الباحث القرآني

(فائدة بديعة) قولهم: "عرفت كذا" أصل وضعها لتمييز الشيء وتعيينه حتى يظهر للذهن منفردا عن غيره وهذه المادة تقتضي العلو والظهور كعرف الشيء لأعلاه ومنه الأعراف ومنه عرف الديك. وأما (علمت) فموضوعة للمركبات لا لتمييز المعاني المفردة ومعنى التركيب فيها إضافة الصفة إلى المحل وذلك أنك تعرف زيدا على حدته وتعرف معنى القيام على حدته ثم تضيف القيام إلى زيد فإضافة القيام إلى زيد هو التركيب وهو متعلق العلم. فإن قلت: علمت فمطلوبها ثلاثة معان محل وصفة وإضافة الصفة إلى المحل وهن ثلاث معلومات إضافة العلم لله لا المعرفة إذا عرفت هذا فقال بعض المتكلمين: لا يضاف إلى الله سبحانه إلا العلم لا المعرفة لأن علمه متعلق بالأشياء كلها مركبها ومفردها تعلقا واحدا بخلاف علم المحدثين فإن معرفتهم بالشيء المفرد وعلمهم به غير علمهم ومعرفتهم لشيء آخر وهذا بناء منه على أن الله تعالى يعلم المعلومات كلها بعلم واحد وأن علمه بصدق رسول الله ﷺ هو عين علمه بكذب مسيلمة الكذاب والذي عليه محققو النظار خلاف هذا القول وأن العلوم متكثرة متغايرة بتكثر المعلومات وتغايرها فلكل معلوم علم يخصه ولإبطال قول أولئك وذكر الأدلة الراجحة على صحة قول هؤلاء مكان هو أليق به وعلى هذا فالفرق بين إضافة العلم إليه تعالى وعدم إضافة المعرفة لا ترجع إلى الإفراد والتركيب في متعلق العلم وإنما ترجع إلى نفس المعرفة ومعناها فإنها في مجاري استعمالها إنما تستعمل فيما سبق تصوره من نسيان أو ذهول أو عزوف عن القلب فإذا تصور وحصل في الذهن قيل عرفه أو وصف له صفته ولم يره فإذا رآه بتلك الصفة وتعينت فيه قيل عرفه ألا ترى أنك إذا غاب عنك وجه الرجل ثم رأيته بعد زمان فتبينت أنه هو قلت عرفته وكذلك عرفت اللفظة وعرفت الديار وعرفت المنزل وعرفت الطريق " وسر المسألة" أن المعرفة لتمييز ما اختلط فيه المعروف بغيره فاشتبه فالمعرفة تمييز له وتعيين ومن هذا قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ﴾ فإنهم كان عندهم من صفته قبل أن يروه ما طابق شخصه عند رؤيته وجاء كما يعرفون أبناءهم من باب ازدواج الكلام وتشبيه أحد اليقينين بالآخر فتأمله. وقد بسطنا هذا في كتاب (التحفة المكية) وذكرنا فيها من الأسرار والفوائد ما لا يكاد يشتمل عليه مصنف. وأما ما زعموا من قولهم إن (علمت) قد يكون بمعنى (عرفت) واستشهادهم بنحو قوله تعالى: ﴿لا تَعْلَمُهم نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ وبقوله: ﴿وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ فالذي دعاهم إلى ذلك أنهم رأوا (علمت) قد تعدت إلى مفعول واحد وهذا هو حقيقة العرفان فاستشهاد ظاهر على أنه قد قال بعض الناس أن تعدي فعل العلم في هذه الآيات وأمثالها إلي مفعول واحد لا يخرجها عن كونها علما على الحقيقة فإنها لا تتعدى إلى مفعول واحد على نحو تعدى (عرفت) ولكن على جهة الحذف والاختصار فقوله: ﴿لا تَعْلَمُهم نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ لا تنفي عنه معرفة أعيانهم وأسمائهم وإنما تنفي عنه العلم بعدوانهم ونفاقهم وما تقدم من الكلام يدلك على ذلك وكذلك قوله: ﴿وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ فربما كانوا يعرفونهم ولا يعلمونهم أعداء لهم فيتعلق العلم بالصفة المضافة إلى الموصوف لا بعينه وذاته قال هذا وإنما مثل من يقول إن علمت بمعنى عرفت من أجل أنها متعدية إلى مفعول واحد في اللفظ كمثل من يقول إن سألت يتعدى إلى غير العقلاء بقولهم: "سألت الحائط وسألت الدار" ويحتج بقوله: ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ قال: وإنما هذا جهل بالمجاز والحذف وكذلك ما تقدم وليس ما قاله هؤلاء بقوى فإن الله سبحانه نفى عن رسوله معرفة أعيان أولئك المنافقين هذا صريح اللفظ وإنما جاء نفي معرفة نفاقهم من جهة اللزوم فهو ﷺ كان يعلم وجود النفاق في أشخاص معينين وهو موجود في غيرهم ولا يعرف أعيانهم وليس المراد أن أشخاصهم كانت معلومة له معروفة عنده وقد انطووا على النفاق وهو لا يعلم ذلك فيهم فإن اللفظ لم يدل على ذلك بوجه والظاهر بل المتعين أنه ﷺ لو عرف أشخاصهم لعرفهم بسيماهم وفي لحن القول ولم يكن يخفى عليه نفاق من يظهر له الإسلام ويبطن عداوته وعداوة الله عز وجل والذي يزيد هذا وضوحا الآية الأخرى فإن قوله: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكم وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ﴾ فيهم قولان: أحدهما: أنهم الجن المظاهرون لأعدائهم من الإنس على محاربة الله ورسوله وعلى هذا فالآية نص في أن العلم فيها بمعنى المعرفة ولا يمكن أن يقال إنهم كانوا عارفين بأشخاص أولئك جاهلين عداوتهم كما أمكن مثله في الإنس. والقول الثاني: أنهم المنافقون وعلى هذا فقوله ﴿لا تعلمونهم﴾ إنما ينبغي حمله على معرفة أشخاصهم لا على معرفة نفاقهم لأنهم كانوا عالمين بنفاق كثير من المنافقين يعلمون نفاقهم ولا يشكون فيه فلا يجوز أن ينفي عنهم علم ما هم عالمون به وإنما ينفي عنهم معرفة أشخاص من هذا الضرب فيكون كقوله تعالى: ﴿لا تَعْلَمُهم نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ فتأمله. ويزيده وضوحا أن هذه الأفعال لا يجوز فيها الاقتصار على أحد المفعولين بخلاف باب أعطى وكسا للعلة المذكورة هناك وهي تعلق هذه الأفعال بالنسبة فلا بد من ذكر المنتسبين بخلاف باب أعطى فإنه لم يتعلق بنسبة فيصح الاقتصار فيه على أحد مفعولين وهذا واضح كما تراه والله تعالى أعلم. وأما تنظيرهم ل سألت الحائط والدار فيما بعد ما بينهما فإن هذا سؤال بلسان الحال وهو كثير في كلامهم جدا على أنه لا يمتنع أن يكون سؤالا بلسان المقال صريحا كما يقول الرجل للدار الخربة ليت شعري ما فعل أهلك، وليت شعري ما صيرك إلى هذه الحال؟ وليس هذا سؤال استعلام بل سؤال تعجب وتفجع وتحزن. وأما قوله ﴿واسأل القرية﴾ فالقرية إن كانت هنا اسما للسكان كما هو المراد بها في أكثر القرآن الكريم والكلام فلا مجاز ولا حذف وإن كان المراد بها المسكن فعلى حذف المضاف فأين التسوية والتنظير.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب