فَإنَّهُ قالَ: إنَّ مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية شَهِدا بَدْرًا، وهَذا لَمْ يَقُلْهُ أحَدٌ غَيْرُهُ، والغَلَطُ لا يُعْصَمُ مِنهُ إنْسانٌ. * [فصل في نَهْيُهُ ﷺ عَنْ كَلامِ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ لِتَأْدِيبِهِمْ دَلِيلٌ عَلى صِدْقِهِمْ] * فَصْلٌ وَفِي نَهْيِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ كَلامِ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ مِن بَيْنِ سائِرِ مَن تَخَلَّفَ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلى صِدْقِهِمْ وكَذِبِ الباقِينَ، فَأرادَ هَجْرَ الصّادِقِينَ وتَأْدِيبَهم عَلى هَذا الذَّنْبِ، وأمّا المُنافِقُونَ فَجُرْمُهم أعْظَمُ مِن أنْ يُقابَلَ بِالهَجْرِ، فَدَواءُ هَذا المَرَضِ لا يَعْمَلُ في مَرَضِ النِّفاقِ، ولا فائِدَةَ فِيهِ، وهَكَذا يَفْعَلُ الرَّبُّ سُبْحانَهُ بِعِبادِهِ في عُقُوباتِ جَرائِمِهِمْ، فَيُؤَدِّبُ عَبْدَهُ المُؤْمِنَ الَّذِي يُحِبُّهُ وهو كَرِيمٌ عِنْدَهُ بِأدْنى زَلَّةٍ وهَفْوَةٍ، فَلا يَزالُ مُسْتَيْقِظًا حَذِرًا، وأمّا مَن سَقَطَ مِن عَيْنِهِ وهانَ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ يُخَلِّي بَيْنَهُ وبَيْنَ مَعاصِيهِ، وكُلَّما أحْدَثَ ذَنْبًا أحْدَثَ لَهُ نِعْمَةً، والمَغْرُورُ يَظُنُّ أنَّ ذَلِكَ مِن كَرامَتِهِ عَلَيْهِ، ولا يَعْلَمُ أنَّ ذَلِكَ عَيْنُ الإهانَةِ، وأنَّهُ يُرِيدُ بِهِ العَذابَ الشَّدِيدَ والعُقُوبَةَ الَّتِي لا عاقِبَةَ مَعَها، كَما في الحَدِيثِ المَشْهُورِ: «إذا أرادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ في الدُّنْيا، وإذا أرادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أمْسَكَ عَنْهُ عُقُوبَتَهُ في الدُّنْيا، فَيَرِدُ يَوْمَ القِيامَةِ بِذُنُوبِهِ». وَفِيهِ دَلِيلٌ أيْضًا عَلى هِجْرانِ الإمامِ والعالِمِ والمُطاعِ لِمَن فَعَلَ ما يَسْتَوْجِبُ العَتْبَ، ويَكُونُ هِجْرانُهُ دَواءً لَهُ بِحَيْثُ لا يَضْعُفُ عَنْ حُصُولِ الشِّفاءِ بِهِ، ولا يَزِيدُ في الكَمِّيَّةِ والكَيْفِيَّةِ عَلَيْهِ فَيُهْلِكَهُ، إذِ المُرادُ تَأْدِيبُهُ لا إتْلافُهُ. وَقَوْلُهُ: «حَتّى تَنَكَّرَتْ لِيَ الأرْضُ، فَما هي بِالَّتِي أعْرِفُ»، هَذا التَّنَكُّرُ يَجِدُهُ الخائِفُ والحَزِينُ والمَهْمُومُ في الأرْضِ، وفي الشَّجَرِ والنَّباتِ، حَتّى يَجِدَهُ فِيمَن لا يَعْلَمُ حالَهُ مِنَ النّاسِ، ويَجِدُهُ أيْضًا المُذْنِبُ العاصِي بِحَسَبِ جُرْمِهِ حَتّى في خُلُقِ زَوْجَتِهِ ووَلَدِهِ، وخادِمِهِ ودابَّتِهِ، ويَجِدُهُ في نَفْسِهِ أيْضًا، فَتَتَنَكَّرُ لَهُ نَفْسُهُ حَتّى ما كَأنَّهُ هُوَ، ولا كَأنَّ أهْلَهُ وأصْحابَهُ، ومَن يُشْفِقُ عَلَيْهِ بِالَّذِينَ يَعْرِفُهُمْ، وهَذا سِرٌّ مِنَ اللَّهِ لا يَخْفى إلّا عَلى مَن هو مَيِّتُ القَلْبِ، وعَلى حَسَبِ حَياةِ القَلْبِ، يَكُونُ إدْراكُ هَذا التَّنَكُّرِ والوَحْشَةِ. وَما لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ وَمِنَ المَعْلُومِ أنَّ هَذا التَّنَكُّرَ والوَحْشَةَ كانا لِأهْلِ النِّفاقِ أعْظَمَ، ولَكِنْ لِمَوْتِ قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُونُوا يَشْعُرُونَ بِهِ، وهَكَذا القَلْبُ إذا اسْتَحْكَمَ مَرَضُهُ، واشْتَدَّ ألَمُهُ بِالذُّنُوبِ والإجْرامِ، لَمْ يَجِدْ هَذِهِ الوَحْشَةَ والتَّنَكُّرَ، ولَمْ يُحِسَّ بِها، وهَذِهِ عَلامَةُ الشَّقاوَةِ، وأنَّهُ قَدْ أيِسَ مِن عافِيَةِ هَذا المَرَضِ، وأعْيا الأطِبّاءَ شِفاؤُهُ، والخَوْفُ والهَمُّ مَعَ الرِّيبَةِ، والأمْنُ والسُّرُورُ مَعَ البَراءَةِ مِنَ الذَّنْبِ. ؎فَما في الأرْضِ أشْجَعُ مِن بَرِيءٍ ∗∗∗ ولا في الأرْضِ أخْوَفُ مِن مُرِيبِ وَهَذا القَدْرُ قَدْ يَنْتَفِعُ بِهِ المُؤْمِنُ البَصِيرُ إذا ابْتُلِيَ بِهِ ثُمَّ راجَعَ، فَإنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ نَفْعًا عَظِيمًا مِن وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ تَفُوتُ الحَصْرَ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ مِنها إلّا اسْتِثْمارُهُ مِن ذَلِكَ أعْلامَ النُّبُوَّةِ، وذَوْقُهُ نَفْسَ ما أخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فَيَصِيرُ تَصْدِيقُهُ ضَرُورِيًّا عِنْدَهُ، ويَصِيرُ ما نالَهُ مِنَ الشَّرِّ بِمَعاصِيهِ، ومِنَ الخَيْرِ بِطاعاتِهِ مِن أدِلَّةِ صِدْقِ النُّبُوَّةِ الذَّوْقِيَّةِ الَّتِي لا تَتَطَرَّقُ إلَيْها الِاحْتِمالاتُ، وهَذا كَمَن أخْبَرَكَ أنَّ في هَذِهِ الطَّرِيقِ مِنَ المَعاطِبِ والمَخاوِفِ كَيْتَ وكَيْتَ عَلى التَّفْصِيلِ، فَخالَفْتَهُ وسَلَكْتَها، فَرَأيْتَ عَيْنَ ما أخْبَرَكَ بِهِ، فَإنَّكَ تَشْهَدُ صِدْقَهُ في نَفْسِ خِلافِكَ لَهُ، وأمّا إذا سَلَكْتَ طَرِيقَ الأمْنِ وحْدَها، ولَمْ تَجِدْ مِن تِلْكَ المَخاوِفِ شَيْئًا، فَإنَّهُ وإنْ شَهِدَ صِدْقَ المُخْبِرِ بِما نالَهُ مِنَ الخَيْرِ والظَّفَرِ مُفَصَّلًا، فَإنَّ عِلْمَهُ بِتِلْكَ يَكُونُ مُجْمَلًا. وَفِي مُكاتَبَةِ مَلِكِ غَسّانَ لَكَعْبِ بْنِ مالِكٍ بِالمَصِيرِ إلَيْهِ ابْتِلاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وامْتِحانٌ لِإيمانِهِ ومَحَبَّتِهِ لِلَّهِ ورَسُولِهِ، وإظْهارٌ لِلصَّحابَةِ أنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ ضَعُفَ إيمانُهُ بِهَجْرِ النَّبِيِّ ﷺ والمُسْلِمِينَ لَهُ، ولا هو مِمَّنْ تَحْمِلُهُ الرَّغْبَةُ في الجاهِ والمُلْكِ مَعَ هِجْرانِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ لَهُ عَلى مُفارَقَةِ دِينِهِ، فَهَذا فِيهِ مِن تَبْرِئَةِ اللَّهِ لَهُ مِنَ النِّفاقِ وإظْهارِ قُوَّةِ إيمانِهِ، وصِدْقِهِ لِرَسُولِهِ ولِلْمُسْلِمِينَ ما هو مِن تَمامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، ولُطْفِهِ بِهِ وجَبْرِهِ لِكَسْرِهِ، وهَذا البَلاءُ يُظْهِرُ لُبَّ الرَّجُلِ وسِرَّهُ وما يَنْطَوِي عَلَيْهِ، فَهو كالكِيرِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. فَأبَتْ لَهُ سابِقَةُ الحُسْنى أنْ يَرْغَبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ودِينِهِ. * [فصل في سُجُودُ الشُّكْرِ مِن عادَةِ الصَّحابَةِ] * فَصْلٌ وَفِي سُجُودِ كعب حِينَ سَمِعَ صَوْتَ المُبَشِّرِ دَلِيلٌ ظاهِرٌ أنَّ تِلْكَ كانَتْ عادَةَ الصَّحابَةِ، وهي سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْدَ النِّعَمِ المُتَجَدِّدَةِ والنِّقَمِ المُنْدَفِعَةِ، وقَدْ سَجَدَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَمّا جاءَهُ قَتْلُ مسيلمة الكذاب، وسَجَدَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ لَمّا وجَدَ ذا الثُّدَيَّةِ مَقْتُولًا في الخَوارِجِ، وسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ بَشَّرَهُ جِبْرِيلُ أنَّهُ مَن صَلّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِها عَشْرًا، وسَجَدَ حِينَ شَفَعَ لِأُمَّتِهِ فَشَفَّعَهُ اللَّهُ فِيهِمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ، وأتاهُ بَشِيرٌ فَبَشَّرَهُ بِظَفَرِ جُنْدٍ لَهُ عَلى عَدُوِّهِمْ ورَأْسُهُ في حِجْرِ عائشة، فَقامَ فَخَرَّ ساجِدًا، وقالَ أبو بكرة: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ إذا أتاهُ أمْرٌ يَسُرُّهُ خَرَّ لِلَّهِ ساجِدًا»، وهي آثارٌ صَحِيحَةٌ لا مَطْعَنَ فِيها. وَفِي اسْتِباقِ صاحِبِ الفَرَسِ والرّاقِي عَلى سِلَعٍ لِيُبَشِّرا كعبا دَلِيلٌ عَلى حِرْصِ القَوْمِ عَلى الخَيْرِ، واسْتِباقِهِمْ إلَيْهِ، وتَنافُسِهِمْ في مَسَرَّةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَفِي نَزْعِ كعب ثَوْبَيْهِ وإعْطائِهِما لِلْبَشِيرِ، دَلِيلٌ عَلى أنَّ إعْطاءَ المُبَشِّرِينَ مِن مَكارِمِ الأخْلاقِ والشِّيَمِ وعادَةِ الأشْرافِ، وقَدْ أعْتَقَ العباس غُلامَهُ لَمّا بَشَّرَهُ أنَّ عِنْدَ الحجاج بن علاط مِنَ الخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما يَسُرُّهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ إعْطاءِ البَشِيرِ جَمِيعَ ثِيابِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلى اسْتِحْبابِ تَهْنِئَةِ مَن تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دِينِيَّةٌ، والقِيامِ إلَيْهِ إذا أقْبَلَ، ومُصافَحَتِهِ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وهو جائِزٌ لِمَن تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وأنَّ الأوْلى أنْ يُقالَ لَهُ: لِيَهْنِكَ ما أعْطاكَ اللَّهُ، وما مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ، ونَحْوُ هَذا الكَلامِ، فَإنَّ فِيهِ تَوْلِيَةَ النِّعْمَةِ رَبَّها، والدُّعاءَ لِمَن نالَها بِالتَّهَنِّي بِها. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ خَيْرَ أيّامِ العَبْدِ عَلى الإطْلاقِ وأفْضَلَها يَوْمُ تَوْبَتِهِ إلى اللَّهِ، وقَبُولِ اللَّهِ تَوْبَتَهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «أبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ ولَدَتْكَ أُمُّكَ». فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَكُونُ هَذا اليَوْمُ خَيْرًا مِن يَوْمِ إسْلامِهِ؟ قِيلَ: هو مُكَمِّلٌ لِيَوْمِ إسْلامِهِ، ومِن تَمامِهِ، فَيَوْمُ إسْلامِهِ بِدايَةُ سَعادَتِهِ، ويَوْمُ تَوْبَتِهِ كَمالُها وتَمامُها، واللَّهُ المُسْتَعانُ. وَفِي سُرُورِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ وفَرَحِهِ بِهِ واسْتِنارَةِ وجْهِهِ دَلِيلٌ عَلى ما جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِن كَمالِ الشَّفَقَةِ عَلى الأُمَّةِ والرَّحْمَةِ بِهِمْ والرَّأْفَةِ، حَتّى لَعَلَّ فَرَحَهُ كانَ أعْظَمَ مِن فَرَحِ كعب وصاحِبَيْهِ. وَقَوْلُ كعب: «يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِن تَوْبَتِي أنْ أنْخَلِعَ مِن مالِي». دَلِيلٌ عَلى اسْتِحْبابِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ بِما قُدِرَ عَلَيْهِ مِنَ المالِ. وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: " «أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مالِكَ، فَهو خَيْرٌ لَكَ»، دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَن نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِكُلِّ مالِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إخْراجُ جَمِيعِهِ، بَلْ يَجُوزُ لَهُ أنْ يُبْقِيَ لَهُ مِنهُ بَقِيَّةً، وقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في ذَلِكَ، فَفي " الصَّحِيحَيْنِ " أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لَهُ: " «أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مالِكَ» " وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ قَدْرًا، بَلْ أطْلَقَ، ووَكَلَهُ إلى اجْتِهادِهِ في قَدْرِ الكِفايَةِ، وهَذا هو الصَّحِيحُ، فَإنَّ ما نَقَصَ عَنْ كِفايَتِهِ وكِفايَةِ أهْلِهِ لا يَجُوزُ لَهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، فَنَذْرُهُ لا يَكُونُ طاعَةً، فَلا يَجِبُ الوَفاءُ بِهِ، وما زادَ عَلى قَدْرِ كِفايَتِهِ وحاجَتِهِ، فَإخْراجُهُ والصَّدَقَةُ بِهِ أفْضَلُ، فَيَجِبُ إخْراجُهُ إذا نَذَرَهُ، هَذا قِياسُ المَذْهَبِ، ومُقْتَضى قَواعِدِ الشَّرِيعَةِ، ولِهَذا تُقَدَّمُ كِفايَةُ الرَّجُلِ، وكِفايَةُ أهْلِهِ عَلى أداءِ الواجِباتِ المالِيَّةِ، سَواءٌ كانَتْ حَقًّا لِلَّهِ كالكَفّاراتِ والحَجِّ، أوْ حَقًّا لِلْآدَمِيِّينَ كَأداءِ الدُّيُونِ، فَإنّا نَتْرُكُ لِلْمُفْلِسِ ما لا بُدَّ مِنهُ مِن مَسْكَنٍ وخادِمٍ وكُسْوَةٍ وآلَةِ حِرْفَةٍ، أوْ ما يَتَّجِرُ بِهِ لِمُؤْنَتِهِ إنْ فُقِدَتِ الحِرْفَةُ، ويَكُونُ حَقُّ الغُرَماءِ فِيما بَقِيَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب