الباحث القرآني
ثم ختم السورة بمدح النفس المطمئنة وهي الخاشعة المتواضعة لربها وما تؤول إليه من كرامته ورحمته كما ذكر قبلها حال النفس الأمارة وما تؤول إليه من شدة عذابه ووثاقه.
* (فصل)
قال ابن عباس: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨)﴾
يقول: المصدقة.
وقال قتادة: "هو المؤمن، اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله"
وقال الحسن: "المطمئنة بما قال الله. والمصدقة بما قال"
وقال مجاهد: "هى المنيبة المخبتة التي أيقنت أن الله ربها، وضربت جأشا لأمره وطاعته، وأيقنت بلقائه".
وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى سواه، فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره، واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره، واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، واطمأنت إلى الرضا به ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا واطمأنت إلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى كفايته وحسْبِه وضمانه، فاطمأنت بأنه وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله، وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين.
وإذا كانت بضد ذلك فهي أمارة بالسوء تأمر صاحبها بما تهواه: من شهوات الغي، واتباع الباطل، فهي مأوى كل سوء، وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه.
وقد أخبر سبحانه أنها أمارة بالسوء، ولم يقل "آمرة" لكثرة ذلك منها، وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير، فذلك من رحمة الله، لا منها. فإنها بذاتها أمارة بالسوء؛ لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة، إلا من رحمه الله، والعدل والعلم طارئ عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك، فإذا لم يلهمها رشدها بقيت على ظلمها وجهلها.
فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم، فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة.
فإذا أراد الله سبحانه بها خيرا جعل فيها ما تزكو به وتصلح: من الإرادات والتصورات، وإذا لم يرد بها ذلك تركها على حالها التي خلقت عليها من الجهل والظلم.
* (فائدة)
وَفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ﴾
دَلِيلٌ عَلى أنَّها لا تَرْجِعُ إلَيْهِ إلّا إذا كانَتْ مُطْمَئِنَّةً. فَهُناكَ تَرْجِعُ إلَيْهِ. وتَدْخُلُ في عِبادِهِ. وتَدْخُلُ جَنَّتَهُ.
وَكانَ مِن دُعاءِ بَعْضِ السَّلَفِ اللَّهُمَّ هَبْ لِي نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً إلَيْكَ.
* (لطيفة)
أخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ «أنَّ نَسَمَةَ المُؤْمِنِ طائِرٌ يَعْلَقُ في شَجَرِ الجَنَّةِ»
وَهَذا هو الطّائِرُ الَّذِي رُئِيَ داخِلًا في قَبْرِ ابْنِ عَبّاسٍ لَمّا دُفِنَ، وسُمِعَ قارِئٌ يَقْرَأُ: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾
وَعَلى حَسَبِ بَياضِ هَذا الطّائِرِ وسَوادِهِ وحُسْنِهِ وقُبْحِهِ تَكُونُ الرُّوحُ، ولِهَذا كانَتْ أرْواحُ آلِ فِرْعَوْنَ في صُورَةِ طُيُورٍ سُودٍ تَرِدُ النّارَ بُكْرَةً وعَشِيَّةً.
* (فصل)
وَأمّا الرِّضا عَنْهُ: فَهو رِضا العَبْدِ بِما يَفْعَلُهُ بِهِ، ويُعْطِيهِ إيّاهُ، ولِهَذا لَمْ يَجِئْ إلّا في الثَّوابِ والجَزاءِ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر: ٢٧] فَهَذا بِرِضاها عَنْهُ لِما حَصَلَ لَها مِن كَرامَتِهِ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خالِدِينَ فِيها أبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: ٨].
والرِّضا بِهِ: أصْلُ الرِّضا عَنْهُ، والرِّضا عَنْهُ: ثَمَرَةُ الرِّضا بِهِ.
وَسِرُّ المَسْألَةِ: أنَّ الرِّضا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ. والرِّضا عَنْهُ: مُتَعَلِّقٌ بِثَوابِهِ وجَزائِهِ.
وَأيْضًا: فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّقَ ذَوْقَ طَعْمِ الإيمانِ بِمَن رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا. ولَمْ يُعَلِّقْهُ بِمَن رَضِيَ عَنْهُ، كَما قالَ ﷺ «ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَن رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا.». فَجَعَلَ الرِّضا بِهِ قَرِينَ الرِّضا بِدِينِهِ ونَبِيِّهِ. وهَذِهِ الثَّلاثَةُ هي أُصُولُ الإسْلامِ، الَّتِي لا يَقُومُ إلّا بِها وعَلَيْها.
وَأيْضًا: فالرِّضا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَهُ وعِبادَتَهُ، والإنابَةَ إلَيْهِ، والتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وخَوْفَهُ ورَجاءَهُ ومَحَبَّتَهُ، والصَّبْرَ لَهُ وبِهِ. والشُّكْرُ عَلى نِعَمِهِ: يَتَضَمَّنُ رُؤْيَةَ كُلِّ ما مِنهُ نِعْمَةً وإحْسانًا، وإنْ ساءَ عَبْدُهُ. فالرِّضا بِهِ يَتَضَمَّنُ شَهادَةَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ والرِّضا بِمُحَمَّدٍ رَسُولًا يَتَضَمَّنُ شَهادَةَ أنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ والرِّضا بِالإسْلامِ دِينًا: يَتَضَمَّنُ التِزامَ عُبُودِيَّتِهِ، وطاعَتَهُ وطاعَةَ رَسُولِهِ. فَجَمَعَتْ هَذِهِ الثَّلاثَةُ الدِّينَ كُلَّهُ.
* (فصل آخر)
اعلمْ أنَّ الرِّضا بِالقَضاءِ أشَقُّ شَيْءٍ عَلى النَّفْسِ. بَلْ هو ذَبْحُها في الحَقِيقَةِ. فَإنَّهُ مُخالَفَةُ هَواها وطَبْعِها وإرادَتِها.
وَلا تَصِيرُ مُطَمَئِنَّةً قَطُّ حَتّى تَرْضى بِالقَضاءِ. فَحِينَئِذٍ تَسْتَحِقُّ أنْ يُقالَ لَها: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فادْخُلِي في عِبادِي وادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: ٢٧].
واعلمْ أنَّ الرّاضِيَ مُتَلَقٍّ أوامِرَ رَبِّهِ - الدِّينِيَّةَ والقَدَرِيَّةَ - بِالِانْشِراحِ والتَّسْلِيمِ، وطِيبِ النَّفْسِ، والِاسْتِسْلامِ.
والسّاخِطُ يَتَلَقّاها بِضِدِّ ذَلِكَ إلّا ما وافَقَ طَبْعَهُ. وإرادَتَهُ مِنها.
وَقَدْ بَيَّنّا أنَّ الرِّضا بِذَلِكَ لا يَنْفَعُهُ ولا يُثابُ عَلَيْهِ. فَإنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ لِكَوْنِ اللَّهِ قَدَّرَهُ وقَضاهُ وأمَرَ بِهِ. وإنَّما رَضِيَ بِهِ لِمُوافَقَتِهِ هَواهُ وطَبْعَهُ. فَهو إنَّما رَضِيَ لِنَفْسِهِ وعَنْ نَفْسِهِ. لا بِرَبِّهِ، ولا عَنْ رَبِّهِ.
واعلمْ أنَّ المُخالَفاتِ كُلَّها أصْلُها مِن عَدَمِ الرِّضا.
والطّاعاتِ كُلَّها أصْلُها مِنَ الرِّضا.
وَهَذا إنَّما يَعْرِفُهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ مَن عَرَفَ صِفاتِ نَفْسِهِ، وما يَتَوَلَّدُ عَنْها مِنَ الطّاعاتِ والمَعاصِي.
* (فائدة)
قوله تعالى ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فادْخُلِي في عِبادِي (٢٩) وادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)﴾
أي ادخلي في جملتهم كوني معهم.
وهذا يقال للروح عند الموت.
وقال أيضا في (الروح)
وقد اختلف السلف: متى يقال لها ذلك؟
فقالت طائفة: يقال لها عند الموت، وظاهر اللفظ مع هؤلاء، فإنه خطاب للنفس التي تجردت عن البدن وخرجت منه، وقد فسر ذلك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بقوله في حديث البراء وغيره: فيقال لها اخرجي راضية مرضيا عنك.
وقوله تعالى ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ مطابق لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اللهم الرفيق الأعلى».
وقال أيضا في (الروح)
وقد قال غير واحد من الصحابة والتابعين أن هذا يقال لها عند خروجها من الدنيا يبشرها الملك بذلك، ولا ينافي ذلك قول من قال: إن هذا يقال لها في الآخرة فإنه يقال لها عند الموت وعند البعث وهذه من البشرى التي قال تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ ألّا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا وأبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾».
وهذا التنزل يكون عند الموت ويكون في القبر ويكون عند البعث، وأول بشارة الآخرة عند الموت.
وقد تقدم في حديث البراء بن عازب أن الملك يقول لها عند قبضها:
أبشري بروح وريحان، وهذا من ريحان الجنة.
واحتجوا بما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه اللّه إلى جسده يوم يبعثه «١».
* [فَصْلٌ: الدُّخُولُ في الرِّضا شَرْطٌ في رُجُوعِ النَّفْسِ إلى رَبِّها]
قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ":
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فادْخُلِي في عِبادِي وادْخُلِي جَنَّتِي﴾
لَمْ يَدَعْ في هَذِهِ الآيَةِ لِلْمُتَسَخِّطِ إلَيْهِ سَبِيلًا. وشَرْطُ القاصِدِ الدُّخُولُ في الرِّضا. والرِّضا اسْمٌ لِلْوُقُوفِ الصّادِقِ، حَيْثُما وقَفَ العَبْدُ. لا يَلْتَمِسُ مُتَقَدَّمًا ولا مُتَأخَّرًا، ولا يَسْتَزِيدُ مَزِيدًا. ولا يَسْتَبْدِلُ حالًا. وهو مِن أوائِلِ مَسالِكِ أهْلِ الخُصُوصِ. وأشَقِّها عَلى العامَّةِ.
أمّا قَوْلُهُ: لَمْ يَدَعْ في هَذِهِ الآيَةِ لِلْمُتَسَخِّطِ إلَيْهِ سَبِيلًا فَلِأنَّهُ قَيَّدَ رُجُوعَها إلَيْهِ سُبْحانَهُ بِحالٍ. وهو وصْفُ الرِّضا. فَلا سَبِيلَ إلى الرُّجُوعِ إلَيْهِ مَعَ سَلْبِ ذَلِكَ الوَصْفِ عَنْها. وهَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٣٢].
فَإنَّما أوْجَبَ لَهم هَذا السَّلامَ مِنَ المَلائِكَةِ والبِشارَةَ بِقَيْدٍ، وهو وفاتُهم طَيِّبِينَ. فَلَمْ تُبْقِ الآيَةُ لِغَيْرِ الطَّيِّبِ سَبِيلًا إلى هَذِهِ البِشارَةِ.
والحاصِلُ: أنْ الدُّخُولَ في الرِّضا شَرْطٌ في رُجُوعِ النَّفْسِ إلى رَبِّها. فَلا تَرْجِعُ إلَيْهِ إلّا إذا كانَتْ راضِيَةً.
قُلْتُ: هَذا تَعَلُّقٌ بِإشارَةِ الآيَةِ، لا بِالمُرادِ مِنها. فَإنَّ المُرادَ مِنها: رِضاها بِما حَصَلَ لَها مِن كَرامَتِهِ. وبِما نالَتْهُ مِنها عِنْدَ الرُّجُوعِ إلَيْهِ. فَحَصَلَ لَها رِضاها، والرِّضا عَنْها. وهَذا يُقالُ لَها عِنْدَ خُرُوجِها مِن دارِ الدُّنْيا، وقُدُومِها عَلى اللَّهِ.
قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: إذا تُوُفِّيَ العَبْدُ المُؤْمِنُ أرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكَيْنِ. وأرْسَلَ إلَيْهِ بِتُحْفَةٍ مِنَ الجَنَّةِ. فَيُقالُ: اخْرُجِي أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ، اخْرُجِي إلى رُوحٍ ورَيْحانٍ، ورَبٍّ عَنْكِ راضٍ.
وَفِي وقْتِ هَذِهِ المَقالَةِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ لِلسَّلَفِ.
أحَدُها: أنَّهُ عِنْدَ المَوْتِ. وهو الأشْهَرُ.
قالَ الحَسَنُ: إذا أرادَ قَبْضَها اطْمَأنَّتْ إلى رَبِّها. ورَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ، فَيَرْضى اللَّهُ عَنْها.
وَقالَ آخَرُونَ: إنَّما يُقالُ لَها ذَلِكَ عِنْدَ البَعْثِ.
هَذا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وعَطاءٍ والضَّحّاكِ وجَماعَةٍ.
وَقالَ آخَرُونَ: الكَلِمَةُ الأُولى وهي ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر: ٢٨]
تُقالُ لَها عِنْدَ المَوْتِ.
والكَلِمَةُ الثّانِيَةُ - وهي ﴿فادْخُلِي في عِبادِي وادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: ٢٩]
تُقالُ لَها يَوْمَ القِيامَةِ.
قالَ أبُو صالِحٍ ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ هَذا عِنْدَ خُرُوجِها مِنَ الدُّنْيا.
فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ قِيلَ لَها ﴿فادْخُلِي في عِبادِي وادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: ٢٩]
والصَّوابُ: أنَّ هَذا القَوْلَ يُقالُ لَها عِنْدَ الخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيا، ويَوْمَ القِيامَةِ.
فَإنَّ أوَّلَ بَعْثِها عِنْدَ مُفارَقَتِها الدُّنْيا، وحِينَئِذٍ فَهي في الرَّفِيقِ الأعْلى، إنْ كانَتْ مُطْمَئِنَّةً إلى اللَّهِ، وفي جَنَّتِهِ. كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ. فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ قِيلَ لَها ذَلِكَ. وحِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَمامُ الرُّجُوعِ إلى اللَّهِ ودُخُولُ الجَنَّةِ.
فَأوَّلُ ذَلِكَ عِنْدَ المَوْتِ. وتَمامُهُ ونِهايَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ، فَلا اخْتِلافَ في الحَقِيقَةِ.
وَلَكِنَّ الشَّيْخَ أخَذَ مِن إشارَةِ الآيَةِ: أنَّ رُجُوعَها إلى اللَّهِ مِنَ الخَلْقِ في هَذا العالَمِ إنَّما يَحْصُلُ بِرِضاها. ولَكِنْ لَوِ اسْتُدِلَّ بِالآيَةِ في مَقامِ الطُّمَأْنِينَةِ لَكانَ أوْلى، فَإنَّ هَذا الرُّجُوعَ الَّذِي حَصَلَ لَها فِيهِ رِضاها والرِّضا عَنْها: إنَّما نالَتْهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ. وهو حَظُّ الكَسْبِ مِن هَذِهِ الآيَةِ، ومَوْضِعُ التَّنْبِيهِ عَلى مَوْقِعِ الطُّمَأْنِينَةِ، وما يَحْصُلُ لِصاحِبِها. فَلْنَرْجِعْ إلى شَرْحِ كَلامِهِ.
قَوْلُهُ: الرِّضا هو الوُقُوفُ الصّادِقُ. يُرِيدُ بِهِ الوُقُوفَ مَعَ مُرادِ الرَّبِّ تَبارَكَ وتَعالى الدِّينِيَّ حَقِيقَةً، مِن غَيْرِ تَرَدُّدٍ في ذَلِكَ ولا مُعارَضَةٍ. وهَذا مَطْلُوبُ القَوْمِ السّابِقِينَ. وهو الوُقُوفُ الصّادِقُ مَعَ مَحابِّ الرَّبِّ تَعالى، مِن غَيْرِ أنْ يَشُوبَ ذَلِكَ تُرَدُّدٌ، ولا يُزاحِمَهُ مُرادٌ.
قَوْلُهُ: حَيْثُما وقَفَ العَبْدُ. يَصِحُّ أنْ يَكُونَ العَبْدُ فاعِلًا. أيْ حَيْثُ ما وقَفَ بِإذْنِ رَبِّهِ لا يَلْتَمِسُ تَقَدُّمًا ولا تَأخُّرًا. ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا، وهو أظْهَرُ.
أيْ حَيْثُما وقَفَ اللَّهُ العَبْدَ - فَإنَّ وقَفَ يُسْتَعْمَلُ لازِمًا ومُتَعَدِّيًا - أيْ حَيْثُما وقَفَهُ رَبُّهُ. لا يَطْلُبُ تَقَدُّمًا ولا تَأخُّرًا. وهَذا إنَّما يَكُونُ فِيما يَقِفُهُ فِيهِ مِن مُرادِهِ الكَوْنِيِّ الَّذِي لا يَتَعَلَّقُ بِالأمْرِ والنَّهْيِ. وأمّا إذا وقَفَهُ في مُرادٍ دِينِيٍّ، فَكَمالُهُ بِطَلَبِ التَّقَدُّمِ فِيهِ دائِمًا.
فَإنَّهُ إنْ لَمْ تَكُنْ هِمَّتُهُ التَّقَدُّمَ إلى اللَّهِ في كُلِّ لَحْظَةٍ: رَجَعَ مِن حَيْثُ لا يَدْرِي.
فَلا وُقُوفَ في الطَّرِيقِ ألْبَتَّةَ، ولَكِنْ إذا وقَفَ في مَقامٍ - مِنَ الغِنى والفَقْرِ، والرّاحَةِ والتَّعَبِ، والعافِيَةِ والسَّقَمِ، والِاسْتِيطانِ ومُفارَقَةِ الأوْطانِ - يَقِفُ حَيْثُ وقَفَهُ. لا يَطْلُبُ غَيْرَ تِلْكَ الحالَةِ الَّتِي أقامَهُ اللَّهُ فِيها. وهَذا لِتَصْحِيحِ رِضاهُ بِاخْتِيارِ اللَّهِ لَهُ، والفِناءِ بِهِ عَنِ اخْتِيارِهِ لِنَفْسِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لا يَسْتَزِيدُ مَزِيدًا، ولا يَسْتَبْدِلُ حالًا.
هَذا المَعْنى الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فَرْدٌ مِن أفْرادِ الرِّضا، وهو الرِّضا بِالأقْسامِ والأحْكامِ الكَوْنِيَّةِ الَّتِي لَمْ يُؤْمَرُ بِمُدافَعَتِها.
وَقَوْلُهُ: وهو مِن أوائِلِ مَسالِكِ أهْلِ الخُصُوصِ يَعْنِي أنَّ سُلُوكَ أهْلِ الخُصُوصِ: هو بِالخُرُوجِ عَنِ النَّفْسِ، والخُرُوجُ عَنِ الإرادَةِ: هو مَبْدَأُ الخُرُوجِ عَنِ النَّفْسِ. فَإذا الرِّضا - بِهَذا الِاعْتِبارِ - مِن أوائِلِ مَسالِكِ الخاصَّةِ.
وَهَذا عَلى أصْلِهِ في كَوْنِ الفَناءِ غايَةً مَطْلُوبَةً فَوْقَ الرِّضا.
والصَّوابُ: أنَّ الرِّضا أجَلُّ مِنهُ وأعْلى. وهو غايَةٌ لا بِدايَةٌ.
نَعَمْ فَوْقَهُ مَقامُ الشُّكْرِ فَهو مَنزِلَةٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَنزِلَةِ الصَّبْرِ.
وَقَوْلُهُ: وأشَقِّها عَلى العامَّةِ وذَلِكَ لِمَشَقَّةِ الخُرُوجِ عَنِ الحُظُوظِ عَلى العامَّةِ، والرِّضا أوَّلُ ما فِيهِ: الخُرُوجُ عَنِ الحُظُوظِ. واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
* [فصل: فرحة المؤمن عند مفارقته الدنيا إلى اللّه]
وهاهنا فرحة أعظم من هذا كله وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى اللّه إذا أرسل إليه فبشروه بلقائه، وقال له ملك الموت: أخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان ورب غير غضبان أخرجي راضية مرضيا عنك: يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فادْخُلِي في عِبادِي وادْخُلِي جَنَّتِي}
فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمر بإيثارها فكيف ومن بعدها أنواع من الفرح منها صلاة الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه.
ومنها: فتح أبواب السماء لها وصلاة ملائكة السماء عليها وتشييع مقربيها لها إلى السماء الثانية فتفتح ويصلي عليها أهلها ويشيعها مقربوها هكذا إلى السماء السابعة فكيف يقدر فرحها.
وقد استؤذن لها على ربها ووليها وحبيبها فوقفت بين يديه وأذن لها بالسجود فسجدت ثم سمعته سبحانه يقول اكتبوا كتابه في عليين ثم يذهب به فيرى الجنة ومقعده فيها وما أعد اللّه له ويلقى أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به ويفرح بهم فرح الغائب يقدم على أهله فيجدهم على أحسن حال ويقدم عليهم بخير ما قدم به مسافر هذا كله قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد بجلوسه في ظل العرش وشربه من الحوض وأخذه كتابه بيمينه وثقل ميزانه وبياض وجهه وإعطائه النور التام والناس في الظلمة وقطعة جسر جهنم بلا تعويق وانتهائه إلى باب الجنة وقد أزلفت له في الموقف وتلقي خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة وقدومه على منازله وقصوره وأواجه وسراريه.
وبعد ذلك فرح آخر لا يقدر قدره. ولا يعبر عنه تلاشي هذه الأفراح كلها عنده، وإنما يكون هذا لأهل السنّة المصدقين برؤية وجه ربهم تبارك وتعالى من فوقهم وسلامه عليهم وتكليمه إياهم ومحاضراته لهم.
؎وليست هذه الفرحات إلا ∗∗∗ لذي الترحات في دار الرزايا
؎فشمر ما استطعت الساق واجهد ∗∗∗ لعلك أن تفوز بذي العطايا
؎وصم عن لذة حشيت بلاء ∗∗∗ للذات خلصن من البلايا
؎ودع أمنية إن لم تنلها ∗∗∗ تعذب أو تنل كانت منايا
؎ولا تستبط وعدا من رسول ∗∗∗ أتى بالحق من رب البرايا
؎فهذا الوعد أدنى من نعيم ∗∗∗ مضى بالأمس لو وفقت رايا
* (فصل: في حقيقة النفس)
وهي: ما حقيقة النفس: هل هي جزء من أجزاء البدن، أو عرض من أعراضه، أو جسم مساكن له مودع فيه، أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟
وهل الأمّارة واللوّامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات، أم هي ثلاث أنفس.
فالجواب: أن هذه مسائل قد تكلم الناس فيها من سائر الطوائف، واضطربت أقوالهم فيها وكثر فيها خطؤهم، وهدى اللّه أتباع الرسول وأهل سنته لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فنذكر أقوال الناس وما لهم وما عليهم في تلك الأقوال، ونذكر الصواب بحمد اللّه وعونه:
قال أبو الحسن الأشعري في مقالاته: «اختلف الناس في الروح والحياة هل الروح هي الحياة أو غيرها؟
وهل الروح جسم أم لا؟
فقال النظام: الروح هي جسم وهي النفس، وزعم أن الروح حي بنفسه، وأنكر أن تكون الحياة والقوة معنى غير الحي القوي. وقال آخرون: الروح عرض.
وقال قائلون منهم جعفر بن حرب: لا ندري الروح جوهر أو عرض، واعتلوا في ذلك بقوله تعالى: ﴿ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ ولم يخبر عنها ما هي؟ لا أنها جوهر ولا عرض - قال:- وأظن جعفرا أثبت أن الحياة غير الروح وأثبت أن الحياة عرضا.
وكان الجبائي يذهب إلى أن الروح جسم وأنها غير الحياة، والحياة عرض، ويعتل بقول أهل اللغة: خرجت روح الإنسان، وزعم أن الروح لا تجوز عليها الأعراض.
وقال قائلون: ليس الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع، ولم يرجعوا عن قولهم إلا إلى المعتدل، ولم يثبتوا في الدنيا شيئا إلا الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.
وقال قائلون: إن للروح مغنى خامس غير الطبائع الأربع، وأنه ليس في الدنيا إلا الطبائع الأربع واختلفوا في الروح فثبتها بعضهم طباعا وثبتها بعضهم اختيارا.
وقال قائلون: الروح الدم الصافي الخالص من الكدر والعفونات، وكذلك قالوا في القوة.
وقال قائلون: الحياة هي الحرارة الغريزية، وكل هؤلاء الذين حكينا أقوالهم في الروح من أصحاب الطبائع يثبتون أن الحياة هي الروح.
وكان الأصم لا يثبت للحياة والروح شيئا غير الجسد، ويقول: ليس أعقل إلا الجسد الطويل العريض العميق الذي أراه وأشاهده، وكان يقول النفس هي هذا البدن بعينه لا غير، وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد بحقيقة الشيء لا على أنها معنى غير البدن.
وذكر عن أرسطاطاليس «١»: أن النفس معنى مرتفع عن الوقوع تحت النسق واللون وأنها جوهر بسيط مثبت في العالم كله من الحيوان على جهة الأعمال له والتدبير، وأنه لا تجوز عليه صفة قلة ولا كثرة، قال وهي على ما وصفت من انبساطها في هذا العالم غير منقسمة الذات والبنية وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير «٢».
وقال آخرون: بل النفس معنى موجود ذات حدود وأركان وطول وعرض وعمق وأنها غير مفارقة في هذا العالم لغيرها مما يجري عليه حكم الطول والعرض والعمق، وكل واحد منهما يجمعهما صفة الحد والنهاية (وهذا قول طائفة من الثنوية} «١» يقال لهم المثانية).
وقالت طائفة: إن النفس موصوفة بما وصفها هؤلاء الذين قدمنا ذكرهم من معنى الحدود والنهايات، إلا أنها غير مفارقة لغيرها مما لا يجوز أن يكون موصوفا بصفة الحيوان (وهؤلاء الديصانية)} «٢»
وحكى الحريري عن جعفر بن مبشر أن النفس جوهر ليس هو هذا الجسم وليس بجسم لكنه معنى بين الجوهر والجسم.
وقال آخرون: النفس معنى غير الروح، والروح غير الحياة، والحياة عنده عرض (وهو أبو الهذيل)، وزعم أنه قد يجوز أن يكون الإنسان في حال نومه مسلوب النفس والروح دون الحياة، واستشهد على ذلك بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها﴾.
وقال جعفر بن حرب: النفس عرض من الأعراض يوجد في هذا الجسم، وهو أحد الآلات التي يستعين بها الإنسان على الفعل كالصحة والسلامة وما أشبههما، وأنها غير موصوفة بشيء من صفات الجواهر والأجسام، هذا ما حكاه الأشعري.
وقالت طائفة: النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس، قالوا: والروح عرض وهو الحياة فقط، وهو غير النفس، وهذا قول القاضي أبي بكر بن الباقلاني ومن أتبعه من الأشعرية.
وقالت طائفة: ليست النفس جسما ولا عرضا، وليست النفس في مكان، ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا لون ولا بعض، ولا هي في العالم ولا خارجه، ولا بجانبه ولا مباينة له.
وهذا قول المشائين، وهو الذي حكاه الأشعري عن أرسطاطاليس، وزعموا أن تعلقها بالبدن لا بالحلول فيه ولا بالمجاوزة ولا بالمساكنة ولا بالتصاق ولا بالمقابلة، وإنما هو التدبير له فقط، واختار هذا المذهب البوسنجي، ومحمد بن النعمان الملقب بالمفيد، ومعمر بن عباد الغزالي وهو قول ابن سينا وأتباعه، وهو أردأ المذاهب وأبطلها وأبعدها من الصواب.
قال أبو محمد بن حزم: وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالمعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان، جثة متحيزة مصرفة للجسد، قال: وبهذا نقول، قال: والنفس والروح اسمان مترادفان لمعنى واحد ومعناهما واحد.
وقد ضبط أبو عبد اللّه بن الخطيب مذاهب الناس في النفس فقال: ما يشير إليه كل إنسان بقوله: أنا، إما أن يكون جسما أو عرضا ساريا في الجسم أو لا جسما ولا عارضا ساريا فيه، أما القسم الأول: وهو أنه جسم، فذلك الجسم إما أن يكون هذا البدن وإما أن يكون جسما مشاركا لهذا البدن، وإما أن يكون خارجا عنه
أما القسم الثاني: وهو أن الإنسان عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن،
أما القسم الثالث: وهو أن نفس الإنسان عبارة عن جسم خارج عن هذا البدن فهذا لم يقله أحد، وأما القسم الأول وهو أن الإنسان عبارة عن هذا البدن والهيكل المخصوص فهو قول جمهور الخلق وهو المختار عند أكثر المتكلمين.
قلت: هو قول جمهور الخلق الذين عرف الرازي أقوالهم من أهل البدع وغيرهم من المضلين، وأما أقوال الصحابة والتابعين وأهل الحديث فلم يكن له بها شعور البتة، ولا أعتقد أن لهم في ذلك قولا على عادته في حكاية المذاهب الباطلة في المسألة، والمذهب الحق الذي دل عليه القرآن والسنّة وأقوال الصحابة لم يعرفه ولم يذكره، وهو الذي نسبه إلى جمهور الخلق من أن الإنسان: هو هذا البدن المخصوص فقط، وليس وراءه شيء هو أبطل من الأقوال في المسألة، بل هو أبطل من قول ابن سينا وأتباعه، بل الذي عليه جمهور العقلاء أن الإنسان هو البدن والروح معا، وقد يطلق اسمه على أحدهما دون الآخر بقرينة.
فالناس لهم أربعة أقوال في مسمى الإنسان.
هل هو الروح فقط، أو البدن فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما.
وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه هل هو اللفظ فقط، أو المعنى فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما.
فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه.
قال الرازي: وأما القسم الثاني وهو أن الإنسان عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن، فالقائلون بهذا القول اختلفوا في تعيين ذلك الجسم على وجوه:
الأول: أنه عبارة عن الأخلاط الأربعة التي منها يتولد هذا البدن.
والثاني: أنه الدم.
والثالث: أنه الروح اللطيف الذي يتولد في الجانب الأيسر من القلب وينفذ في الشريانات إلى سائر الأعضاء.
الرابع: أنه الروح الذي يصعد في القلب إلى الدماغ، ويتكيف بالكيفية الصالحة لقبول قوة الحفظ والفكرة والذكر.
الخامس: أنه جزء لا يتجزأ في القلب.
السادس: أنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء، وإفادتها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية.
وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح والبدن وانفصل إلى عالم الأرواح.
وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دل الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة، ونحن نسوق الأدلة عليه على نسق واحد.
الدليل الأول: قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْها المَوْتَ ويُرْسِلُ الأُخْرى إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ ففي الآية ثلاثة أدلة الإخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها.
الرابع: قوله تعالى: ﴿ولَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ في غَمَراتِ المَوْتِ والمَلائِكَةُ باسِطُوا أيْدِيهِمْ أخْرِجُوا أنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهُونِ إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكم أوَّلَ مَرَّةٍ﴾.
وفيها أربعة أدلة:
أحدها: بسط الملائكة أيديهم لتناولها.
الثاني: وصفها بالإخراج والخروج.
الثالث: الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم.
الرابع: الإخبار عن مجيئها إلى ربها، فهذه سبعة أدلة.
الثامن: قوله تعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكم بِاللَّيْلِ ويَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكم فِيهِ لِيُقْضى أجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكم إلى قوله تعالى: {حَتّى إذا جاءَ أحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وهم لا يُفَرِّطُونَ﴾
وفيها ثلاثة أدلة:
أحدها: الإخبار بتوفي الأنفس بالليل.
الثاني: بعثها إلى أجسادها بالنهار.
الثالث: توفي الملائكة له عند الموت فهذه عشرة أدلة:
الحادي عشر: قوله تعالى: ﴿يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فادْخُلِي في عِبادِي وادْخُلِي جَنَّتِي﴾
وفيها ثلاثة أدلة: أحدها: وصفها بالرجوع.
الثاني: وصفها بالدخول.
الثالث: وصفها بالرضا.
واختلف السلف: هل يقال لها ذلك عند الموت أو عند البعث أو في الموضعين؟ على ثلاثة أقوال، وقد روي في حديث مرفوع أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لأبي بكر الصديق: «إما أن الملك سيقولها لك عند الموت».
قال زيد بن أسلم: بشرت بالجنة عند الموت ويوم الجمع وعند البعث. وقال أبو صالح: ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً}
هذا عند الموت فادْخُلِي في عِبادِي وادْخُلِي جَنَّتِي}
قال: هذا يوم القيامة.
فهذه أربعة عشر دليلا.
الخامس عشر: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر». ففيه دليلان:
أحدهما: وصفه بأنه يقبض.
والثاني: أن البصر يراه.
السابع عشر: ما رواه النسائي: حدثنا أبو داود عن عفان بن حماد عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة أن أباه قال: رأيت في المنام كأني أسجد على جبهة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك، فقال: «إن الروح ليلقى الروح» فأقنع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هكذا. قال عفان برأسه إلى حلقه. فوضع جبهته على جبهة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبر أن الأرواح تتلاقى في المنام، وقد تقدم قول ابن عباس: تلتقي أرواح الأحياء والأموات في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك اللّه أرواح الموتى.
الثامن عشر: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في حديث بلال: «إن اللّه قبض أرواحكم وردها إليكم حين شاء».
ففيه دليلان وصفها بالقبض والرد.
العشرون: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» وفيه دليلان: أحدهما: كونها طائرا.
الثاني: تعلقها في شجر الجنة وأكلها على اختلاف التفسيرين.
الثاني والعشرون: قوله: «أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، فاطلع إليهم ربك اطلاعة فقال أي شيء تريدون»؟ الحديث وقد تقدم فيه ستة أدلة:
أحدها: كونها مودعة في جوف طير.
الثاني: أنها تسرح في الجنة.
الثالث: أنها تأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها.
الرابع: أنها تأوي إلى تلك القناديل أي تسكن إليها.
الخامس: أن الرب تعالى خاطبها واستنطقها فأجابته وخاطبته.
السادس: أنها طلبت الرجوع إلى الدنيا فعلم أنها مما يقبل الرجوع.
فإن قيل: هذا كله صفة الطير لا صفة الروح. قيل: بل الروح مودعة في الطير قصدا، وعلى الرواية التي رجحها أبو عمر، وهي قوله: «أرواح الشهداء كطير» ينفي السؤال بالكلية.
التاسع والعشرون: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في حديث طلحة بن عبيد اللّه: أردت مالي بالغابة فأدركني الليل، فأويت إلى قبر عبد اللّه بن عمرو بن حرام، فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ذاك عبد اللّه، ألم تعلم أن اللّه قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة، فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم، فلا تزال كذلك حتى طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها التي كانت». وفيه أربعة أدلة سوى ما تقدم:
أحدها: جعلها في القناديل.
الثاني: انتقالها من حيز إلى حيز.
الثالث: تكلمها وقراءتها في القبر.
الرابع: وصفها بأنها في مكان.
الثالث والثلاثون: حديث البراء بن عازب وقد تقدم سياقه وفيه عشرون دليلا:
أحدها: قول ملك الموت لنفسه: يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً}
وهذا الخطاب لمن يفهم ويعقل.
الثاني: قوله: اخرجي إلى مغفرة من اللّه ورضوان.
الثالث: قوله: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء.
الرابع: قوله: فلا يدعونها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه.
الخامس: قوله: حتى يكفنوها في ذلك الكفن ويحنطوها بذلك الحنوط، فأخبر أنها تكفن وتحنط.
السادس: ثم يصعد بروحه إلى السماء.
السابع: قوله: ويوجد منها كأطيب نفحة مسك وجدت.
الثامن: قوله: فتفتح له أبواب السماء.
التاسع: قوله ويشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى الرب تعالى.
العاشر: قوله فيقول تعالى ردوا عبدي إلى الأرض.
الحادي عشر: قوله فترد روحه إلى جسده.
الثاني عشر: قوله في روح الكافر فتفرق في جسده فيجذبها فتنقطع منها العروق والعصب.
الثالث عشر: قوله ويوجد لروحه كأنتن ريح وجدت على وجه الأرض.
الرابع عشر: قوله فيقذف بروحه عن السماء وتطرح طرحا فتهوي إلى الأرض.
الخامس عشر: قوله فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب؟ وما هذا الروح الخبيث؟ السادس عشر: قوله فيجلسان ويقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فإن كان هذا للروح فظاهر، وإن كان للبدن فهو بعد رجوع الروح إليه من السماء.
السابع عشر: فإذا صعد بروحه قيل: أي رب عبدك فلان.
الثامن عشر: قوله: ارجعوه فأروه ما ذا أعددت له من الكرامة. فيرى مقعده من الجنة والنار.
التاسع عشر: قوله في الحديث: «إذا خرجت روح المؤمن صلى عليها كل ملك للّه بين السماء والأرض»
فالملائكة تصلي على روحه وبني آدم يصلون على جسده.
العشرون: قوله فينظر إلى مقعده من الجنة أو النار حتى تقوم الساعة والبدن قد تمزق وتلاشى وإنما الذي يرى المقعدين الروح.
* [فصل: نفس المؤمن ونفس الكافر]
الرابع والخمسون: حديث أبي موسى تخرج نفس المؤمن من أطيب من ريح المسك فتنطلق بها الملائكة الذين يتوفونه فتلقاهم ملائكة من دون السماء فيقولون: هذا فلان بن فلان، كان يعمل كيت وكيت. بمحاسن عمله، فيقولون:
مرحبا بكم وبه، فيقبضونها فيصعد به من الباب الذي كان يصعد منه عمله، فيشرق في السماوات وهو كبرهان الشمس حتى ينتهي بها إلى العرش، وأما الكافر فإذا قبض انطلق بروحه فيقولون: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان كان يعمل كيت وكيت، لمساوئ أعماله. فيقولون: لا مرحبا، ردوه، فيرد إلى أسفل الأرضين إلى الثرى. ففيه عشرة أدلة:
أحدها: خروج نفسه.
الثاني: طيب ريحها.
الثالث: انطلاق الملائكة بها.
الرابع: تحية الملائكة لها.
الخامس: قبضهم لها.
السادس: صعودهم بها.
السابع: إشراق السماوات لضوئها.
الثامن: انتهاؤها إلى العرش.
التاسع: قول الملائكة: من هذا؟ وهذا سؤال عن عين وذات قائمة بنفسها.
العاشر: قوله ردوه إلى أسفل الأرضين.
* [فصل: خروج نفس المؤمن]
الرابع والستون: حديث أبي هريرة: «إذا خرجت روح المؤمن تلقاه ملكان فيصعدانه إلى السماء، فيقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى اللّه عليك وعلى جسد كنت تعمرينه- وذكر المسك- ثم يصعد به إلى ربه عز وجل، فيقول: ردوه إلى آخر الأجلين» ففيه ستة أدلة:
أحدها: تلقاه ملكان.
الثاني: قوله فيصعدانه إلى السماء.
الثالث: قول الملائكة روح طيبة جاءت من قبل الأرض.
الرابع: صلاتهم عليها.
الخامس: طيب ريحها.
السادس: الصعود بها إلى اللّه عز وجل.
* [فصل: حضور الملائكة عند خروج نفس المؤمن]
الحادي والسبعون: حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه: «أن المؤمن تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، فيعرج بها حتى ينتهي بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان فلان فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أدخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل.
وإذا كان الرجل السوء قال أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، أخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها حتى تخرج، فينتهي بها إلى السماء فيقال: من هذا؟
فيقال: فلان بن فلان فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنه لا تفتح لك أبواب السماء، فترسل إلى الأرض فتصير إلى القبر».
وهو حديث صحيح وفيه عشرة أدلة:
أحدها: قوله كانت في الجسد الطيب وكانت في الجسد الخبث. فهاهنا حال ومحل.
الثاني: قوله أخرجي حميدة.
الثالث: قوله وأبشري بروح وريحان، فهذا بشارة بما تصير إليه بعد خروجها.
الرابع: قوله فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء.
الخامس: قوله فيستفتح لها.
السادس: قوله ادخلي حميدة.
السابع: قوله حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه تعالى.
الثامن: قوله لنفس الفاجر ارجعي ذميمة.
التاسع: فإنه لا تفتح لك أبواب السماء.
العاشر: قوله: فترسل إلى الأرض ثم تصير إلى القبر.
* [فصل: الأرواح جنود مجنّدة]
الحادي والثمانون: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». فوصفها بأنها جنود مجندة، والجنود ذوات قائمة بنفسها ووصفها بالتعارف والتناكر، ومحال أن تكون هذه الجنود أعراضا أو تكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا بعض لها ولا كل.
الثاني والثمانون: قوله في حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه أن الأرواح تتلاقى وتتشام كما تشام الخيل. وقد تقدم.
الثالث والثمانون: قوله في حديث عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما: إن أرواح المؤمنين تتلاقى على مسيرة يومين وما رأى أحدهما صاحبه.
الرابع والثمانون: الآثار التي ذكرناها في خلق آدم، وأن الروح لما دخل في رأسه عطس فقال: الحمد للّه، فلما وصل الروح إلى عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما وصل إلى جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه، وأنها دخلت كارهة وتخرج كارهة.
الخامس والثمانون: الآثار التي فيها إخراج الرب تعالى النسيم وتمييز شقيهم من سعيدهم، وتفاوتهم حينئذ في الإشراق والظلمة، وأرواح الأنبياء فيهم مثل السرج. وقد تقدم.
السادس والثمانون: حديث تميم الداري أن روح المؤمن إذا صعد بها إلى اللّه خر ساجدا بين يديه، وأن الملائكة تتلقى الروح بالبشرى، وأن اللّه تعالى يقول لملك الموت انطلق بروح عبدي فضعه في مكان كذا وكذا. وقد تقدم.
السابع والثمانون: الآثار التي ذكرناها في مستقر الأرواح بعد الموت واختلاف الناس في ذلك، وفي ضمن ذلك الاختلاف إجماع السلف على الروح مستقرا بعد الموت.
الثامن والثمانون: ما قد علم بالضرورة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جاء به وأخبر به الأمة أنه تنبت أجسادهم في القبور، فإذا نفخ في الصور رجعت كل روح إلى جسدها فدخلت فيه فانشقت الأرض عنه فقام من قبره.
وفي حديث الصور أن إسرافيل عليه السلام يدعو الأرواح فتأتيه أرواح المسلمين نورا والأخرى مظلمة، فيجمعها جميعا فيعلقها في الصور، ثم ينفخ فيه فيقول الرب جل جلاله: وعزتي ليرجعن كل روح إلى جسده، فتخرج الأرواح من الصور مثل النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، فيأتي كل روح إلى جسده فيدخل، ويأمر اللّه الأرض فتنشق عنهم فيخرجون سراعا إلى ربهم ينسلون، مهطعين إلى الداعي، يسمعون المنادي من مكان قريب، فإذا هم قيام ينظرون.
وهذا معلوم بالضرورة أن الرسول أخبر به، وأن اللّه سبحانه لا ينشئ لهم أرواحا غير أرواحهم التي كانت في الدنيا، بل هي الأرواح التي اكتسبت الخير والشر، أنشأ أبدانها نشأة أخرى ثم ردها إليها.
التاسع والثمانون: أن الروح والجسد يختصمان بين يدي الرب عز وجل يوم القيامة. قال علي بن عبد العزيز: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما.
قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد، فيقول الروح: يا رب إنما كنت روحا منك جعلتني في هذا الجسد فلا ذنب لي، ويقول الجسد: يا رب كنت جسدا خلقتني ودخل فيه الروح مثل النار، فيه كنت أقوم، وبه كنت أقعد، وبه أذهب، وبه أجيء لا ذنب لي.
قال: فيقال: أنا أقضي بينكما، أخبراني عن أعمى ومقعد دخلا حائطا فقال المقعد للأعمى: إني أرى ثمرا، فلو كانت لي رجلان لتناولت، فقال الأعمى: أنا أحملك على رقبتي، فحمله فتناول من الثمر فأكلا جميعا فعلى من الذنب؟ قالا: عليهما جميعا، فقال:
قضيتما على أنفسكما.
التسعون: الأحاديث والآثار الدالة على عذاب القبر ونعيمه إلى يوم البعث، فمعلوم أن الجسد تلاشى واضمحل، وأن العذاب والنعيم المستمرين إلى يوم القيامة إنما هو على الروح.
الحادي والتسعون: أخبار الصادق والمصدوق صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح عن الشهداء أنهم لما سئلوا ما تريدون؟ قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل فيك مرة أخرى.
فهذا سؤال وجواب من ذات حية عالمة ناطقة تطلب الرد إلى الدنيا والدخول في أجساد خرجت منها، وهذه الأرواح سئلت، وهي تسرح في الجنة والأجساد قد مزقها البلى.
الثاني والتسعون: ما ثبت عن سلمان الفارسي وغيره من الصحابة رضوان اللّه عليهم أن أرواح المؤمنين في برزخ تذهب حيث شاءت، وأرواح الكفار في سجين. وقد تقدم.
الثالث والتسعون: رؤية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأرواح الناس عن يمين آدم ويساره ليلة الإسراء. فرآها متحيزة بمكان معين.
الرابع والتسعون: رؤيته أرواح الأنبياء في السماوات وسلامهم عليه وترحيبهم به كما أخبر به، وأما أبدانهم ففي الأرض.
الخامس والتسعون: رؤيته صلى اللّه عليه وآله وسلم أرواح الأطفال حول إبراهيم الخليل عليه السلام.
السادس والتسعون: رؤيته صلى اللّه عليه وآله وسلم أرواح المعذبين في البرزخ بأنواع العذاب في حديث سمرة الذي رواه البخاري في صحيحه، وقد تلاشت أجسادهم واضمحلت، وإنما كان الذي رآه أرواحهم ونسمهم يفعل بها ذلك.
السابع والتسعون: إخباره سبحانه عن الذين قتلوا في سبيله أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم فرحون مستبشرون بإخوانهم، وهذا للأرواح قطعا لأن الأبدان في التراب تنتظر عود أرواحها إليها يوم البعث.
الثامن والتسعون: ما تقدم من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما، ونحن نسوقه ليتبين كم فيه من دليل على بطلان قول الملاحدة وأهل البدع في الروح، وقد ذكرنا إسناده فيما تقدم، قال: بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم قاعدا تلا هذه الآية: ولَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ في غَمَراتِ المَوْتِ} الآية.
ثم قال: والذي نفس محمد بيده، ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار، فإذا كان عند ذلك صف له سماطان من الملائكة ينتظمان ما بين الخافقين كأن وجوههم الشمس، فينظر إليهم ما يرى غيرهم، وإن كنتم ترون أنه ينظر إليكم مع كل ملك منهم أكفان وحنوط، فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة وقالوا:
أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان اللّه وجنته، فقد أعد اللّه لك من الكرامة ما هو خير لك من الدنيا وما فيها. فلا يزالون يبشرونه فهم ألطف به وأرأف من الوالدة بولدها، ثم يسلون روحه من تحت كل ظفر ومفصل يموت الأول ويبرد كل عضو، الأول فالأول، ويهون عليهم، وإن كنتم ترونه شديدا حتى تبلغ ذقنه فلهي أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حين يخرج من الرحم، فيبتدرونها، كل ملك منهم أيهم يقبضها، فيتولى قبضها ملك، ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: قُلْ يَتَوَفّاكم مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكم ثُمَّ إلى رَبِّكم تُرْجَعُونَ}
فيتلقاها بأكفان بيض ثم يحتضنها إليه فلهو أشد لزوما من المرأة لولدها ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك، فيستنشقون ريحا طيبا ويتباشرون بها ويقولون: مرحبا بالريح الطيبة والروح الطيب، اللهم صل عليه روحا وصل على جسد خرجت منه.
قال: فيصعدون بها فتفوح لهم ريح أطيب من المسك فيصلون عليها ويتباشرون بها، وتفتح لهم أبواب السماء، ويصلي عليها كل ملك في كل سماء تمر بهم، حتى تنتهي بين يدي الجبار جل جلاله، فيقول الجبار عز وجل: مرحبا بالنفس الطيبة، أدخلوها الجنة وأروها مقعدها من الجنة، واعرضوا عليها ما أعددت لها من الكرامة والنعيم، ثم اذهبوا بها إلى الأرض، فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فوالذي نفس محمد بيده لهي أشد كراهية للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد، وتقول: أين تذهبون بي؟
إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه؟ فيقولون: إنا مأمورون بهذا، فلا بد لك منه، فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه، فيدخلون ذلك الروح بين الجسد وأكفانه. فتأمل كم في الحديث من موضع يشهد ببطلان قول المبطلين في الروح.
التاسع والتسعون: ما ذكره عبد الرازق عن معمر بن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما قال: إذا توفي المؤمن بعث إليه ملكان بريحان من الجنة وخرقة تقبض فيها، فتخرج كأطيب رائحة وجدها أحد قط بأنفه، حتى يؤتى به الرحمن جل جلاله، فتسجد الملائكة قبله، ويسجد بعدهم، ثم يدعى ميكائيل عليه السلام فيقال: اذهب بهذه النفس فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتى أسألك عنها يوم القيامة.
وقد تظاهرت الآثار عن الصحابة أن روح المؤمن تسجد بين يدي العرش في وفاة النوم ووفاة الموت، وأما حين قدومها على اللّه فأحسن تحيتها أن تقول: اللهم أنت الحلام ومنك الحلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
وحدثني القاضي نور الدين بن الصائغ قال: كانت لي خالة، وكانت من الصالحات العابدات، قال: عدتها في مرض موتها فقال لي: الروح إذا قدمت على اللّه ووقفت بين يديه ما تكون تحيتها وقولها له؟
قال فعظمت علي مسألتها، وفكرت فيها، ثم قلت: تقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
قال: فلما توفيت رأيتها في المنام فقالت لي: جزاك اللّه خيرا لقد دهشت، فما أدري ما أقوله، ثم ذكرت تلك الكلمة التي قلت لي فقلتها.
* [فصل: روح النائم]
المائة ما قد اشترك في العلم به عامة أهل الأرض من لقاء أرواح الموتى لهم وسؤالهم وإخبارهم إياهم بأمور خفيت عليهم فرأوها عيانا وهذا أكثر من أن يتكلف إيراده.
وأعجب من هذا الوجه الحادي والمائة: أن روح النائم يحصل لها في المنام آثار فتصبح يراها على البدن عيانا وهي من تأثير الروح في الروح كما ذكر القيرواني في (كتاب البستان) عن بعض السلف.
قال: كان لي جار يشتم أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما، فلما كان ذات يوم أكثر من شتمهما، فتناولته وتناولني، فانصرفت إلى منزلي وأنا مغموم حزين، فنمت وتركت العشاء، فرأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في المنام، فقلت: يا رسول اللّه فلان يسب أصحابك! قال: من أصحابي؟ قلت: أبو بكر وعمر، فقال:
خذ هذه المدية فاذبحه بها فأخذتها فأضجعته وذبحته، ورأيت كأن يدي أصابها من دمه فألقيت المدية وأهويت بيدي إلى الأرض لأمسحها فانتبهت وأنا أسمع الصراخ من نحو داره، فقلت: ما هذا الصراخ؟
قالوا: فلان مات فجأة، فلما أصبحنا جئت فنظرت إليه، فإذا خط موضع الذبح.
وفي كتاب المنامات لابن أبي الدنيا عن شيخ من قريش قال: رأيت رجلا بالشام قد اسود نصف وجهه وهو يغطيه، فسألته عن ذلك؟
فقال: قد جعلت للّه علي أن لا يسألني أحد عن ذلك إلا أخبرته به، كنت شديد الوقيعة في علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني آت في منامي فقال لي:
أنت صاحب الوقيعة في؟ فضرب شق وجهي فأصبحت وشق وجهي أسود كما ترى.
وذكر مسعدة عن هشام بن حسان عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة قالت: كنت عند عائشة رضي اللّه عنها فأتتها امرأة مشتملة على يدها، فجعل النساء يولعن بها، فقالت: ما أتيتك إلا من أجل يدي أبي كان رجلا سمحا، وإني رأيت في المنام حياضا عليها رجال معهم آنية يسقون من أتاهم، فرأيت أبي، قلت: أين أمي؟ فقال: انظري، فنظرت فإذا أمي ليس عليها إلا قطعة خرقة، فقال: إنها لم تتصدق قط إلا بتلك الخرقة وشحمة من بقرة ذبحوها، فتلك الشحمة تذاب وتطرف بها وهي تقول: وا عطشاه! قالت: فأخذت إناء من الآنية فسقيتها، فنوديت من فوقي: من سقاها أيبس اللّه يده فأصبحت يدي كما ترين.
وذكر الحارث بن أسد المحاسبي وأصبغ وخلف بن القاسم وجماعة من سعيد بن مسلمة قال: بينما امرأة عند عائشة إذا قالت: بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على أن لا أشرك باللّه شيئا، ولا أسرق ولا أزني، ولا أقتل ولدي ولا آتي ببهتان أفتريه من بين يدي ورجلي، ولا أعصي في معروف، فوفيت لربي ووفى لي ربي، فو اللّه لا يعذبني اللّه فأتاها في المنام ملك فقال لها: كلا إنك تتبرجين، وزينتك تبدين، وخيرك تكندين «١»، وجارك تؤذين، وزوجك تعصين، ثم وضع أصابعه الخمس على وجهها وقال: خمس بخمس ولو زدت زدناك، فأصبحت أثر الأصابع في وجهها.
وقال عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك: سمعت مالكا يقول: إن يعقوب بن عبد اللّه بن الأشج كان من خيار هذه الأمة، نام في اليوم الذي استشهد فيه فقال لأصحابه: إني قد رأيت أمرا ولأخبرته، إني رأيت كأني أدخلت الجنة، فسقيت لبنا فاستقاء فقاء اللبن، واستشهد بعد ذلك، قال أبو القاسم: وكان في غزوة البحر بموضع لا لبن فيه، وقد سمعت غير مالك يذكره ويذكر أنه معروف، فقال: إني رأيت كأني أدخل الجنة فسقيت فيها لبنا، فقال له بعض القوم: أقسمت عليك لما تقيأت، فقاء لبنا يصلد أي يبرق، وما في السفينة لبنا ولا شاة. قال ابن قتيبة: قوله يصلد أي يبرق، يقال: صلد اللبن يصلد، ومنه حديث عمر أن الطبيب سقاه لبنا فخرج من الطعنة أبيض يصلد.
وكان نافع القارئ إذا تكلم يشم من فيه رائحة المسك، فقيل له: كلما قعدت تتطيب؟
فقال: ما أمس طيبا ولا أقربه، ولكن رأيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في المنام وهو يقرأ في فمي، فمن ذلك الوقت يشم من فيَّ هذه الرائحة.
وذكر مسعدة في كتابه في الرؤيا عن ربيع بن زيد الرقاشي قال: أتاني رجلان فقعدا إلي فاغتابا رجلا فنهيتهما، فأتاني أحدهما بعد فقال: إني رأيت في المنام كأن زنجيا أتاني بطبق عليه جنب خنزير لم أر قط أسمن منه، فقال لي: كل، فقلت: آكل لحم خنزير؟ فتهددني فأكلت، فأصبحت وقد تغير فمي، فلم يزل يجد الريح في فمه شهرين.
وكان العلاء بن زياد له وقت يقوم فيه، فقال لأهله تلك الليلة: إني أجد فترة، فإذا كان وقت كذا أيقظوني، فلم يفعلوا، قال: فأتاني آت في منامي فقال:
قم يا علاء بن زياد أذكر اللّه يذكرك، وأخذ شعرات في مقدم رأسي، فقامت تلك الشعرات في مقدم رأسي، فلم تزل قائمة حتى مات، قال يحيى بن بسطام: فلقد غسلناه يوم مات وإنهن لقيام في رأسه.
وذكر ابن أبي الدنيا عن أبي حاتم الرازي عن محمد بن علي قال: كنا بمكة في المسجد الحرام قعودا، فقام رجل نصف وجهه أسود ونصفه أبيض فقال:
يا أيها الناس اعتبروا بي، فإني كنت أتناول الشيخين وأشتمها، فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني آت فرفع يده فلطم وجهي وقال لي: يا عدو اللّه يا فاسق ألست تسب أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما؟ فأصبحت وأنا على هذه الحالة.
وقال محمد بن عبد اللّه المهلبي: رأيت في المنام كأني في رحبة بني فلان، وإذا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جالس على أكمة ومعه أبو بكر، وعمر واقف قدامه، فقال له عمر: يا رسول اللّه إن هذا يشتمني ويشتم أبا بكر، فقال: جيء به يا أبا حفص، فأتى برجل فإذا هو العماني وكان مشهورا بسبهما، فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: أضجعه، فأضجعه، ثم قال: اذبحه، فذبحه، قال:
فما نبهني إلا صياحه، فقلت: ما لي أخبره؟ عسى أن يتوب، فلما تقربت من منزله سمعت بكاء شديدا، فقلت: ما هذا البكاء؟ فقالوا: العماني ذبح البارحة على سريره، قال: فدنوت من عنقه فإذا من أذنه إلى أذنه طريقة حمراء كالدم المحصور.
وقال القيرواني: أخبرني شيخ لنا من أهل الفضل قال: أخبرني أبو الحسن المطلبي إمام مسجد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، قال: رأيت بالمدينة عجبا! كان رجل يسب أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما، فبينما نحن يوما من الأيام بعد صلاة الصبح، إذ أقبل رجل وقد خرجت عيناه وسالتا على خديه، فسألناه ما قصتك؟
فقال: رأيت البارحة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلي بين يديه، ومعه أبو بكر وعمر، فقالا: يا رسول اللّه، هذا الذي يؤذينا ويسبنا! فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: من أمرك بهذا يا أبا قيس؟ فقلت له وأشرت عليه، فأقبل عليّ علي بوجهه ويده وقد ضم أصابعه وبسط السبابة والوسطى وقصد بها إلى عيني فقال: إن كنت كذبت، ففقأ اللّه عينيك وأدخل إصبعيه في عيني، فانتبهت من نومي وأنا على هذه الحال، فكان يبكي ويخبر الناس وأعلن التوبة.
قال القيرواني: وأخبرني شيخ من أهل الفضل، قال: أخبرني فقيه قال: كان عندنا رجل يكثر الصوم ويسرده، ولكنه كان يؤخر الفطر، فرأى في المنام كأن أسودين آخذين بضبعيه} «١» وثيابه إلى تنور محمى ليلقيه فيه، قال: فقلت لهما:
على ما ذا؟ فقالا: على خلافك لسنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فإنه أمر بتعجيل الفطر وأنت تؤخره، قال: فأصبح وجهه قد اسود من وهج النار، فكان يمشي متبرقعا في الناس.
وأعجب من هذا الرجل يرى في المنام وهو شديد العطش والجوع والألم أن غيره قد سقاه وأطعمه أو داواه بدواء، فيستيقظ وقد زال عنه ذلك كله، وقد رأى الناس من هذا عجائب.
وقد ذكر مالك عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة أن جارية لها سحرتها، وأن سيدها دخل عليها وهي مريضة، فقال: إنك سحرت، قالت: ومن سحرني؟
قال: جارية في حجرها صبي قد بال عليها؟ قالت: نعم، قالت: وما دعاك إلى ذلك؟ قالت: أردت تعجيل العتق، فأمرت أخاها أن يبيعها من الأعراب ممن يسيء ملكها، فباعها، ثم إن عائشة رأت في منامها أن اغتسلي من ثلاثة آبار يمد بعضها بعضا فاستسقى لها فاغتسلت فبرأت.
وكان سماك بن حرب قد ذهب بصره، فرأى إبراهيم الخليل في المنام فمسح على عينيه وقال: اذهب إلى الفرات فانغمس فيه ثلاثا. ففعل فأبصر.
وكان إسماعيل بن بلال الحضرمي قد عمي، فأتي في المنام، وقيل له: قل يا قريب يا مجيب يا سميع الدعاء يا لطيف بمن يشاء رد عليّ بصري، فقال الليث بن سعد: أنا رأيته قد عمي ثم أبصر.
وقال عبيد اللّه بن أبي جعفر: اشتكيت شكوى فجهدت منها، فكنت أقرأ آية الكرسي، فنمت، فإذا رجلان قائمان بين يدي، فقال أحدهما لصاحبه أن يقرأ آية فيها ثلاثمائة وستون رحمة أفلا يصيب هذا المسكين فيها رحمة واحدة؟ فاستيقظت فوجدت خفة.
قال ابن أبي الدنيا: اعتلت امرأة من أهل الخير والصلاح بوجع المعدة فرأت في المنام قائلا يقول لها: لا إله إلا اللّه المغلي وشراب الورد. فشربته فأذهب اللّه عنها ما كانت تجد.
قال: وقالت أيضا: رأيت في المنام كأني أقول السناء «١» والعسل وماء الحمص الأسود شفاء لوجع الأوراك، فلما استيقظت أتتني امرأة تشكو وجعا بوركها فوصفت لها ذلك فاستنفعت به.
وقال جالينوس: السبب الذي دعاني إلى فصد العروق «٢» والضوارب أني أمرت به في منامي مرتين، قال: كنت إذ ذاك غرما، قال: وأعرف إنسانا شفاه اللّه من وجع كان به في جنبه يفصد العرق الضارب لرؤيا رآها في منامه.
وقال ابن الخراز: كنت أعالج رجلا ممعودا «٣» فغاب عني، ثم لقيته فسألته عن حاله؟ فقال: رأيت في المنام إنسانا في زي ناسك متوكئا على عصا وقف علي، وقال: أنت رجل ممعود؟ فقلت: نعم، فقال: عليك بالكباء والجلنجبين، فأصبحت فسألت عنهما فقيل لي: الكباء والمصطكى والجلجنبين والورد والمربى بالعسل، فاستعملتها أياما فبرأت، فقلت له: ذلك جالينوس.
والوقائع في هذا الباب أكثر من أن تذكر. قال بعض الناس: إن أصل الطب من المنامات، ولا ريب أن كثيرا من أصوله مستند إلى الرؤيا، كما أن بعضها عن التجارب، وبعضها عن القياس، وبعضها عن إلهام، ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر في (تاريخ الأطباء) وفي كتاب (البستان) للقيرواني وغير ذلك.
* [فصل: فتح أبواب السماء لروح المؤمن]
الوجه الثاني بعد المائة قوله تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهم أبْوابُ السَّماءِ﴾
وهذا دليل على أن المؤمنين تفتح لهم أبواب السماء، وهذا التفتيح هو تفتيحها لأرواحهم عند الموت كما تقدم في الأحاديث المستفيضة: إن السماء تفتح لروح المؤمن حتى ينتهي بها إلى بين يدي الرب تعالى.
وأما الكافر فلا تفتح لروحه أبواب السماء ولا تفتح لجسده أبواب الجنة.
* (فصل)
الوجه الثالث بعد المائة: قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «يا بلال ما دخلت الجنة إلا سمعت خشخشتك بين يدي فبم ذاك؟ قال: ما أحدثت في ليل أو نهار إلا توضأت وصليت ركعتين. قال: بهما»، ومعلوم أن الذي سمع خشخشته بين يديه وهو روح بلال، وإلا فجسده لم ينقل إلى الجنة.
الوجه الرابع بعد المائة: الأحاديث والآثار التي في زيارة القبور والسلام على أهلها ومخاطبتهم والأخبار عن معرفتهم بزوارهم وردهم عليهم السلام. وقد تقدمت الإشارة إليها.
الوجه الخامس بعد المائة: شكاية كثير من أرواح الموتى إلى أقاربهم وغيرهم أمورا مؤذية فيجدونها كما شكوه فيزيلونها.
الوجه السادس بعد المائة: لو كانت الروح عبارة عن عرض من أعراض البدن أو جوهر مجرد ليس بجسم ولا حال فيه لكان قول القائل خرجت وذهبت وقمت وجئت وقعدت وتحركت ودخلت ورجعت ونحو ذلك كله أقوالا باطلة، لأن هذه الصفات ممتنعة الثبوت في حق الأعراض والمجردات، وكل عاقل يعلم صدق قوله وقول غيره ذلك، فالقدح في ذلك قدح في أظهر المعلومات، فهو من باب السفسطة.
لا يقال: حاصل هذا الدليل التمسك بألفاظ الناس وإطلاقاتهم وهي تحتمل الحقيقة والمجاز، فلعل مرادهم دخل جسمي وخرج. لأنه إنما استدللنا بشهادة العقل والفطرة بمعاني هذه الألفاظ، فكل أحد يشهد عقله وحسه بأنه هو الذي دخل وخرج وانتقل، لا مجرد بدنه، فشهادة الحس والعقل بمعاني هذه الألفاظ وإضافتها إلى الروح أصلا وإلى البدن تبعا من أصدق الشهادات والاعتماد على ذلك لا على مجرد الإطلاق اللفظي.
الوجه السابع بعد المائة: أن البدن مركب ومحل لتصرف النفس، فكان دخول البدن وخروجه وانتقاله جاريا مجرى دخول مركبه من فرسه ودابته، فلو كانت النفس غير قابلة للدخول والخروج والانتقال والحركة والسكون لكان ذلك بمنزلة دخول مركب الإنسان إلى الدار وخروجه منها دون دخوله هو، وهذا معلوم البطلان بالضرورة، وكل أحد يعلم أن نفسه وروحه هي التي دخلت وخرجت وانتقلت وصرفت البدن وجعلته تبعا لها في الدخول والخروج، فهو لها بالأصل، وللبدن بالتبع، لكنه للبدن بالمشاهدة، والروح بالعلم والعقل.
الوجه الثامن بعد المائة: أن النفس لو كانت كما يقوله من يقول أنها عرض لكان الإنسان كل وقت قد يبدل مائة ألف نفس أو أكثر، والإنسان إنما هو إنسان بروحه ونفسه لا ببدنه، وكان الإنسان الذي هو الإنسان غير الذي هو قبله وبلحظة وبعده بلحظة، وهذا من نوع الهوس، ولو كانت الروح مجردة، وتعلقها بالبدن بالتدبير فقط لا بالمساكنة والمداخلة لم يمتنع أن ينقطع تعلقها بهذا البدن وتتعلق بغيره، كما يجوز انقطاع تدبير المدبر لبيت أو مدينة عنها، ويعلق بتدبير غيرها، وعلى هذا التدبير فنصير شاكين في أن هذه النفس التي لزيد هي النفس الأولى أو غيرها؟ وهل زيد هو ذلك الرجل أم غيره، وعاقل لا يجوز ذلك فلو كانت أو لروح عرضا أو أمرا مجردا لحصل الشك المذكور.
الوجه التاسع بعد المائة: أن كل أحد يقطع أن نفسه موصوفة بالعلم والفكر والحب والبغض والرضا والسخط وغيرها من الأحوال النفسانية، ويعلم أن الموصوف ليس بذلك عرضا من أعراض بدنه ولا جوهرا مجردا منفصلا عن بدنه غير مجاور له، ويقطع ضرورة بأن هذه إدراكات لأمر داخل في بدنه، كما يقطع بأنه إذا سمع وأبصر وشم وذاق ولمس وتحرك وسكن فتلك أمور قائمة به مضافة إلى نفسه، وإن جوهر النفس الذي هو قام به ذلك كله لم يقم بمجرد ولا بعرض، بل قام متحيز داخل العالم، منتقل من مكان إلى مكان، يتحرك ويسكن ويخرج ويدخل، وليس هذا إلا هذا البدن والجسم الساري فيه المشابك لو لاه لكان بمنزلة الجماد.
الوجه العاشر بعد المائة: أن النفس لو كانت مجردة وتعلقها بالبدن تعلق التدبير فقط كتعلق الملاح بالسفينة، والجمال بجمله لأمكنها ترك تدبير هذا البدن واشتغالها بتدبير بدن آخر، كما يمكن الملاح والجمال ذلك، وفي ذلك تجويز نقل النفوس من أبدان إلى أبدان، ولا يقال أن النفس اتحدت ببدنها فامتنع عليها الانتقال، أو أنها لها عشق طبيعي وشوق ذاتي إلى تدبير هذا البدن، فلهذا السبب امتنع انتقالها، لأنا نقول: اتحاد ما لا يتحيز بالمتحيز محال. ولأنها لو اتحدت به لبطلت ببطلانه، ولأنها بعد الاتحاد إن بقيا فهما اثنان لا واحد، وإن عدما معا وحدث ثالث فليس من الاتحاد في شيء، وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فليس باتحاد أيضا. وأما عشق النفس الطبيعي للبدن فالنفس إنما تعشقه لأنها تتناول اللذات بواسطته، وإذا كانت الأبدان متساوية في حصول مطلوبها كانت نسبتها إليها على السواء، فقولكم إن النفس المعينة عاشقة للبدن المعين باطل، ومثال ذلك العطشان إذا صادف آنية متساوية كل منها يحصل غرضه امتنع عليه أن يعشق واحدا بعينه دون سائرها.
الوجه الحادي عشر بعد المائة: أن نفس الإنسان لو كانت جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة عنه ولا مباينة ولا مجانبة لكان يعلم بالضرورة أنه موجود بهذه الصفة، لأن علم الإنسان بنفسه وصفاتها أظهر من كل معلوم، وأن علمه بما عداه تابع لعلمه بنفسه، ومعلوم قطعا أن ذلك باطل، فإن جماهير أهل الأرض يعلمون أن إثبات هذا المجود محال في العقول شاهدا وغائبا، فمن قال ذلك في نفسه وربه فلا نفسه عرف ولا ربه عرف.
الوجه الثاني عشر بعد المائة: أن هذا البدن المشاهد محل لجميع صفات النفس وإدراكاتها الكلية والجزئية، ومحل للقدرة على الحركات الإرادية، فوجب أن يكون الحامل لتلك الإدراكات والصفات هو البدن وما سكن فيه. أما أن يكون محلها جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه فباطل بالضرورة.
الوجه الثالث عشر بعد المائة: أن النفس لو كانت مجردة عن الجسمية والتحيز لامتنع أن يتوقف فعلها عن مماسة محل الفعل، لأن ما لا يكون متحيزا يمتنع أن يصير مماسا للمتحيز، ولو كان الأمر كذلك لكان فعلها على سبيل الاختراع من غير حاجة إلى حصول مماسة وملاقاة بين الفاعل وبين محل الفعل، فكان الواحد منا يقدر على تحريك الأجسام من غير أن يماسها أو يماس شيئا يماسها، فإن النفس عندكم كما كانت قادرة على تحريك البدن من غير أن يكون بينها وبينه مماسة كذلك لا تمتنع قدرتها على تحريك جسم غيره من غير ممارسة له ولا لما يماسه، وذلك باطل بالضرورة، فعلم أن النفس لا تقوى على التحريك إلا بشرط أن تماس محل الحركة أو تماس ما يماسه، وكل ما كان مماسا للجسم أو لما يماسه فهو جسم.
فإن قيل: يجوز أن يكون تأثير النفس في تحريك بدنها الخاص غير مشروط بالممارسة وتأثيرها في تحريك غيره موقوف على حصول المماسة بين بدنها وبين ذلك الجسم.
فالجواب: أنه لما كان قول البدن لتصرفات النفس لا يتوقف على حصول المماسة بين النفس وبين؟ وجب أن تكون الحال كذلك في غيره من الأجسام، لأن الأجسام متساوية في قبول الحركة، ونسبة النفس إلى جميعها سواء، لأنها إذا كانت مجردة عن الحجمية وعلائق الحجمية كانت نسبة ذاتها إلى الكل بالسوية، ومتى كانت ذات الفاعل نسبتها إلى الكل بالسوية والقوابل نسبتها إلى ذلك الفاعل بالسوية كان التأثير بالنسبة إلى الكل على السواء، فإذا استغنى الفاعل عن مماسة محل الفعل في حق البعض وجب أن يستغني في حق الجميع، وإن افتقر إلى الممارسة في البعض وجب افتقاره في الجميع.
فإن قيل: النفس عاشقة لهذا البدن دون غيره فكان تأثيرها فيه أقوى من تأثيرها في غيره قبل هذا العشق الشديد، يقتضي أن يكون تعلقها بالبدن أكثر، وتصرفها فيه أقوى، فأما أن يتغير بمقتضى ذاتها بالنسبة إلى هذه الأجسام فذلك محال. وهذا دليل في غاية القوة.
الوجه الرابع عشر بعد المائة: أن العقلاء كلهم متفقون على أن الإنسان هو هذا الحي الناطق المتغذي النامي الحساس المتحرك بالإرادة، وهذه الصفات نوعان، صفات لبدنه وصفات لروح ونفسه الناطقة، فلو كانت الروح جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة به ولا منفصلة عنه، لكان الإنسان لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلة به ولا منفصلا عنه، أو كان بعضه في العالم وبعضه لا داخل العالم ولا خارجه، وكل عاقل يعلم بالضرورة بطلان ذلك، وأن الإنسان بجملته داخل العالم بدنه وروحه، وهذا في البطلان يضاهي قول من قال إن نفسه قديمة غير مخلوقة، فجعلوا نصف الإنسان مخلوقا ونصفه غير مخلوق.
فإن قيل نحن نسلم أن الإنسان كما ذكرتم إلا أنا نثبت جوهرا مجردا يدبر الإنسان الموصوف بهذه الصفات. قلنا: فذلك الجوهر الذي أثبتموه مغاير للإنسان أو هو حقيقة الإنسان؟ ولا بدّ لكم من أحد الأمرين: فإن قلتم هو غير الإنسان رجع كلامكم إلى أنكم أثبتم للإنسان مدبرا غيره وسميتموه نفسا، وكلامنا الآن إنما هو في حقيقة الإنسان لا في مدبره، فإن مدبر الإنسان وجميع العالم العلوي والسفلي هو اللّه الواحد القهار.
الوجه الخامس عشر بعد المائة: أن كل عاقل إذا قيل له ما الإنسان؟ فإنه يشير إلى هذه البنية وما قام بها لا يخطر بباله أمر مغاير لها مجرد ليس في العالم ولا خارجه والعلم بذلك ضروري لا يقبل شكا ولا تشكيكا.
الوجه السادس عشر بعد المائة: أن عقول العالمين قاضية بأن الخطاب متوجه إلى هذه البنية وما قام بها وساكنها، وكذلك المدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب، ولو أن رجلا قال: المأمور والمنهي والممدوح والمذموم والمخاطب والعاقل جوهر مجرد ليس في العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه لأضحك العقلاء على عقله ولأطبقوا على تكذبه، وكل ما شهدت بداهته العقول وصرائحها ببطلانه كان الاستدلال على ثبوته استدلال على صحة وجود المحال، وباللّه التوفيق.
* (فصل: هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران؟)
فاختلف الناس في ذلك.
فمن قائل: أن مسماهما واحد وهم الجمهور.
ومن قائل: أنهما متغايران، ونحن نكشف سر المسألة بحول اللّه وقوته فنقول النفس تطلق على أمور:
أحدها: الروح قال الجوهري النفس الروح يقال خرجت نفسه قال أبو خراش:
؎نجا سالما والنفس منه بشدقه ∗∗∗ ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر
أي يحفن سيف ومئزر (والنفس والدم) يقال سالت نفسه وفي الحديث ما لا نفسه له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه (والنفس الجسد).
قال الشاعر:
؎نبئت أن بني تميم أدخلوا ∗∗∗ أبناءهم تامور النفس المنذر
والتامور الدم (والنفس العين) يقال أصابت فلانا أي عين.
قلت: ليس كما قال بل النفس هاهنا الروح ونسبة الإضافة إلى العين وسع لأنها تكون بواسطة النظر المصيب والذي أصابه إنما هو نفس العائن كما تقدم.
قلت: والنفس في القرآن تطلق على الذات بجملتها كقوله تعالى: ﴿فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها﴾ وقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾
وتطلق على الروح وحدها كقوله تعالى: ﴿يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ وقوله تعالى: ﴿أخْرِجُوا أنْفُسَكُمُ﴾ وقوله تعالى: ﴿ونَهى النَّفْسَ عَنِ الهَوى﴾ وقوله تعالى: ﴿إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾.
وأما الروح فلا تطلق على البدن بانفراده ولا مع النفس، وتطلق الروح على القرآن الذي أوحاه اللّه تعالى إلى رسوله قال تعالى: ﴿وكَذلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾.
وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله قال تعالى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ﴾
وقال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ أنْ أنْذِرُوا أنَّهُ لا إلهَ إلّا أنا فاتَّقُونِ﴾
وسمى ذلك روحا لما يحصل به من الحياة النافعة فإن الحياة بدونه لا تنفع صاحبها البتة بل حياة الحيوان البهيم خير منها وأسلم عاقبة.
وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن وكذلك سميت الريح لما يحصل بها من الحياة وهي من ذوات الواو ولهذا تجمع على أرواح. قال الشاعر:
؎إذا هبت الأرواح من نحو أرضكم ∗∗∗ وجدت لمسرها على كبدي بردا
ومنها الروح والريحان والاستراحة، فسميت النفس روحا لحصول الحياة بها وسميت نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما من تنفس الشيء إذا خرج فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفسا، ومنه النفس بالتحريك، فإن العبد كلما نام خرجت منه فإذا استيقظ رجعت إليه فإذا مات خرجت خروجا كليا فإذا دفن عادت إليه فإذا سئل خرجت فإذا بعث رجعت إليه.
فالفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات، وإنما سمي الدم نفسا لأن خروجه الذي يكون معه الموت يلازم خروج النفس وأن الحياة لا تتم به كما تتم إلا بالنفس فلهذا قال:
؎تسيل على حد الظباة نفوسنا ∗∗∗ وليست على غير الظباة تسيل
ويقال فاضت نفسه وخرجت نفسه وفارقت نفسه كما يقال خرجت روحه وفارقت ولكن الفيض الاندفاع وهلة واحدة ومنه الإفاضة وهي الاندفاع بكثرة وسرعة لكن أفاض إذا رفع باختياره وإراداته وفاض إذا اندفع قسرا وقهرا فاللّه سبحانه هو الذي يقضيها عند الموت فتفيض هي.
* فصل
وقالت: فرقة أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوف: الروح غير النفس، قال مقاتل بن سليمان: للإنسان حياة وروح ونفس فإذا نام خرجت نفسه التي يعقل بها الأشياء ولم تفارق الجسد بل تخرج كحبل ممتد له شعاع فيرى الرؤيا بالنفس التي خرجت منه وتبقى الحياة والروح في الجسد فيه يتقلب ويتنفس فإذا حرك رجعت إليه أسرع من طرفة عين فإذا أراد اللّه عز وجل أن يميته في المنام أمسك تلك النفس التي خرجت، وقال أيضا إذا نام خرجت نفسه فصعدت إلى فوق فإذا رأت الرؤيا رجعت فأخبرت الروح ويخبر الروح فيصبح يعلم أنه قد رأى كيت وكيت.
قال أبو عبد اللّه بن منده: ثم اختلفوا في معرفة الروح والنفس فقال بعضهم النفس طينية نارية والروح نورية روحانية.
وقال: بعضهم الروح لاهوتية «١» والنفس ناسوتية «٢» وأن الخلق بها ابتلي.
وقالت طائفة: وهم أهل الأثر أن الروح غير النفس، والنفس غير الروح وقوام النفس بالروح، والنفس صورة العبد، والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لابن آدم من نفسه، فالنفس لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها، وجعل الهوى تبعا للنفس، والشيطان تبع النفس والهوى، والملك مع العقل والروح، واللّه تعالى يمدهما بإلهامه وتوفيقه.
وقال بعضهم: الأرواح من أمر اللّه أخفي حقيقتها وعلمها على الخلق.
وقال بعضهم: الأرواح نور من اللّه وحياة من حياة اللّه.
ثم اختلفوا في الأرواح هل تموت بموت الأبدان والأنفس أو لا تموت؟
فقالت طائفة: الأرواح لا تموت ولا تبلى.
وقالت جماعة: الأرواح على صورة الخلق لها أيد وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان.
وقالت طائفة: للمؤمن ثلاثة أرواح، وللمنافق والكافر روح واحدة.
وقال بعضهم للأنبياء والصديقين خمس أرواح.
وقال بعضهم: الأرواح روحانية خلقت من الملكوت، فإذا صفت رجعت إلى الملكوت.
قلت: أما الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة، وهي النفس. وأما ما يؤيد اللّه به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى: ﴿أُولئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ﴾
وكذلك الروح الذي أيد بها روحه المسيح ابن مريم كما قال تعالى: ﴿إذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعَلى والِدَتِكَ إذْ أيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ﴾
وكذلك الروح التي يلقيها على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن.
وأما القوى التي في البدن فإنها تسعى أيضا أرواحا فيقال الروح الباصر والروح السامع والروح الشام، فهذه الأرواح قوى مودعة في البدن تموت بموت الأبدان، وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن ولا تبلى كما يبلى، ويطلق الروح على أخص من هذا كله وهو قوة المعرفة باللّه والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه، وهي الروح التي يؤيد بها أهل ولايته وطاعته، ولهذا يقول الناس فلان فيه روح، وفلان ما فيه روح وهو قصبة فارغة ونحو ذلك.
فللعلم روح، وللإحسان روح، وللإخلاص روح، وللمحبة والإنابة روح، وللتوكل والصدق روح، والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت منهم من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيا بهيميا، واللّه المستعان.
* (فصل: هل النفس واحدة أم ثلاث]
فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث أنفس، نفس مطمئنة، ونفس لوّامة، ونفس أمّارة، وأن منهم من تغلب عليه هذه ومنهم من تغلب عليه الأخرى، ويحتجون على ذلك بقوله تعالى: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ وبقوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ. ولا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ﴾
وبقوله تعالى: ﴿إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾
والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات فتسمى
باعتبار كل صفة باسم فتسمى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته وللإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه.
فإن سمة محبته وخوفه ورجائه منها قطيع النظر عن محبة غيره وخوفه ورجائه، فيستغني بمحبته عن حب ما سواه وبذكره عن ذكر ما سواه وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه، فالطمأنينة إلى اللّه سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه حتى كأنه جالس بين يديه؟ يسمع به ويبصر به ويتحرك به ويبطش به، فتسري تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه إلى اللّه ويلين جلده وقلبه ومفاصله إلى خدمته والتقرب إليه ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقة إلا باللّه وبذكره وهو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكْرِ اللَّهِ ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾.
فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج عنه، وهذا لا يتأتى بشيء سوى اللّه تعالى وذكره البتة، وأما ما عداه فالطمأنينة إليه وبه غرور والثقة به عجز قضى اللّه سبحانه وتعالى قضاء لا مرد له أن من اطمأن إلى شيء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته كائنا من كان، بل لو اطمأن إلى سواه أغراضها بسهام البلاء ليعلم عباده وأولياؤه أن المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.
وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة أن تطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كماله إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول. والتسليم، والإذعان، وانشراح الصدر له؛ وفرح القلب به.
فإنه معرف من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله، فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه، وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه، فينزل عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش، فيطمئن إليه، ويسكن إليه، ويفرح به، ويلين له قلبه ومفاضله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل، بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة أمينة فلو خالفه في ذلك من بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم.
وقال: إذا استوحش من الغربة قد كان الصديق الأكبر مطمئنا بالإيمان وحده وجميع أهل الأرض يخالفه وما نقص ذلك من طمأنينته شيء.
فهذا أول درجات الطمأنينة ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه.
وهذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي عليه بناؤه ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعدها من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانا وهذا حقيقة اليقين الذي وصف به سبحانه وتعالى أهل الإيمان حيث قال: وبِالآخِرَةِ هم يُوقِنُونَ}
فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر اللّه سبحانه به عنها طمأنينة إلى الأمور التي لا يشك فيها ولا يرتاب.
فهذا هو المؤمن حقا باليوم الآخر كما في حديث حارثة أصبحت مؤمنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال «عرفت نفسي عن الدنيا وأهلها وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها وأهل النار يعذبون فيها» فقال: عبد نور اللّه قلبه.
* (فصل)
النفس المطمئنة والملك وجنده من الإيمان يقتضيان من النفس المطمئنة التوحيد والإحسان والبر والتقوى والصبر والتوكل والتوبة والإنابة والإقبال على اللّه، وقصر الأمل والاستعدادات للموت وما بعده.
والشيطان وجنده من الكفر يقتضيان من النفس الأمّارة ضد ذلك وقد سلط اللّه سبحانه الشيطان على كل ما ليس له ولم يرد به وجهه ولا هو طاعة له وجعل ذلك إقطاعه فهو يستنيب النفس الأمّارة على هذا العمل والإقطاع ويتقاضى أن تأخذ الأعمال من النفس المطمئنة فنجعلها قوة لها فهي أحرص شيء على تخليص الأعمال كلها وأن تصير من حظوظها، فأصعب شيء على النفس المطمئنة تخليص الأعمال من الشيطان ومن الأمارة للّه فلو وصل منها عمل واحد كما ينبغي لنجابه العبد ولكن أبت الأمارة والشيطان أن يدعا لها عملا واحدا يصل إلى اللّه كما قال بعض العارفين باللّه وبنفسه واللّه لو أعلم أن لي عملا واحدا يصل إلى اللّه لكنت أفرح بالموت من الغائب يقدم على أهله، وقال عبد اللّه بن عمر لو أعلم أن اللّه تقبل مني سجدة واحدة لم يكن غائب أحب إلي من الموت إنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ}.
* (فصل)
وقد انتصبت الأمّارة في مقابلة المطمئنة فكما جاءت به تلك من خير ضاهتها هذه وجاءتها من الشر بما يقابله حتى تفسده عليها فإذا جاءت بالإيمان والتوحيد جاءت هذه بما يقدح في الإيمان من الشك والنفاق وما يقدح في التوحيد من الشرك ومحبة غير اللّه وخوفه ورجائه ولا نرضى حتى تقدم محبة غيره وخوفه ورجائه على محبته سبحانه وخوفه ورجائه فيكون ما له عندها هو المؤخر وما للخلق هو المقدم، وهذا حال أكثر الخلق، وإذا جاءت تلك بتجريد المتابعة للرسول جاءت هذه بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم على الوحي وأتت من الشبه المضلة بما يمنعها من كمال المتابعة وتحكيم السنّة وعدم الالتفات إلى آراء الرجال فتقوم الحرب بين هاتين النفسين، والمنصور من نصره اللّه، وإذا جاءت تلك بالإخلاص والصدق والتوكل والإنابة والمراقبة جاءت هذه بأضدادها وأخرجتها في عدة قوالب وتقسم باللّه ما مرادها إلا الإحسان والتوفيق واللّه يعلم أنها كاذبة وما هو مرادها إلا مجرد حظها واتباع هواها والتفلت من سجن المتابعة والتحكيم والمحض للسنّة إلى قضاء إرادتها وشهوتها وحظوظها ولعمر اللّه ما تخلصت إلا من قضاء المتابعة والتسليم إلى سجن الهوى والإرادة وضيقه وظلمته ووحشته فهي مسجونة في هذا العالم وفي البرزخ وفي أضيق منه ويوم الميعاد الثاني في أضيق منهما.
ومن أعجب أمرها أنها تسجر العقل والقلب فتأتي إلى أشرف الأشياء وأفضلها وأجلها فنخرجه في صورة مذمومة وأكثر الخلق صبيان العقول أطفال الأحلام ولم يصلوا إلى حد الفطام الأول عن العوائد والمألوفات فضلا عن البلوغ الذي يميز به العاقل البالغ بين خير الخيرين فيؤثره وشر الشرين فيجتنبه فتريه صورة تجريد التوحيد التي هي أبهى من صورة الشمس والقمر صورة التنقيص المذموم وهضم العظماء منازلهم في وحطهم منها إلى مرتبة العبودية المحضة والمسكنة والذل والفقر المحض الذي لا ملكة لهم معه ولا إرادة ولا شفاعة إلا من بعد إذن اللّه فتريهم النفس السحّارة هذا القدر غاية تنقيصهم وهضمهم وتزول أقدارهم وعدم تمييزهم عن المساكين والفقراء فتغفر نفوسهم من تجريد التوحيد أشد النفار ويقولون أ جَعَلَ الآلِهَةَ إلهًا واحِدًا إنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ}
وتريهم تجريد المتابعة للرسول وما جاء به وتقديمه على آراء الرجال في صورة تنقيص العلماء والرغبة عن أقوالهم وما فهموه عن اللّه ورسوله وإن هذا إساءة أدب عليهم وتقدم بين أيديهم وهو مفض إلى إساءة الظن بهم وأنهم قد فاتهم الصواب وكيف لنا قوة أن نرد عليهم ونفور ونحظى بالصواب دونهم فتنفر من ذلك أشد النفار وتجعل كلامهم هو المحكم الواجب الاتباع وكلام الرسول هو المتشابه الذي يعرض على أقوالهم فما وافقها قبلناه وما خالفها رددناه أو أولناه أو فرضناه وتقسم النفس السحّارة باللّه أن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم اللّه ما في قلوبهم.
وتريه صورة الإخلاص في صورة ينفر منها وهي الخروج عن حكم العقل المعيشي والمداراة والمداهنة التي بها اندراج حال صاحبها ومشيه بين الناس فمتى أخلص أعماله ولم يعمل لأحد شيئا تجنبهم وتجنبوه وأبغضهم وأبغضوه، وعاداهم، وعادوه وسار على جادة فينفر من ذلك أشد النفار وغايته أن يخلص في القدر اليسير من أعماله التي لا تتعلق بهم وسائر أعماله لغير اللّه.
وتريه صورة الصدق مع اللّه وجهاد من خرج عن دينه وأمره في قالت الانتصاب لعداوة الخلق وأذاهم وحربهم وأنه يعرض نفسه من البلاء لما لا يطيق وأنه يصير غرضا لسهام الطاعنين. وأمثال ذلك من الشبه التي تقيمها النفس السحّارة والخيالات التي تخيلها، ويريه حقيقة الجهاد في صورة تقتل فيها النفس وتنكح المرأة ويصير الأولاد يتامى ويقسم المال، وتريه حقيقة الزكاة والصدقة في صورة مفارقة المال ونقصه وخلو اليد منه واحتياجه إلى الناس ومساواته للفقير وعوده بمنزلته، وتريه حقيقة إثبات صفات الكمال للّه في صورة التشبيه والتمثيل فيفر من التصديق بها وينفر غيره، ونريه حقيقة التعطيل والإلحاد فيها في صورة التنزيه والتعظيم.
وأعجب من ذلك أنها تضاهي ما يحبه اللّه ورسوله من الصفات والأخلاق والأفعال بما يبغضه منها، وتلبس على العبد أحد الأمرين بالآخر، ولا يخلص من هذا إلا أرباب البصائر، فإن الأفعال تصدر عن الإرادات وتظهر على الأركان من النفسي الأمّارة والمطمئنة ليتباين الفعلان في الباطن، ويشتبهان في الظاهر، ولذلك أمثلة كثيرة منها المداراة والمداهنة فالأول من المطمئنة والثاني من الأمّارة، وخشوع الإيمان وخشوع النفاق، وشرف النفس والنيّة والحمية والجفاء، والتواضع والمهانة، والقوة في أمر اللّه والعلو في الأرض والحمية للّه والغضب له والحمية للنفس والغضب لها، والجود والسرف، والمهابة والكبر، والصيانة والتكبر، والشجاعة والجرأة، والحزم والجبن والاقتصاد والشح، والاحتراز وسوء الظن، والفراسة والظن، والنصيحة والغيبة، والهدية والرشوة، والصبر والقسوة، والعفو والذل، وسلامة القلب والبله والغفلة، والثقة، والغرة والرجاء والتمني، والتحدث بنعم اللّه والفخر بها، ومرح القلب وفرح النفس. ورقة القلب والجزع، والموجدة والحقد، والمنافسة والحسد، وحب الرئاسة وحب الإمامة والدعوة إلى اللّه، والحب للّه والحب مع اللّه، والتوكل والعجز، والاحتياط والوسوسة، وإلهام الملك، وإلهام الشيطان، والإناة والتسويف، والاقتصاد والتقصير، والاجتهاد والغلو والنصيحة والتأنيب والمبادرة والعجلة، والأخبار بالحال عند الحاجة والشكوى.
فالشيء الواحد تكون صورته واحدة وهو منقسم إلى محمود ومذموم كالفرح والحزن، والأسف والغضب، والغيرة والخيلاء، والطمع والتجمل، والخشوع والحسد والغبطة والجرأة والتحسر والحرص، والتنافس وإظهار النعمة والحلف والمسكنة والصمت والزهد والورع والتخلي والعزلة، والأنفة والحمية والغيبة، وفي الحديث: «أن من الغيرة ما يحبها اللّه ومنها ما يكرهه، فالغيرة التي يحبها اللّه الغيرة في ريبة، والتي يكرهها الغيرة في غير ريبة، وأن من الخيلاء ما يحبه اللّه ومنها ما يكرهه. فالتي يحب الخيلاء في الحرب» «١»
وفي الصحيح أيضا: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه اللّه مالا وسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الحكمة فهو يقتضي بها ويعلمها» «٢»
وفي الصحيح أيضا: «إن اللّه رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» «١».
وفيه أيضا: «من أعطى حظه من الرفق، فقد أعطى حظه من الخير» «٢»
فالرفق شيء والتواني والكسل شيء فإن المتواني يتثاقل عن مصلحته بعد إمكانها فيتقاعد عنها، والرفيق يتلطف في تحصيلها بحسب الإمكان مع المطاوعة وكذلك المداراة صفة مدح والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليقره على باطله ويتركه على هواه فالمداراة لأهل الإيمان والمداهنة لأهل النفاق، ولقد ضرب لذلك مثل مطابق وهو حال رجل به قرحة قد آلمته فجاءه الطبيب المداوي الرفيق فتعرف حالها ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجت أخذ في بطنها برفق وسهولة، حتى أخرج ما فيها ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فساده ويقطع مادته ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبه اللحم ثم يذر عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها ثم يشد عليها الرباط ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت، والمداهن قال لصاحبها: لا بأس عليك منها وهذه لا شيء فاسترها عن العيون بخرقة ثم آله عنها فلا تزال مدتها تقوى وتستحكم حتى عظم فسادها، وهذا المثل أيضا مطابق كل المطابقة لحال النفس الأمّارة مع المطمئنة فتأمله، فإذا كانت هذه حال قرحة بقدر الحمصة فكيف بسقم هاج من نفس أمّارة بالسوء، هي معدن الشهوات ومأوى كل فسق وقد قارنها شيطان في غاية المكر والخداع يعدها ويمنيها ويسحرها بجميع أنواع السحر حتى يخيل إليها النافع ضارا والضار نافعا والحسن قبيحا والقبيح جميلا، وهذا لعمروا اللّه من أعظم أنواع السحر، ولهذا يقول سبحانه: فَأنّى تُسْحَرُونَ}
والذي نسبوا إليه الرسل من كونهم مسحورين هو الذي أصابهم بعينه وهم أهله لا رسل اللّه صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، كما أنهم نسبوهم إلى الأنبياء والرسل وأمراء الأمم بالاستعاذة من شر النفس الأمّارة وصاحبها وقرينها الشيطان إلا لأنهما أصل كل شر وقاعدته ومنعته وهما متساعدان عليه متعاونان.
؎رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ∗∗∗ بألحم داج عوض لا نتفرق
قال اللّه تعالى: ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾
وقال: وإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
وقال وقُلْ رَبِّ أعُوذُ بِكَ مِن هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحْضُرُونِ}
وقال تعالى: ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ. مِن شَرِّ ما خَلَقَ. ومِن شَرِّ غاسِقٍ إذا وقَبَ. ومِن شَرِّ النَّفّاثاتِ في العُقَدِ. ومِن شَرِّ حاسِدٍ إذا حَسَدَ﴾
فهذا استعاذة من شر النفس وقال: قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ. مَلِكِ النّاسِ. إلهِ النّاسِ. مِن شَرِّ الوَسْواسِ الخَنّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النّاسِ. مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ}
فهذا استعاذة من قرينها وصاحبها وبئس القرين والصاحب، فأمر اللّه سبحانه نبيه وأتباعه بالاستعاذة بربوبيته التامة الكاملة من هذين الخلقين العظيم شأنهما في الشر والفساد؛ والقلب بين هذه العدوين لا يزال شرهما يطرقه وينتابه وأول ما يدب فيه السقم من النفس الأمّارة من الشهوة وما يتبعها من الحرب والحرص والطلب والغضب ويتبعه من الكبر والحسد والظلم والتسلط فيعلم الطبيب الغاش الخائن بمرضه فيعوده ويصف له أنواع السموم والمؤذيات. يخيل إليه بسحره أن شفاءه فيها. يتفق ضعف القلب بالمرض وقوة النفس الأمّارة والشيطان وتتابع إعدادها وأنه فقد حاضر ولذة عاجلة والداعي إليه يدعو من كل ناحية والهوى ينفذ والشهوة تهون والنفس بالأكثر والتشبه بهم والرضا بأن يصيبه ما أصابهم فكيف يستجيب مع هذه القواطع وأضعافها لداعي الإيمان ومنادي الجنة إلا من أمده اللّه بإمداد التوفيق وأيده برحمته وتولى حفظه وحمايته، فتح بصيرة قلبه فرأى سرعة انقطاع الدنيا وزوالها وتقلبها بأهلها وفعلها بهم وإنهاء الحياة الدائمة كغمس إصبع في البحر بالنسبة إليه.
{"ayahs_start":25,"ayahs":["فَیَوۡمَىِٕذࣲ لَّا یُعَذِّبُ عَذَابَهُۥۤ أَحَدࣱ","وَلَا یُوثِقُ وَثَاقَهُۥۤ أَحَدࣱ","یَـٰۤأَیَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَىِٕنَّةُ","ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِیَةࣰ مَّرۡضِیَّةࣰ","فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی","وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی"],"ayah":"وَلَا یُوثِقُ وَثَاقَهُۥۤ أَحَدࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق