﴿۞ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَیَقۡتُلُونَ وَیُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَیۡهِ حَقࣰّا فِی ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِیلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُوا۟ بِبَیۡعِكُمُ ٱلَّذِی بَایَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ﴾ [التوبة ١١١]
* (لطيفة)
لو بعت لحظة من إقبالك على الله بمقدار عمر نوح في ملك قارون لكنت مغبونا في العقد.
(فائدة: في تقديم الأنفس على الأموال)
ويتعلق بهذا نوع آخر من التقديم لم يذكره السهيلي وهو تقديم الأموال على الأنفس في الجهاد حيث ما وقع في القرآن الكريم إلا في موضع واحد وهو قوله:
﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهم وأمْوالَهم بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾وأما سائر المواضع فقدم فيها المال نحو قوله:
﴿وَتُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِكم وأنْفُسِكُمْ﴾ وقوله:
﴿وَجاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ﴾ وهو كثير فما الحكمة في تقديم المال على النفس وما الحكمة في تأخيره في هذا الموضع وحده؟
وهذا لم يتعرض له السهيلي رحمه الله.
فيقال: أولا: هذا دليل على وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس فإذا دهم العدو وجب على القادر الخروج بنفسه فإن كان عاجزا وجب عليه أن يكتري بماله وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد والأدلة عليها أكثر من أن تذكر هنا.
ومن تأمل أحوال النبي ﷺ وسيرته في أصحابه وأمرهم بإخراج أموالهم في الجهاد قطع بصحة هذا القول والمقصود تقديم المال في الذكر وأن ذلك مشعر بإنكار وهم من يتوهم أن العاجز بنفسه إذا كان قادرا على أن يغزو بماله لا يجب عليه شيء فحيث ذكر الجهاد قدم ذكر المال فكيف يقال لا يجيب به ولو قيل إن وجوبه بالمال أعظم وأقوى من وجوبه بالنفس لكان هذا القول أصح من قول من قال لا يجب بالمال وهذا بين وعلى هذا فتظهر الفائدة في تقديمه في الذكر وفائدة ثانية على تقدير عدم الوجوب وهي أن المال محبوب النفس ومعشوقها التي تبذل ذاتها في تحصيله وترتكب الأخطار وتتعرض للموت في طلبه وهذا يدل على أنه هو محبوبها ومعشوقها فندب الله تعالى محبيه المجاهدين في سبيله إلى بذل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته
فإن المقصود أن يكون الله هو أحب شيء إليهم ولا يكون في الوجود شيء أحب إليهم منه فإذا بذلوا محبوبهم في حبه نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها وهي بذل نفوسهم له فهذا غاية الحب فإن الإنسان لا شيء أحب إليه من نفسه فإذا أحب شيئا بذل له محبوبه من نفسه وماله فإذا آل الأمر إلى بذل نفسه ضن بنفسه وآثرها على محبوبه هذا هو الغالب وهو مقتضى الطبيعة الحيوانية والإنسانية ولهذا يدافع الرجل عن ماله وأهله وولده فإذا أحس بالمغلوبية والوصول إلى مهجته ونفسه فر وتركهم فلم يرض الله من محبيه بهذا بل أمرهم أن يبذلوا له نفوسهم بعد أن بذلوا له محبوباتهم وأيضا فبذل النفس آخر المراتب فإن العبد يبذل ماله أولا يقي به نفسه فإذا لم يبق له ماله بذل نفسه فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقا للواقع.
وأما قوله
﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم﴾ فكان تقديم الأنفس هو الأولى لأنها هي المشتراة في الحقيقة وهي مورد العقد وهي السلعة التي استلمها ربها وطلب شراءها لنفسه وجعل ثمن هذا العقد رضاه وجنته فكانت هي المقصود بعقد الشراء والأموال تبع لها فإذا ملكها مشتريها ملك مالها فإن العبد وما يملكه لسيده ليس له فيه شيء فالمالك الحق إذا ملك النفس ملك أموالها ومتعلقاتها فحسن تقديم النفس على المال في هذه الآية حسنا لا مزيد عليه.
* [فصل: في عرض الرب تعالى سلعته الجنة على عباده وثمنها الذي طلبه منهم وعقد التبايع الذي وقع بين المؤمنين وبين ربهم]
قال تعالى
﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهم وأمْوالَهم بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ والقُرْآنِ ومَن أوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾فجعل سبحانه ها هنا الجنة ثمنا لنفوس المؤمنين وأموالهم بحيث إذا بذلوها فيه استحقوا الثمن وعقد معهم هذا العقد وأكده بأنواع من التأكيد
أحدها: إخبارهم سبحانه وتعالى بصيغة الخبر المؤكد بأداة (إنَّ).
الثاني: الإخبار بذلك بصيغة الماضي الذي قد وقع وثبت واستقر.
الثالث: إضافة هذا العقد إلى نفسه سبحانه وأنه هو الذي اشترى هذا المبيع.
الرابع: أنه أخبر بأنه وعد بتسليم هذا الثمن وعدا لا يخلفه ولا يتركه.
الخامس: أنه أتى بصيغة (على) التي للوجوب إعلاما لعباده بأن ذلك حق عليه أحقه هو على نفسه.
السادس: أنه أكد ذلك بكونه حقا عليه.
السابع: أنه أخبر عن محل هذا الوعد وأنه في أفضل كتبه المنزلة من السماء وهي التوراة والإنجيل والقرآن.
الثامن: إعلامه لعباده بصيغة استفهام الإنكار وأنه لا أحد أوفى بعهده منه سبحانه.
التاسع: أنه سبحانه وتعالى أمرهم أن يستبشروا بهذا العقد ويبشر به بعضهم بعضا بشارة من قد تم له العقد ولزم بحيث لا يثبت فيه خيار ولا يعرض له ما يفسخه.
العاشر: أنه أخبرهم إخبارا مؤكدا بأن ذلك البيع الذي بايعوه به هو الفوز العظيم والبيع هاهنا بمعنى المبيع الذي أخذوه بهذا الثمن وهو الجنة.
وقوله بايعتم به أي عاوضتم وثامنتم به.
ثم ذكر سبحانه أن هذا العقد الذي وقع العقد وتم لهم دون غيرهم وهم التائبون مما يكره العابدون له بما يحب الحامدون له على ما يحبون وما يكرهون السائحون وفسرت السياحة بالصيام وفسرت بالسفر في طلب العلم وفسرت بالجهاد وفسرت بدوام الطاعة والتحقيق فيها أنها سياحة القلب في ذكر الله ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه ويترتب عليها كل ما ذكر من الأفعال ولذلك وصف الله سبحانه نساء النبي ﷺ اللاتي لو طلق أزواجه بدله بهن بأنهن سائحات وليست سياحتهن جهادا ولا سفرا في طلب علم ولا إدامة صيام وإنما هي سياحة قلوبهن في محبة الله تعالى وخشيته والإنابة إليه وذكره وتأمل كيف جعل الله سبحانه التوبة والعبادة قرينتين هذه ترك ما يكره وهذه فعل ما يحب والحمد والسياحة قرينتين هذا الثناء عليه بأوصاف كماله وسياحة اللسان في أفضل ذكره وهذه سياحة القلب في حبه وذكره وإجلاله
كما جعل سبحانه العبادة والسياحة قرينتين في صفة الأزواج فهذه عبادة البدن وهذه عبادة القلب
وجعل الإسلام والإيمان قرينتين فهذا علانية وهذا في القلب كما في المسند عنه ﷺ "الإسلام علانية والإيمان في القلب" وجعل القنوت والتوبة قرينتين هذا فعل ما يحب وهذا ترك ما يكره
وجعل الثيوبة والبكارة قرينتين فهذه قد وطئت وارتاضت وذللت صعوبها وهذه روضة أنف لم يرتع فيها بعد
وجعل الركوع والسجود قرينتين، وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرينتين وأدخل بينهما الواو دون ما تقدم إعلاما بأن أحدهما لا يكفي حتى يكون مع الآخر وجعل ذلك قرينا لحفظ حدوده فهذا حفظها في نفس الإنسان وذلك أمر غيره بحفظها وأفهمت الآية خطر النفس الإنسانية وشرفها وعظم مقدارها فإن السلعة إذا خفي عليك قدرها فانظر إلى المشتري لها من هو ونظر إلى الثمن المبذول فيها ما هو وانظر إلى ما جرى على يده عقد التبايع، فالسلعة النفس والله سبحانه المشتري لها والثمن جنات النعيم والسفير في هذا العقد خير خلقه من الملائكة وأكرمهم عليه وخيرهم من البشر وأكرمهم عليه:
قد هيؤك لأمر لو فطنت له ∗∗∗ فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا أن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة" قال هذا، حديث حسن، غريب
وفي كتاب صفة الجنة لأبي نعيم من حديث أبان عن أنس قال جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: ما ثمن الجنة قال:" لا إله إلا الله " وشواهد هذا الحديث كثيرة جدا
وفي، الصحيحين، من حديث أبي هريرة أن أعرابيا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة فقال: " تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان: قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه فلما ولى قال من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"
وفي، صحيح مسلم، عن جابر قال أتى النعمان بن قوقل إلى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله ﷺ "أرأيت إذا صليت المكتوبة وحرمت الحرام وأحللت الحلال أدخل الجنة فقال النبي ﷺ: "نعم"
وفي، صحيح مسلم، عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله ﷺ:
"من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة"
وفي سنن أبي داود عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول:" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"
وفي الصحيحين، عن أبي ذر رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: "أتاني آت من ربي فأخبرني أو قال فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك شيئا دخل الجنة.
قلت وإن زنى وإن سرق؟
قال وإن زنى وإن سرق "
وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال قال رسول الله ﷺ:
"من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء"
وفي لفظ: "أدخله الله الجنة على ما كان من عمل"
* (موعظة)
من لاح له كمال الآخرة هان عليه فراق الدنيا. إذا لاح للباشق الصيد نسي مألوف الكف.
يا أقدام الصبر احملي بقي القليل.
تذكر حلاوة الوصال يهين عليك مر المجاهدة.
قد علمت أين المنزل؛ فاحدُ لها تسر.
قال أبو يزيد: "ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي حتى سقتها إليه وهي تضحك".
الهمة العلية من استعد صاحبها للقاء الحبيب، وقدم التقادم بين يدي الملتقي فاستبشر عند القدوم:
﴿وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكم واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾.
الجنة ترضى منك بأداء الفرائض، والنار تندفع عنك بترك المعاصي، والمحبة لا تقنع منك إلا ببذل الروح:
﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ﴾.
بدم المحب يباع وصلهم. فمن الذي يبتاع بالثمن.
* (فصل)
أكْثَرُ الخَلْقِ قَدْ نَسُوا حَقِيقَةَ أنْفُسِهِمْ وضَيَّعُوها وأضاعُوا حَظَّها مِنَ اللَّهِ، وباعُوها رَخِيصَةً بِثَمَنٍ بَخْسٍ بَيْعَ الغَبْنِ، وإنَّما يَظْهَرُ لَهم هَذا عِنْدَ المَوْتِ، ويَظْهَرُ هَذا كُلَّ الظُّهُورِ يَوْمَ التَّغابُنِ، يَوْمَ يَظْهَرُ لِلْعَبْدِ أنَّهُ غُبِنَ في العَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ لِنَفْسِهِ في هَذِهِ الدّارِ، والتِّجارَةِ الَّتِي اتَّجَرَ فِيها لِمَعادِهِ، فَإنَّ كُلَّ أحَدٍ يَتَّجِرُ في هَذِهِ الدُّنْيا لِآخِرَتِهِ.
فالخاسِرُونَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أنَّهم أهْلُ الرِّبْحِ والكَسْبِ اشْتَرَوُا الحَياةَ الدُّنْيا وحَظَّهم فِيها ولَذّاتِهِمْ، بِالآخِرَةِ وحَظِّهِمْ فِيها، فَأذْهَبُوا طَيِّباتِهِمْ في حَياتِهِمُ الدُّنْيا، واسْتَمْتَعُوا بِها، ورَضُوا بِها، واطْمَأنُّوا إلَيْها، وكانَ سَعْيُهم لِتَحْصِيلِها، فَباعُوا واشْتَرَوْا واتَّجَرُوا وباعُوا آجِلًا بِعاجِلٍ، ونَسِيئَةً بِنَقْدٍ، وغائِبًا بِناجِزٍ، وقالُوا: هَذا هو الحَزْمُ، ويَقُولُ أحَدُهُمْ:
خُذْ ما تَراهُ ودَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ
فَكَيْفَ أبِيعُ حاضِرًا نَقْدًا مُشاهَدًا في هَذِهِ الدّارِ بِغائِبٍ نَسِيئَةً في دارٍ أُخْرى غَيْرِ هَذِهِ؟ ويَنْضَمُّ إلى ذَلِكَ ضَعْفُ الإيمانِ وقُوَّةُ داعِي الشَّهْوَةِ، ومَحَبَّةُ العاجِلَةِ والتَّشَبُّهُ بِبَنِي الجِنْسِ، فَأكْثَرُ الخَلْقِ في هَذِهِ التِّجارَةِ الخاسِرَةِ الَّتِي قالَ اللَّهُ في أهْلِها:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَياةَ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: ٨٦]، وقالَ فِيهِمْ:
﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهم وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: ١٦]، فَإذا كانَ يَوْمُ التَّغابُنِ ظَهَرَ لَهُمُ الغَبْنُ في هَذِهِ التِّجارَةِ، فَتَتَقَطَّعُ عَلَيْهِمُ النُّفُوسُ حَسَراتٍ.
وَأمّا الرّابِحُونَ فَإنَّهم باعُوا فانِيًا بِباقٍ، وخَسِيسًا بِنَفِيسٍ، وحَقِيرًا بِعَظِيمٍ، وقالُوا: ما مِقْدارُ هَذِهِ الدُّنْيا مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، حَتّى نَبِيعَ حَظَّنا مِنَ اللَّهِ تَعالى والدّارِ الآخِرَةِ بِها؟ فَكَيْفَ يَنالُ العَبْدُ مِنها في هَذا الزَّمَنِ القَصِيرِ الَّذِي هو في الحَقِيقَةِ كَغَفْوَةِ حُلْمٍ، لا نِسْبَةَ لَهُ إلى دّارِ القَرارِ ألْبَتَّةَ: قالَ تَعالى:
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهم كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: ٤٥].
وَقالَ تَعالى:
﴿يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها - فِيمَ أنْتَ مِن ذِكْراها - إلى رَبِّكَ مُنْتَهاها - إنَّما أنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشاها - كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إلّا عَشِيَّةً أوْ ضُحاها﴾ [النازعات: ٤٢-٤٦].
وَقالَ تَعالى:
﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ بَلاغٌ﴾ [الأحقاف: ٣٥].
وَقالَ تَعالى:
﴿كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ - قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْألِ العادِّينَ - قالَ إنْ لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا لَوْ أنَّكم كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [المؤمنين: ١١٢-١١٤].
وَقالَ تَعالى:
﴿يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ ونَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا - يَتَخافَتُونَ بَيْنَهم إنْ لَبِثْتُمْ إلّا عَشْرًا - نَحْنُ أعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إذْ يَقُولُ أمْثَلُهم طَرِيقَةً إنْ لَبِثْتُمْ إلّا يَوْمًا﴾ [طه: ١٠٢-١٠٤].
فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الدُّنْيا عِنْدَ مُوافاةِ يَوْمِ القِيامَةِ، فَلَمّا عَلِمُوا قِلَّةَ لُبْثِهِمْ فِيها، وأنَّ لَهم دارًا غَيْرَ هَذِهِ الدّارِ، هي دارُ الحَيَوانِ ودارُ البَقاءِ - رَأوْا مِن أعْظَمِ الغَبْنِ بَيْعَ دارِ البَقاءِ بِدارِ الفَناءِ، فاتَّجَرُوا تِجارَةَ الأكْياسِ، ولَمْ يَغْتَرُّوا بِتِجارَةِ السُّفَهاءِ مِنَ النّاسِ، فَظَهَرَ لَهم يَوْمَ التَّغابُنِ رِبْحُ تِجارَتِهِمْ ومِقْدارُ ما اشْتَرَوْهُ، وكُلُّ أحَدٍ في هَذِهِ الدُّنْيا بائِعٌ مُشْتَرٍ مُتَّجِرٌ، وكُلُّ النّاسِ يَغْدُو فَبائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها أوْ مَوْبِقُها.
﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهم وأمْوالَهم بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ والقُرْآنِ ومَن أوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [التوبة: ١١١].
فَهَذا أوَّلُ نَقْدٍ مِن ثَمَنِ هَذِهِ التِّجارَةِ، فَتاجِرُوا أيُّها المُفْلِسُونَ، ويا مَن لا يَقْدِرُ عَلى هَذا الثَّمَنِ، هُنا ثَمَنٌ آخَرُ، فَإنْ كُنْتَ مِن أهْلِ هَذِهِ التِّجارَةِ فَأعْطِ هَذا الثَّمَنَ:
﴿التّائِبُونَ العابِدُونَ الحامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ والحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ١١٢].
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الصف: ١٠-١١].
والمَقْصُودُ أنَّ الذُّنُوبَ تُنْسِي العَبْدَ حَظَّهُ مِن هَذِهِ التِّجارَةِ الرّابِحَةِ، وتَشْغَلُهُ بِالتِّجارَةِ الخاسِرَةِ، وكَفى بِذَلِكَ عُقُوبَةً، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
* [فصل: في فَرْضُ القِتالِ]
ثُمَّ فَرَضَ عَلَيْهِمُ القِتالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَن قاتَلَهم دُونَ مَن لَمْ يُقاتِلْهم فَقالَ:
﴿وَقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٠].
ثُمَّ فَرَضَ عَلَيْهِمْ قِتالَ المُشْرِكِينَ كافَّةً، وكانَ مُحَرَّمًا، ثُمَّ مَأْذُونًا بِهِ، ثُمَّ مَأْمُورًا بِهِ لِمَن بَدَأهم بِالقِتالِ، ثُمَّ مَأْمُورًا بِهِ لِجَمِيعِ المُشْرِكِينَ، إمّا فَرْضُ عَيْنٍ عَلى أحَدِ القَوْلَيْنِ، أوْ فَرْضُ كِفايَةٍ عَلى المَشْهُورِ.
والتَّحْقِيقُ أنَّ جِنْسَ الجِهادِ فَرْضُ عَيْنٍ إمّا بِالقَلْبِ، وإمّا بِاللِّسانِ، وإمّا بِالمالِ، وإمّا بِاليَدِ، فَعَلى كُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يُجاهِدَ بِنَوْعٍ مِن هَذِهِ الأنْواعِ.
أمّا الجِهادُ بِالنَّفْسِ فَفَرْضُ كِفايَةٍ، وأمّا الجِهادُ بِالمالِ فَفي وُجُوبِهِ قَوْلانِ: والصَّحِيحُ وُجُوبُهُ؛ لِأنَّ الأمْرَ بِالجِهادِ بِهِ وبِالنَّفْسِ في القُرْآنِ سَواءٌ، كَما قالَ تَعالى:
﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا وجاهِدُوا بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم في سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: ٤١] وعَلَّقَ النَّجاةَ مِنَ النّارِ بِهِ ومَغْفِرَةَ الذَّنْبِ ودُخُولَ الجَنَّةِ فَقالَ:
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - يَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكم ويُدْخِلْكم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [الصف: ١٠-١٢]وَأخْبَرَ أنَّهم إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ أعْطاهم ما يُحِبُّونَ مِنَ النَّصْرِ والفَتْحِ القَرِيبِ، فَقالَ:
﴿وَأُخْرى تُحِبُّونَها﴾ أيْ: ولَكم خَصْلَةٌ أُخْرى تُحِبُّونَها في الجِهادِ، وهِيَ:
﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ وأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ:
﴿اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهم وأمْوالَهم بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ [التوبة: ١١١] وأعاضَهم عَلَيْها الجَنَّةَ، وأنَّ هَذا العَقْدَ والوَعْدَ قَدْ أوْدَعَهُ أفْضَلَ كُتُبِهِ المُنَزَّلَةِ مِنَ السَّماءِ، وهي التَّوْراةُ والإنْجِيلُ والقُرْآنُ، ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ بِإعْلامِهِمْ أنَّهُ لا أحَدَ أوْفى بِعَهْدِهِ مِنهُ تَبارَكَ وتَعالى، ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ بِأنْ أمَرَهم بِأنْ يَسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِهِمُ الَّذِي عاقَدُوهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أعْلَمَهم أنَّ ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ.
فَلْيَتَأمَّلِ العاقِدُ مَعَ رَبِّهِ عَقْدَ هَذا التَّبايُعِ، ما أعْظَمَ خَطَرَهُ وأجَلَّهُ، فَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ هو المُشْتَرِي، والثَّمَنُ جَنّاتُ النَّعِيمِ والفَوْزُ بِرِضاهُ، والتَّمَتُّعُ بِرُؤْيَتِهِ هُناكَ. والَّذِي جَرى عَلى يَدِهِ هَذا العَقْدُ أشْرَفُ رُسُلِهِ وأكْرَمُهم عَلَيْهِ مِنَ المَلائِكَةِ والبَشَرِ، وإنَّ سِلْعَةً هَذا شَأْنُها لَقَدْ هُيِّئَتْ لِأمْرٍ عَظِيمٍ وخَطْبٍ جَسِيمٍ:
قَدْ هَيَّئُوكَ لِأمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ ∗∗∗ فارْبَأْ بِنَفْسِكَ أنْ تَرْعى مَعَ الهَمَلِ
مَهْرُ المَحَبَّةِ والجَنَّةِ بَذْلُ النَّفْسِ والمالِ لِمالِكِهِما الَّذِي اشْتَراهُما مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَما لِلْجَبانِ المُعْرِضِ المُفْلِسِ وسَوْمِ هِذِهِ السِّلْعَةِ، بِاللَّهِ ما هُزِلَتْ فَيَسْتامَها المُفْلِسُونَ، ولا كَسَدَتْ فَيَبِيعَها بِالنَّسِيئَةِ المُعْسِرُونَ، لَقَدْ أُقِيمَتْ لِلْعَرْضِ في سُوقِ مَن يُرِيدُ، فَلَمْ يَرْضَ رَبُّها لَها بِثَمَنٍ دُونَ بَذْلِ النُّفُوسِ، فَتَأخَّرَ البَطّالُونَ، وقامَ المُحِبُّونَ يَنْتَظِرُونَ أيُّهم يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ نَفْسُهُ الثَّمَنَ، فَدارَتِ السِّلْعَةُ بَيْنَهم ووَقَعَتْ في يَدِ
﴿أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤].
لَمّا كَثُرَ المُدَّعُونَ لِلْمَحَبَّةِ طُولِبُوا بِإقامَةِ البَيِّنَةِ عَلى صِحَّةِ الدَّعْوى، فَلَوْ يُعْطى النّاسُ بِدَعْواهم لادَّعى الخَلِيُّ حِرْفَةَ الشَّجِيِّ، فَتَنَوَّعَ المُدَّعُونَ في الشُّهُودِ، فَقِيلَ: لا تَثْبُتُ هَذِهِ الدَّعْوى إلّا بِبَيِّنَةٍ
﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١]فَتَأخَّرَ الخَلْقُ كُلُّهُمْ، وثَبَتَ أتْباعُ الرَّسُولِ في أفْعالِهِ وأقْوالِهِ وهَدْيِهِ وأخْلاقِهِ، فَطُولِبُوا بِعَدالَةِ البَيِّنَةِ.
وَقِيلَ: لا تُقْبَلُ العَدالَةُ إلّا بِتَزْكِيَةٍ
﴿يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ [المائدة: ٥٤] فَتَأخَّرَ أكْثَرُ المُدَّعِينَ لِلْمَحَبَّةِ، وقامَ المُجاهِدُونَ فَقِيلَ لَهُمْ: إنَّ نُفُوسَ المُحِبِّينَ وأمْوالَهم لَيْسَتْ لَهم فَسَلِّمُوا ما وقَعَ عَلَيْهِ العَقْدُ فَإنَّ
﴿اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهم وأمْوالَهم بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ [التوبة: ١١١] وعَقْدُ التَّبايُعِ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ مِنَ الجانِبَيْنِ، فَلَمّا رَأى التُّجّارُ عَظَمَةَ المُشْتَرِي وقَدْرَ الثَّمَنِ وجَلالَةَ قَدْرِ مَن جَرى عَقْدُ التَّبايُعِ عَلى يَدْيِهِ ومِقْدارَ الكِتابِ الَّذِي أُثْبِتَ فِيهِ هَذا العَقْدُ عَرَفُوا أنَّ لِلسِّلْعَةِ قَدْرًا وشَأْنًا لَيْسَ لِغَيْرِها مِنَ السِّلَعِ، فَرَأوْا مِنَ الخُسْرانِ البَيِّنِ والغَبْنِ الفاحِشِ أنْ يَبِيعُوها بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ تَذْهَبُ لَذَّتُها وشَهْوَتُها وتَبْقى تَبِعَتُها وحَسْرَتُها، فَإنَّ فاعِلَ ذَلِكَ مَعْدُودٌ في جُمْلَةِ السُّفَهاءِ، فَعَقَدُوا مَعَ المُشْتَرِي بَيْعَةَ الرِّضْوانِ رِضًى واخْتِيارًا مِن غَيْرِ ثُبُوتِ خِيارٍ، وقالُوا: واللَّهِ لا نَقِيلُكَ ولا نَسْتَقِيلُكَ، فَلَمّا تَمَّ العَقْدُ وسَلَّمُوا المَبِيعَ قِيلَ لَهُمْ: قَدْ صارَتْ أنْفُسُكم وأمْوالُكم لَنا، والآنَ فَقَدْ رَدَدْناها عَلَيْكم أوْفَرَ ما كانَتْ وأضْعافَ أمْوالِكم مَعَها
﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتًا بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩] لَمْ نَبْتَعْ مِنكم نُفُوسَكم وأمْوالَكم طَلَبًا لِلرِّبْحِ عَلَيْكُمْ، بَلْ لِيَظْهَرَ أثَرُ الجُودِ والكَرَمِ في قَبُولِ المَعِيبِ والإعْطاءِ عَلَيْهِ أجَلَّ الأثْمانِ، ثُمَّ جَمَعْنا لَكم بَيْنَ الثَّمَنِ والمُثَمَّنِ.
تَأمَّلْ قِصَّةَ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " وقَدِ اشْتَرى مِنهُ ﷺ بَعِيرَهُ، ثُمَّ وفّاهُ الثَّمَنَ وزادَهُ، ورَدَّ عَلَيْهِ البَعِيرَ، وكانَ أبُوهُ قَدْ قُتِلَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في وقْعَةِ أُحُدٍ، فَذَكَّرَهُ بِهَذا الفِعْلِ حالَ أبِيهِ مَعَ اللَّهِ، وأخْبَرَهُ
«أنَّ اللَّهَ أحْياهُ، وكَلَّمَهُ كِفاحًا، وقالَ: يا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ» "
فَسُبْحانَ مَن عَظُمَ جُودُهُ وكَرَمُهُ أنْ يُحِيطَ بِهِ عِلْمُ الخَلائِقِ، فَقَدْ أعْطى السِّلْعَةَ، وأعْطى الثَّمَنَ، ووَفَّقَ لِتَكْمِيلِ العَقْدِ، وقَبِلَ المَبِيعَ عَلى عَيْبِهِ، وأعاضَ عَلَيْهِ أجَلَّ الأثْمانِ، واشْتَرى عَبْدَهُ مِن نَفْسِهِ بِمالِهِ، وجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الثَّمَنِ والمُثَمَّنِ، وأثْنى عَلَيْهِ ومَدَحَهُ بِهَذا العَقْدِ، وهو سُبْحانَهُ الَّذِي وفَّقَهُ لَهُ وشاءَهُ مِنهُ.
فَحَيَّهَلا إنْ كُنْتَ ذا هِمَّةٍ فَقَدْ ∗∗∗ حَدا بِكَ حادِي الشَّوْقِ فاطْوِ المَراحِلا
وَقُلْ لِمُنادِي حُبِّهِمْ ورِضاهم ∗∗∗ إذا ما دَعا لَبَّيْكَ ألْفًا كَوامِلا
وَلا تَنْظُرِ الأطْلالَ مِن دُونِهِمْ فَإنْ ∗∗∗ نَظَرْتَ إلى الأطْلالِ عُدْنَ حَوائِلا
وَلا تَنْتَظِرْ بِالسَّيْرِ رِفْقَةَ قاعِدٍ ∗∗∗ ودَعْهُ فَإنَّ الشَّوْقَ يَكْفِيكَ حامِلا
وَخُذْ مِنهم زادًا إلَيْهِمْ وسِرْ عَلى ∗∗∗ طَرِيقِ الهُدى والحُبِّ تُصْبِحْ واصِلا
وَأحْيِ بِذِكْراهم شِراكَ إذا دَنَتْ ∗∗∗ رِكابُكَ فالذِّكْرى تُعِيدُكَ عامِلا
وإمّا تَخافَنَّ الكلالَ فَقُلْ لَها ∗∗∗ أمامَكِ ورْدُ الوَصْلِ فابْغِي المَناهِلا
وَخُذْ قَبَسًا مَن نُورِهِمْ ثُمَّ سِرْ بِهِ ∗∗∗ فَنُورُهم يَهْدِيكَ لَيْسَ المَشاعِلا
وَحَيِّ عَلى وادِي الأراكِ فَقِلْ بِهِ ∗∗∗ عَساكَ تَراهم ثَمَّ إنْ كُنْتَ قائِلا
وَإلّا فَفي نَعْمانَ عِنْدِي مُعَرِّفُ الـ ∗∗∗ أحِبَّةِ فاطْلُبْهم إذا كُنْتَ سائِلا
وَإلّا فَفي جَمْعٍ بِلَيْلَتِهِ فَإنْ ∗∗∗ تَفُتْ فَمِنًى يا ويْحَ مَن كانَ غافِلا
وَحَيِّ عَلى جَنّاتِ عَدْنٍ فَإنَّها ∗∗∗ مَنازِلُكَ الأُولى بِها كُنْتَ نازِلا
وَلَكِنْ سَباكَ الكاشِحُونَ لِأجْلِ ذا ∗∗∗ وقَفْتَ عَلى الأطْلالِ تَبْكِي المَنازِلا
وَحَيِّ عَلى يَوْمِ المَزِيدِ بِجَنَّةِ الـ ∗∗∗ خُلُودِ فَجُدْ بِالنَّفْسِ إنْ كُنْتَ باذِلا
فَدَعْها رُسُومًا دارِساتٍ فَما بِها ∗∗∗ مَقِيلٌ وجاوِزْها فَلَيْسَتْ مَنازِلا
رُسُومًا عَفَتْ يَنْتابُها الخَلْقُ كَمْ بِها ∗∗∗ قَتِيلٌ وكَمْ فِيها لِذا الخَلْقِ قاتِلا
وَخُذْ يَمْنَةً عَنْها عَلى المَنهَجِ الَّذِي ∗∗∗ عَلَيْهِ سَرى وفْدُ الأحِبَّةِ آهِلا
وَقُلْ ساعِدِي يا نَفْسُ بِالصَّبْرِ ساعَةً ∗∗∗ فَعِنْدَ اللِّقا ذا الكَدُّ يُصْبِحُ زائِلا
فَما هي إلّا ساعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي ∗∗∗ ويُصْبِحُ ذُو الأحْزانِ فَرْحانَ جاذِلا
لَقَدْ حَرَّكَ الدّاعِي إلى اللَّهِ وإلى دارِ السَّلامِ النُّفُوسَ الأبِيَّةَ، والهِمَمَ العالِيَةَ وأسْمَعَ مُنادِي الإيمانِ مَن كانَتْ لَهُ أُذُنٌ واعِيَةٌ، وأسْمَعَ اللَّهُ مَن كانَ حَيًّا، فَهَزَّهُ السَّماعُ إلى مَنازِلِ الأبْرارِ، وحَدا بِهِ في طَرِيقِ سَيْرِهِ، فَما حَطَّتْ بِهِ رِحالُهُ إلّا بِدارِ القَرارِ، فَقالَ:
«انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَن خَرَجَ في سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إلّا إيمانٌ بِي وتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أنْ أرْجِعَهُ بِما نالَ مِن أجْرٍ أوْ غَنِيمَةٍ أوْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، ولَوْلا أنْ أشُقَّ عَلى أُمَّتِي ما قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، ولَوَدِدْتُ أنَّي أُقْتَلُ في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أحْيا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أحْيا، ثُمَّ أُقْتَلُ».
وَقالَ:
«مَثَلُ المُجاهِدِ في سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصّائِمِ القائِمِ القانِتِ بِآياتِ اللَّهِ لا يَفْتُرُ مِن صِيامٍ ولا صَلاةٍ حَتّى يَرْجِعَ المُجاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجاهِدِ في سَبِيلِهِ بِأنْ يَتَوَفّاهُ أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أوْ يُرْجِعَهُ سالِمًا مَعَ أجْرٍ أوْ غَنِيمَةٍ».
وَقالَ:
«غَدْوَةٌ في سَبِيلِ اللَّهِ أوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وما فِيها».
وَقالَ فِيما يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالى:
«أيُّما عَبْدٍ مِن عِبادِي خَرَجَ مُجاهِدًا في سَبِيلِي ابْتِغاءَ مَرْضاتِي، ضَمِنتُ لَهُ أنْ أُرْجِعَهُ إنْ أرْجَعْتُهُ بِما أصابَ مِن أجْرٍ أوْ غَنِيمَةٍ، وإنْ قَبَضْتُهُ أنْ أغْفِرَ لَهُ وأرْحَمَهُ وأُدْخِلَهُ الجَنَّةَ»وَقالَ:
«جاهِدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ، فَإنَّ الجِهادَ في سَبِيلِ اللَّهِ بابٌ مِن أبْوابِ الجَنَّةِ يُنَجِّي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهَمِّ والغَمِّ».
وَقالَ:
«أنا زَعِيمٌ - والزَّعِيمُ الحَمِيلُ - لِمَن آمَنَ بِي، وأسْلَمَ وهاجَرَ بِبَيْتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ، وبِبَيْتٍ في وسَطِ الجَنَّةِ، وأنا زَعِيمٌ لِمَن آمَنَ بِي وأسْلَمَ، وجاهَدَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِبَيْتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ، وبِبَيْتٍ في وسَطِ الجَنَّةِ، وبِبَيْتٍ في أعْلى غُرَفِ الجَنَّةِ، مَن فَعَلَ ذَلِكَ، لَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا، ولا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ شاءَ أنْ يَمُوتَ».
وَقالَ:
«مَن قاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ مِن رَجُلٍ مُسْلِمٍ فُواقَ ناقَةٍ، وجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ».
وَقالَ:
«إنَّ في الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أعَدَّها اللَّهُ لِلْمُجاهِدِينَ في سَبِيلِ اللَّهِ ما بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَإذا سَألْتُمُ اللَّهَ فاسْألُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإنَّهُ أوْسَطُ الجَنَّةِ وأعْلى الجَنَّةِ، وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، ومِنهُ تَفَجَّرُ أنْهارُ الجَنَّةِ».
«وَقالَ لأبي سعيد: مَن رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ " فَعَجِبَ لَها أبو سعيد، فَقالَ: أعِدْها عَلَيَّ يا رَسُولَ اللَّهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " وأُخْرى يَرْفَعُ اللَّهُ بِها العَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ في الجَنَّةِ ما بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ " قالَ: وما هي يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: " الجِهادُ في سَبِيلِ اللَّهِ».
وَقالَ:
«مَن أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبِيلِ اللَّهِ، دَعاهُ خَزَنَةُ الجَنَّةِ كُلُّ خَزَنَةِ بابٍ، أيْ فُلُ هَلُمَّ، فَمَن كانَ مِن أهْلِ الصَّلاةِ، دُعِيَ مِن بابِ الصَّلاةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الجِهادِ، دُعِيَ مِن بابِ الجِهادِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِن بابِ الصَّدَقَةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصِّيامِ، دُعِيَ مِن بابِ الرَّيّانِ فَقالَ أبو بكر: بِأبِي أنْتَ وأُمِّي يا رَسُولَ اللَّهِ ما عَلى مَن دُعِيَ مِن تِلْكَ الأبْوابِ مِن ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعى أحَدٌ مِن تِلْكَ الأبْوابِ كُلِّها؟ قالَ: نَعَمْ وأرْجُو أنْ تَكُونَ مِنهُمْ».
وَقالَ:
«مَن أنْفَقَ نَفَقَةً فاضِلَةً في سَبِيلِ اللَّهِ، فَبِسَبْعِمِائَةٍ، ومَن أنْفَقَ عَلى نَفْسِهِ وأهْلِهِ، وعادَ مَرِيضًا أوْ أماطَ الأذى عَنْ طَرِيقٍ، فالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِها، والصَّوْمُ جُنَّةٌ ما لَمْ يَخْرِقْها، ومَنِ ابْتَلاهُ اللَّهُ في جَسَدِهِ فَهو لَهُ حِطَّةٌ».
وَذَكَرَ ابْنُ ماجَهْ عَنْهُ:
«مَن أرْسَلَ بِنَفَقَةٍ في سَبِيلِ اللَّهِ، وأقامَ في بَيْتِهِ فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، ومَن غَزا بِنَفْسِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وأنْفَقَ في وجْهِهِ ذَلِكَ، فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ ألْفِ دِرْهَمٍ " ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٦١]».
وَقالَ:
«مَن أعانَ مُجاهِدًا في سَبِيلِ اللَّهِ أوْ غارِمًا في غُرْمِهِ أوْ مُكاتَبًا في رَقَبَتِهِ أظَلَّهُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّهُ».
وَقالَ:
«مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَماهُ في سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلى النّارِ».
وَقالَ:
«لا يَجْتَمِعُ شُحٌّ وإيمانٌ في قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ، ولا يَجْتَمِعُ غُبارٌ في سَبِيلِ اللَّهِ ودُخانُ جَهَنَّمَ في وجْهِ عَبْدٍ» وفي لَفْظٍ " في قَلْبِ عَبْدٍ " وفي لَفْظٍ " في جَوْفِ امْرِئٍ " وفي لَفْظٍ " في مَنخِرَيْ مُسْلِمٍ ".
وَذَكَرَ الإمامُ أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى:
«مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَماهُ في سَبِيلِ اللَّهِ ساعَةً مِن نَهارٍ، فَهُما حَرامٌ عَلى النّارِ».
وَذُكِرَ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ:
«لا يَجْمَعُ اللَّهُ في جَوْفِ رَجُلٍ غُبارًا في سَبِيلِ اللَّهِ ودُخانَ جَهَنَّمَ، ومَنِ اغْبَرَّتْ قَدَماهُ في سَبِيلِ اللَّهِ، حَرَّمَ اللَّهُ سائِرَ جَسَدِهِ عَلى النّارِ، ومَن صامَ يَوْمًا في سَبِيلِ اللَّهِ، باعَدَ اللَّهُ عَنْهُ النّارَ مَسِيرَةَ ألْفِ سَنَةٍ لِلرّاكِبِ المُسْتَعْجِلِ، ومَن جُرِحَ جِراحَةً في سَبِيلِ اللَّهِ، خُتِمَ لَهُ بِخاتَمِ الشُّهَداءِ، لَهُ نُورٌ يَوْمَ القِيامَةِ لَوْنُها لَوْنُ الزَّعْفَرانِ، ورِيحُها رِيحُ المِسْكِ يَعْرِفُهُ بِها الأوَّلُونَ والآخِرُونَ، ويَقُولُونَ: فُلانٌ عَلَيْهِ طابَعُ الشُّهَداءِ، ومَن قاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فُواقَ ناقَةٍ، وجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ».
وَذَكَرَ ابْنُ ماجَهْ عَنْهُ:
«مَن راحَ رَوْحَةً في سَبِيلِ اللَّهِ، كانَ لَهُ بِمِثْلِ ما أصابَهُ مِنَ الغُبارِ مِسْكًا يَوْمَ القِيامَةِ».
وَذَكَرَ أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ:
«ما خالَطَ قَلْبَ امْرِئٍ رَهَجٌ في سَبِيلِ اللَّهِ إلّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النّارَ».
وَقالَ:
«رِباطُ يَوْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وما عَلَيْها».
وَقالَ:
«رِباطُ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ خَيْرٌ مِن صِيامِ شَهْرٍ وقِيامِهِ، وإنْ ماتَ، جَرى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كانَ يَعْمَلُهُ، وأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وأمِنَ الفَتّانَ».
وَقالَ:
«كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلى عَمَلِهِ إلّا الَّذِي ماتَ مُرابِطًا في سَبِيلِ اللَّهِ فَإنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ويُؤَمَّنُ مِن فِتْنَةِ القَبْرِ».
وَقالَ:
«رِباطُ يَوْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِن ألْفِ يَوْمٍ فِيما سِواهُ مِنَ المَنازِلِ».
وَذَكَرَ ابْنُ ماجَهْ عَنْهُ:
«مَن رابَطَ لَيْلَةً في سَبِيلِ اللَّهِ، كانَتْ لَهُ كَألْفِ لَيْلَةٍ صِيامِها وقِيامِها».
وَقالَ:
«مُقامُ أحَدِكم في سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِن عِبادَةِ أحَدِكم في أهْلِهِ سِتِّينَ سَنَةً، أما تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكم وتَدْخُلُونَ الجَنَّةَ؟ جاهِدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ، مَن قاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فُواقَ ناقَةٍ، وجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ».
وَذَكَرَ أحمد عَنْهُ:
«مَن رابَطَ في شَيْءٍ مِن سَواحِلِ المُسْلِمِينَ ثَلاثَةَ أيّامٍ، أجْزَأتْ عَنْهُ رِباطَ سَنَةٍ».
وَذُكِرَ عَنْهُ أيْضًا:
«حَرَسُ لَيْلَةٍ في سَبِيلِ اللَّهِ أفْضَلُ مِن ألْفِ لَيْلَةٍ يُقامُ لَيْلُها، ويُصامُ نَهارُها».
وَقالَ:
«حُرِّمَتِ النّارُ عَلى عَيْنٍ دَمَعَتْ أوْ بَكَتْ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ، وحُرِّمَتِ النّارُ عَلى عَيْنٍ سَهِرَتْ في سَبِيلِ اللَّهِ».
وَذَكَرَ أحمد عَنْهُ:
«مَن حَرَسَ مِن وراءِ المُسْلِمِينَ في سَبِيلِ اللَّهِ مُتَطَوِّعًا لا يَأْخُذُهُ سُلْطانٌ، لَمْ يَرَ النّارَ بِعَيْنَيْهِ إلّا تَحِلَّةَ القَسَمِ، فَإنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَإنْ مِنكم إلّا وارِدُها﴾ [مريم: ٧١]».
وَقالَ لِرَجُلٍ حَرَسَ المُسْلِمِينَ لَيْلَةً في سَفَرِهِمْ مِن أوَّلِها إلى الصَّباحِ عَلى ظَهْرِ فَرَسِهِ لَمْ يَنْزِلْ إلّا لِصَلاةٍ أوْ قَضاءِ حاجَةٍ:
«قَدْ أوْجَبْتَ فَلا عَلَيْكَ ألّا تَعْمَلَ بَعْدَها».
وَقالَ:
«مَن بَلَغَ بِسَهْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَهُ دَرَجَةٌ في الجَنَّةِ».
وَقالَ:
«مَن رَمى بِسَهْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَهو عِدْلُ مُحَرَّرٍ، ومَن شابَ شَيْبَةً فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، كانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ القِيامَةِ» وعِنْدَ النَّسائِيِّ تَفْسِيرُ الدَّرَجَةِ بِمِائَةِ عامٍ.
وَقالَ:
«إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الواحِدِ الجَنَّةَ: صانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، والمُمِدَّ بِهِ، والرّامِيَ بِهِ، وارْمُوا وارْكَبُوا، وأنْ تَرْمُوا أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ تَرْكَبُوا، وكُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَباطِلٌ إلّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، أوْ تَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، ومُلاعَبَتَهُ امْرَأتَهُ، ومَن عَلَّمَهُ اللَّهُ الرَّمْيَ فَتَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، فَنِعْمَةٌ كَفَرَها» رَواهُ أحمد وأهْلُ السُّنَنِ وعِنْدَ ابْنِ ماجَهْ
«مَن تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ، فَقَدْ عَصانِي».
وَذَكَرَ أحمد عَنْهُ أنَّ رَجُلًا قالَ لَهُ: أوْصِنِي فَقالَ:
«أُوصِيكَ بِتَقْوى اللَّهِ، فَإنَّهُ رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ، وعَلَيْكَ بِالجِهادِ، فَإنَّهُ رَهْبانِيَّةُ الإسْلامِ، وعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وتِلاوَةِ القُرْآنِ، فَإنَّهُ رُوحُكَ في السَّماءِ، وذِكْرٌ لَكَ في الأرْضِ».
وَقالَ:
«ذِرْوَةُ سَنامِ الإسْلامِ الجِهادُ».
وَقالَ:
«ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: المُجاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ، والمُكاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأداءَ، والنّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ العَفافَ».
وَقالَ:
«مَن ماتَ، ولَمْ يَغْزُ، ولَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، ماتَ عَلى شُعْبَةٍ مِن نِفاقٍ».
وَذَكَرَ أبو داود عَنْهُ:
«مَن لَمْ يَغْزُ، أوْ يُجَهِّزْ غازِيًا، أوْ يَخْلُفْ غازِيًا في أهْلِهِ بِخَيْرٍ، أصابَهُ اللَّهُ بِقارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ».
وَقالَ:
«إذا ضَنَّ النّاسُ بِالدِّينارِ والدِّرْهَمِ، وتَبايَعُوا بِالعِينَةِ، واتَّبَعُوا أذْنابَ البَقَرِ، وتَرَكُوا الجِهادَ في سَبِيلِ اللَّهِ، أنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلاءً، فَلَمْ يَرْفَعْهُ عَنْهم حَتّى يُراجِعُوا دِينَهُمْ»وَذَكَرَ ابْنُ ماجَهْ عَنْهُ:
«مَن لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، ولَيْسَ لَهُ أثَرٌ في سَبِيلِ اللَّهِ، لَقِيَ اللَّهَ وفِيهِ ثُلْمَةٌ».
وَقالَ تَعالى:
﴿وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥]، وفَسَّرَ أبُو أيُّوبَ الأنْصارِيُّ الإلْقاءَ بِاليَدِ إلى التَّهْلُكَةِ بِتَرْكِ الجِهادِ، وصَحَّ عَنْهُ ﷺ:
«إنَّ أبْوابَ الجَنَّةِ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ».
وَصَحَّ عَنْهُ:
«مَن قاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا، فَهو في سَبِيلِ اللَّهِ».
وَصَحَّ عَنْهُ:
«إنَّ النّارَ أوَّلُ ما تُسَعَّرُ بِالعالِمِ والمُنْفِقِ والمَقْتُولِ في الجِهادِ إذا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقالَ».
وَصَحَّ عَنْهُ:
«أنَّ مَن جاهَدَ يَبْتَغِي عَرَضَ الدُّنْيا، فَلا أجْرَ لَهُ».
وَصَحَّ عَنْهُ أنَّهُ قالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو:
«إنْ قاتَلْتَ صابِرًا مُحْتَسِبًا، بَعَثَكَ اللَّهُ صابِرًا مُحْتَسِبًا، وإنْ قاتَلْتَ مُرائِيًا مُكاثِرًا، بَعَثَكَ اللَّهُ مُرائِيًا مُكاثِرًا، يا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَلى أيِّ وجْهٍ قاتَلْتَ أوْ قُتِلْتَ، بَعَثَكَ اللَّهُ عَلى تِلْكَ الحالِ».
(تَنْبِيه)
يا أيها الأعز لا حذر فراسة المتقي فَإنَّهُ يرى عَورَة عَمَلك من وراء ستر.
اتَّقوا فراسة المُؤمن سُبْحانَ الله في النَّفس كِبر إبْلِيس وحسد قابيل وعتو عاد وطغيان ثَمُود وجرأة نمْرُود واستطالة فِرْعَوْن وبغي قارون وقحّة هامان وهوى بلعام وحيل أصْحاب السبت وتمرد الوليد وجَهل أبي جهل.
وفيها من أخْلاق البَهائِم حرص الغُراب، وشره الكَلْب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضَّب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسق الفَأْرَة، وخبث الحَيَّة، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثَّعْلَب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، غير أن الرياضة والمجاهدة تذْهب ذَلِك، فَمن استرسل مَعَ طبعه فَهو من هَذا الجند ولا تصلح سلْعَته لعقد
﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ﴾فَما اشْترى إلّا سلْعَة هذبها الإيمان، فَخرجت من طبعها إلى بلد سكانه
﴿التائبون العابدون﴾سلِّم المَبِيع قبل أن يتْلف في يدك فَلا يقبله المُشْتَرِي.
قد علم المُشْتَرِي بِعَيْب السّلْعَة قبل أن يَشْتَرِيها فسلِّمْها ولَك الأمان من الرَّد.
قدر السّلْعَة يعرف بِقدر مشتريها، والثمن المبذول فِيهِ، والمنادي عَلَيْها، فَإذا كانَ المُشْتَرى عَظِيما والثمن خطيرا والمنادي جَلِيلًا كانَت السّلْعَة نفيسة
يا بائِعا نَفسه بيع الهوان لَو استرجعت ذا البيع قبل الفَوْت لم تخب
وبائعا طيب عَيْش ما لَهُ خطر ∗∗∗ بطيف عَيْش من الآلام منتهب
غبنت والله غبنا فاحِشا ولدى ∗∗∗ يَوْم التغابن تلقى غايَة الحَرْب
وواردا صفو عَيْش كُله كدر ∗∗∗ أمامك الورْد حَقًا لَيْسَ بِالكَذِبِ
وحاطب اللَّيْل في الظلماء منتصبا ∗∗∗ لكل داهية تدني من العطب
ترجوا الشِّفاء بأحداق بها مرض ∗∗∗ فَهَل سَمِعت ببرء جاءَ من عطب
ومفنيا نَفسه في أثر أقبحهم ∗∗∗ وصفا للطخ جمال فِيهِ مستلب
وواهبا نَفسه من مثل ذا سفها ∗∗∗ لَو كنت تعرف قدر النَّفس لم تهب
شاب الصِّبا والتصابي لم يشب ∗∗∗ وضاع وقتك بَين اللَّهْو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغُرُوب لَها ∗∗∗ والفيء في الأُفق الشَّرْقِي لم يغب
وفاز بالوصل من قد جدوا انقشعت ∗∗∗ عَن أفقه ظلمات اللَّيْل والسحب
كم ذا التَّخَلُّف والدُّنْيا قد ارتحلت ∗∗∗ ورسل رَبك قد وافتك في الطّلب
ما في الديار وقد سارَتْ ركائب من ∗∗∗ تهواه للصب من شكر ولا أرب
فافرش الخد ذياك التُّراب وقل ∗∗∗ ما قالَه صاحب الأشواق والحقب
ما ربع مية محفوفا يطِيف بِهِ ∗∗∗ غيلان أشهى لَهُ من ربعك الخرب
منازلا كانَ يهواها ويألفها ∗∗∗ أيّام كانَ منال الوَصْل عَن كثب
وَلا الخدود ولَو أدمين من ضرج ∗∗∗ أشهى إلى ناظري من ربعك الخرب
وَكلما جليت تِلْكَ الربوع لَهُ ∗∗∗ يهوى إلَيْها هوى الماء في الصبب
أحيي لَهُ الشوق تذكار العهود بها ∗∗∗ فَلَو دعِي القلب للسلوان لم يجب
هَذا وكم منزل في الأرْض يألفه ∗∗∗ وماله في سواها الدَّهْر من رغب
ما في الخيام أخُو وجدير يحك إن ∗∗∗ بثثته بعض شَأْن الحبّ فاغترب
وَأسر في غَمَرات اللَّيْل متهديا ∗∗∗ بنفحة الطّيب لا بِالعودِ والحطب
وَعاد كل أخي جبن ومعجزة ∗∗∗ وحارب النَّفس لا تلقيك في الحَرْب
وَخذ لنَفسك نورا تستضيء بِهِ ∗∗∗ يَوْم اقتسام الورى الأنْوار بالرتب
إن كانَ يُوجب صبري رَحْمَتي فرضا ∗∗∗ بِسوء حالي وحل للضنا بدني
منحتك الرّوح لا أبغي لَها ثمنا ∗∗∗ إلّا رضاك ووافقري إلا الثّمن
أحن بأطراف النَّهار صبابَة ∗∗∗ وبالليل يدعوني الهوى فَأُجِيب
وَإذا لم يكن من العِشْق بُد ∗∗∗ فَمن عجز عشق غير الجَمِيل
فَلَو أن ما أسعى لعيش معجل ∗∗∗ كفاني مِنهُ بعض ما أنا فِيهِ
ولكنما أسمى لملك مخلد ∗∗∗ فوا أسفا إن لم أكن بملاقيه