الباحث القرآني

* (فصل) ومن ذلك قوله تعالى ﴿والفَجْرِ (١) ولَيالٍ عَشْرٍ (٢) والشَّفْعِ والوَتْرِ (٣) واللَّيْلِ إذا يَسْرِ (٤) هَلْ في ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥)﴾ قيل جوابه ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ وهذا ضعيف لوجهين: أحدهما طول الكلام والفصل بين القسم وجوابه بجمل كثيرة والثاني قوله ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ ذكر لتقرير عقوبة الله الأمم المذكورة وهي عاد وثمود وفرعون فذكر عقوبتهم ثم قال مقررًا ومحذرا ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ فلا ترى تعلقه بذلك دون القسم. وأحسن من هذا أن يقال إن الفجر في الليالي العشر زمن يتضمن أفعالًا معظمة من المناسك وأمكنة معظمة، وهي محلها. وذلك من شعائر الله المتضمنة خضوع العبد لربه، فإن الحج والنسك عبودية محضة لله وذل وخضوع لعظمته، وذلك ضد ما وصف به عادًا وثمود وفرعون من العتو والتكبر والتجبر، فإن النسك يتضمن غاية الخضوع لله، وهؤلاء الأمم عتوا وتكبروا عن أمر ربهم. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي قال: "ما من أيام للعمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر. قيل يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء" فالزمان المتضمن لمثل هذه الأعمال أهل أن يقسم الرب عز وجل به ﴿والفَجْرِ﴾ إن أريد به جنس الفجر كما هو ظاهر اللفظ فإنه يتضمن وقت صلاة الصبح التي هي أول الصلوات فافتتح القسم بما يتضمن أول الصلوات وختمه بقوله ﴿واللَّيْلِ إذا يَسْرِ﴾ المتضمن لآخر الصلوات وإن أريد بالفجر فجر مخصوص فهو فجر يوم النحر وليلته التي هي ليلة عرفة، فتلك الليلة من أفضل ليالي العام وما رؤي الشيطان في ليلة أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه فيها. وذلك الفجر فجر يوم النحر الذي هو أفضل الأيام عند الله كما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال "أفضل الأيام عند الله يوم النحر" رواه أبو داود بإسناد صحيح. وهو آخر أيام العشر وهو يوم الحج الأكبر كما ثبت في صحيح البخاري وغيره. وهو اليوم الذي أذن فيه مؤذن رسول الله ﷺ ﴿أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ ورَسُولُهُ﴾ وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ولا خلاف أن المؤذن أذن بذلك في يوم النحر لا يوم عرفة، وذلك بأمر رسول الله امتثالًا وتأويلًا للقرآن. وعلى هذا فقد تضمن القسم المناسك والصلوات، وهما المختصان بعبادة الله والخضوع له والتواضع لعظمته، ولهذا قال الخليل عليه السلام ﴿قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ وقيل لخاتم الرسل ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ﴾ بخلاف حال المشركين المتكبرين الذين لا يعبدون الله وحده، بل يشركون به، ويستكبرون عن عبادته كحال من ذكر في هذه السورة من قوم عاد وثمود وفرعون وذكر سبحانه من جملة هذه الأقسام ﴿والشَّفْعِ والوَتْرِ﴾ إذ هذه الشعائر المعظمة منها شفع ومنها وتر في الأمكنة والأزمنة والأعمال. فالصفا والمروة شفع، والبيت وتر، والجمرات وتر، ومنى ومزدلفة شفع، وعرفة وتر. وأما الأعمال فالطواف وتر، وركعتاه شفع، والطواف بين الصفا والمروة وتر، ورمي الجمار وتر. كل ذلك سبع سبع، وهو الأصل فإن الله وتر يحب الوتر. والصلاة منها شفع ومنها وتر، والوتر يوتر الشفع فتكون كلها وترا كما قال النبي ﷺ " صلاة الليل مثنى مثنى" فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت. وأما الزمان فإن يوم عرفة وتر، ويوم النحر شفع. وهذا قول أكثر المفسرين وروى مجاهد عن ابن عباس الوتر آدم وشفع بزوجته حواء وقال في رواية أخرى الشفع آدم وحواء، والوتر الله وحده. وعنه رواية ثالثة الشفع يوم النحر والوتر اليوم الثالث. وقال عمران ابن حصين وقتادة الشفع والوتر هي الصلاة. وروى فيه حديثًا مرفوعًا. وقال عطية العوفي الشفع الخلق قال الله تعالى ﴿وَخَلَقْناكم أزْواجًا﴾ والوتر هو الله. وهذا قول الحكم قال كل شيء شفع والله وتر. وقال أبو صالح خلق الله من كل شيء زوجين اثنين والله وتر واحد. وهذا قول مجاهد ومسروق. وقال الحسن الشفع والوتر العدد كله من شفع ووتر. وقال ابن زيد الشفع والوتر الخلق كله من شفع ووتر. وقال مقاتل الشفع الأيام والليالي والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة. وذكرت أقوال أخر هذه أصولها ومدارها كلها على قولين: أحدهما أن الشفع والوتر نوعان للمخلوقات والمأمورات. والثاني أن الوتر الخالق والشفع المخلوق. وعلى هذا القول فيكون قد جمع في القسم بين الخالق والمخلوق فهو نظير ما تقدم في قوله ﴿والشَّمْسِ وضُحاها﴾ ونظير ما ذكر في قوله ﴿وَشاهِدٍ ومَشْهُودٍ﴾ وما ذكر في قوله ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى﴾ وقال هاهنا ﴿والليل إذا يسر﴾ وفي سورة المدثر أقسم بالليل إذا أدبر، وفي سورة التكوير أقسم بالليل إذا عسعس. وقد فسر بـ أقبل وفسر بأدبر فإن كان المراد إقباله فقد أقسم بأحوال الليل الثلاثة وهي حالة إقباله وحالة امتداده وسريانه وحالة إدباره وهي من آياته الدالة عليه سبحانه وعرف ﴿الفجر﴾ باللام إذ كل أحد يعرفه ونكر (الليالي العشر) لأنها إنما تعرف بالعَلم وأيضًا فإن التنكير تعظيم لها فإن التنكير يكون للتعظيم. وفي تعريف ﴿الفجر﴾ ما يدل على شهرته وأنه الفجر الذي يعرفه كل أحد ولا يجهله. فلما تضمن هذا القسم ما جاء به إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم كان في ذلك ما دل على المقسم عليه، ولهذا اعتبر القسم بقوله تعالى ﴿هَلْ في ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ فإن عظمة هذا المقسم به يعرف بالنبوة، وذلك يحتاج إلى حجر بحجر صاحبه عن الغفلة واتباع الهوى، ويحمله على اتباع الرسل لئلا يصيبه ما أصاب من كذب الرسل كعاد وفرعون وثمود. * وقال في (زاد المعاد) - بعد كلام -: وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ عَلى غَيْرِهِ مِنَ الأيّامِ، فَإنَّ أيّامَهُ أفْضَلُ الأيّامِ عِنْدَ اللَّهِ، وقَدْ ثَبَتَ في " صَحِيحِ البُخارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما مِن أيّامٍ العَمَلُ الصّالِحُ فِيها أحَبُّ إلى اللَّهِ مِن هَذِهِ الأيّامِ العَشْرِ، قالُوا: ولا الجِهادُ في سَبِيلِ اللَّهِ؟ قالَ: ولا الجِهادُ في سَبِيلِ اللَّهِ، إلّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ ومالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِن ذَلِكَ بِشَيْءٍ»، وهي الأيّامُ العَشْرُ الَّتِي أقْسَمَ اللَّهُ بِها في كِتابِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿والفَجْرِ - ولَيالٍ عَشْرٍ﴾ وَلِهَذا يُسْتَحَبُّ فِيها الإكْثارُ مِنَ التَّكْبِيرِ والتَّهْلِيلِ والتَّحْمِيدِ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَأكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّكْبِيرِ والتَّهْلِيلِ والتَّحْمِيدِ»، ونِسْبَتُها إلى الأيّامِ كَنِسْبَةِ مَواضِعِ المَناسِكِ في سائِرِ البِقاعِ. وَمِن ذَلِكَ تَفْضِيلُ شَهْرِ رَمَضانَ عَلى سائِرِ الشُّهُورِ، وتَفْضِيلُ عَشْرِهِ الأخِيرِ عَلى سائِرِ اللَّيالِي، وتَفْضِيلُ لَيْلَةِ القَدْرِ عَلى ألْفِ شَهْرٍ. فَإنْ قُلْتَ: أيُّ العَشْرَيْنِ أفْضَلُ؟ عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ، أوِ العَشْرُ الأخِيرُ مِن رَمَضانَ؟ وأيُّ اللَّيْلَتَيْنِ أفْضَلُ؟ لَيْلَةُ القَدْرِ، أوْ لَيْلَةُ الإسْراءِ؟ قُلْتُ: أمّا السُّؤالُ الأوَّلُ فالصَّوابُ فِيهِ أنْ يُقالَ: لَيالِي العَشْرِ الأخِيرِ مِن رَمَضانَ أفْضَلُ مِن لَيالِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ، وأيّامُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ أفْضَلُ مِن أيّامِ عَشْرِ رَمَضانَ، وبِهَذا التَّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِباهُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ لَيالِيَ العَشْرِ مِن رَمَضانَ إنَّما فُضِّلَتْ بِاعْتِبارِ لَيْلَةِ القَدْرِ، وهي مِنَ اللَّيالِي، وعَشْرُ ذِي الحِجَّةِ إنَّما فُضِّلَ بِاعْتِبارِ أيّامِهِ، إذْ فِيهِ يَوْمُ النَّحْرِ ويَوْمُ عَرَفَةَ ويَوْمُ التَّرْوِيَةِ. * وقال في (بدائع الفوائد) وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيا كافيا فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة وفيهما يوم عرفة ويوم النحر ويوم التروية. وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإحياء التي كان رسول الله ﷺ يحييها كلها وفيها ليلة خير من ألف شهر فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب