الباحث القرآني

النّاسُ قِسْمانِ: تائِبٌ وظالِمٌ لَيْسَ إلّا، فالتّائِبُونَ هُمُ ﴿العابِدُونَ الحامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ والحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١١٢] فَحِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ جُزْءُ التَّوْبَةِ، والتَّوْبَةُ هي مَجْمُوعُ هَذِهِ الأُمُورِ، وإنَّما سُمِّيَ تائِبًا لِرُجُوعِهِ إلى أمْرِ اللَّهِ مِن نَهْيِهِ، وإلى طاعَتِهِ مِن مَعْصِيَتِهِ، كَما تَقَدَّمَ. فَإذًا التَّوْبَةُ هي حَقِيقَةُ دِينِ الإسْلامِ، والدِّينُ كُلُّهُ داخِلٌ في مُسَمّى التَّوْبَةِ وبِهَذا اسْتَحَقَّ التّائِبُ أنْ يَكُونَ حَبِيبَ اللَّهِ، فَإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ، وإنَّما يُحِبُّ اللَّهُ مَن فَعَلَ ما أمَرَ بِهِ، وتَرَكَ ما نَهى عَنْهُ. * [فصل: الكلام على (واو الثمانية)] قولهم إن الواو تأتي للثمانية ليس عليه دليل مستقيم وقد ذكروا ذلك في مواضع فلنتكلم عليها واحدا واحدا: الموضع الأول: قوله تعالى: ﴿التّائِبُونَ العابِدُونَ الحامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ فقيل الواو في ﴿والناهون﴾ واو الثمانية لمجيئها بعد استيفاء الأوصاف السبعة. وذكروا في الآية وجوها أُخر: منها أن هذا من التفنن في الكلام أن يعطف بعضه ويترك عطف بعضه. ومنها أن الصفات التي قبل هاتين الصفتين صفات لازمة متعلقة بالعامل، وهاتان الصفتان متعديتان متعلقتان بالغير فقطعتا عما قبلهما بالعطف. ومنها أن المراد التنبيه على أن الموصوفين بالصفات المتقدمة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وكل هذه الأجوبة غير سديدة. وأحسن ما يقال فيها: أن الصفات إذا ذكرت في مقام التعداد فتارة يتوسط بينها حرف العطف لتغايرها في نفسها، وللإيذان بأن المراد ذكر كل صفة بمفردها. وتارة لا يتوسطها العاطف لاتحاد موصوفها وتلازمها في نفسها، وللإيذان بأنها في تلازمها كالصفة الواحدة. وتارة يتوسط العاطف بين بعضها ويحذف مع بعض بحسب هذين المقامين، فإذا كان المقام مقام تعداد الصفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن إسقاط حرف العطف. وإن أريد الجمع بين الصفات، أو التنبيه على تغايرها حسن إدخال حرف العطف. فمثال الأول: ﴿التّائِبُونَ العابِدُونَ الحامِدُونَ﴾ وقوله: ﴿مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ﴾ ومثال الثاني قوله تعالى: ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخر والظّاهِرُ والباطِنُ﴾ وتأمل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى: ﴿حم تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ فأتي بالواو في الوصفين الأولين، وحذفها في الوصفين الآخرين، لأن غفران الذنب وقبول التوب، قد يظن أنهما يجريان مجرى الوصف الواحد لتلازمهما، فمن غفر الذنب قبل التوب. فكان في عطف أحدهما على الآخر ما يدل على أنهما صفتان وفعلان متغايران، ومفهومان مختلفان لكل منهما حكمة: أحدهما: يتعلق بالإساءة والإعراض وهو المغفرة. والثاني: يتعلق بالإحسان والإقبال على الله تعالى والرجوع إليه وهو التوبة فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة، وحسن العطف هاهنا هذا التغاير الظاهر، وكلما كان التغاير أبين كان العطف أحسن، ولهذا جاء العطف في قوله: ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخر والظّاهِرُ والباطِنُ﴾ وترك في قوله: ﴿المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ﴾ وقوله: ﴿الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ﴾ وأما: ﴿شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ فترك العطف بينهما لنكته بديعة وهي الدلالة على اجتماع هذين الأمرين في ذاته سبحانه، وأنه حال كونه شديد العقاب فهو ذو الطول وطوله لا ينافي شدة عقابه بل هما مجتمعان له بخلاف الأول والآخر فإن الأولية لا تجامع الآخرية، ولهذا فسرها النبي ﷺ بقوله "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء" فأوليته أزليته وآخريته أبديته. فإن قلت فما تصنع بقوله ﴿والظاهر والباطن﴾ فإن ظهوره تعالى ثابت مع بطونه فيجتمع في حقه الظهور والبطون، والنبي ﷺ [فسر] (الظاهر) بأنه الذي ليس فوقه شيء، (والباطن) بأنه الذي ليس دونه شيء، وهذا العلو والفوقية مجامع لهذا القرب والدنو والإحاطة؟ قلت هذا سؤال حسن والذي حسن دخوله الواو هاهنا أن هذه الصفات متقابلة متضادة، وقد عطف الثاني منها على الأول للمقابلة التي بينهما والصفتان الآخريان كالأوليين في المقابلة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخِر إلى الأول. فكما حسن العطف بين الأوليين حسن بين الآخريين، فإذا عرف هذا فالآية التي نحن فيها يتضح بما ذكرناه معنى العطف وتركه فيها لأن كل صفة لم تعطف على ما قبلها فيها كان فيه تنبيه على أنها في اجتماعها كالوصف الواحد لموصوف واحد فلم يحتج إلى عطف، فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما متلازمان مستمدان من مادة واحدة حسن العطف ليتبين أن كل وصف منهما قائم على حدته مطلوب تعيينه لا يكتفي فيه بحصول الوصف الآخر بل لا بد أن يظهر أمره بالمعروف بصريحة ونهيه عن المنكر بصريحة وأيضا فحسن العطف هاهنا ما تقدم من التضاد فلما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضدين أحدهما طلب الإيجاد والآخر طلب الإعدام كانا كالنوعين المتغايرين المتضادين فحسن لذلك العطف. الموضع الثاني: قوله تعالى: ﴿عَسى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْواجًا خَيْرًا مِنكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ثَيِّباتٍ وأبْكارًا﴾ فقيل هذه واو الثمانية لمجيئها بعد الوصف السابع وليس كذلك ودخول الواو هاهنا متعين لأن الأوصاف التي قبلها المراد اجتماعها في النساء وأما وصفا البكارة والثيوبة فلا يمكن اجتماعهما فتعين العطف لأن المقصود أنه يزوجه بالنوعين الثيبات والأبكار. الموضع الثالث: قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهم كَلْبُهم ويَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهم كَلْبُهم رَجْمًا بِالغَيْبِ ويَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثامِنُهم كَلْبُهُمْ﴾ قيل المراد إدخال الواو هاهنا لأجل الثمانية وهذا يحتمل أمرين: أحدهما: هذا والثاني: أن يكون دخول الواو هاهنا إيذانا بتمام كلامهم عند قولهم سبعة ثم ابتدأ قوله وثامنهم كلبهم وذلك يتضمن تقرير قولهم سبعة كما إذا قال لك زيد فقيه فقلت ونحوي وهذا اختيار السهيلي وقد تقدم الكلام عليه وأن هذا إنما يتم إذا كان قوله وثامنهم كلبهم ليس داخلا في المحكي بالقول والظاهر خلافه والله أعلم. الموضع الرابع: قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهم إلى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتّى إذا جاءُوها وفُتِحَتْ أبْوابُها﴾ فأتى بالواو لما كانت أبواب الجنة ثمانية وقال في النار ﴿حَتّى إذا جاءُوها وفُتِحَتْ أبْوابُها﴾ لما كانت سبعة وهذا في غاية البعد ولا دلالة في اللفظ على الثمانية حتى تدخل الواو لأجلها بل هذا من باب حذف الجواب لنكتة بديعة وهي أن تفتيح أبواب النار كان حال موافاة أهلها ففتحت في وجوههم لأنه أبلغ في مفاجأة المكروه وأما الجنة فلما كانت ذات الكرامة وهي مأدبة الله وكان الكريم إذا دعا أضيافه إلى داره شرع لهم أبوابها ثم استدعاهم إليها مفتحة الأبواب أتى بالواو العاطفة هاهنا الدالة على أنها جاءوها بعدما فتحت أبوابها وحذف الجواب تفخيما لشأنه وتعظيما لقدرة كعادتهم في حذف الأجوبة. وقد أشبعنا الكلام على هذا فيما تقدم والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب