الباحث القرآني

* (فصل) ثمَّ تَأمل الحِكْمَة العجيبة في الجبال الَّذِي يحسبها الجاهِل الغافل فضلَة في الأرض لا حاجَة إليها وفيها من المَنافِع ما لا يُحْصِيه إلا خالِقها وناصبها وفي حَدِيث إسْلام ضمام بن ثَعْلَبَة قَوْله للنَّبِي بِالَّذِي نصب الجبال وأودع فِيها المَنافِع آللَّهُ أمرك بِكَذا وكَذا قالَ اللَّهُمَّ نعم. فَمن مَنافِعها أن الثَّلج يسْقط عَلَيْها فَيبقى في قللها حاصِلا لشراب النّاس إلى حِين نقاذه وجعل فِيها ليذوب أولا فأولا فتجيء مِنهُ السُّيُول الغزيرة وتسيل مِنهُ الأنهار والأودية فينبت في المروج والوهاد والربا ضروب النَّبات والفواكه والأدوية الَّتِي لا يكون مثلها في السهل والرمل، فلولا الجبال لسقط الثَّلج على وجه الأرض فانحل جملَة وساح دفْعَة فَعدم وقت الحاجة إليه، وكانَ في انحلاله جملَة السُّيُول الَّتِي تهْلك ما مرت عَلَيْهِ، فَيضر بِالنّاسِ ضَرَرا لا يُمكن تلافيه ولا دَفعه لأذيته. من مَنافِعها ما يكون في حصونها وقللها من المغارات والكهوف والمعاقل الَّتِي منزلَة الحُصُون والقلاع. وَهِي أيضا أكنان للنّاس والحَيَوان. وَمن مَنافِعها ما ينحت من أحجارها للأبنية على اخْتِلاف أصنافها والأرحية وغَيرها. وَمن مَنافِعها ما يُوجد فِيها من المَعادِن على اخْتِلاف أصنافها من الذَّهَب والفِضَّة والنحاس والحَدِيد والرصاص والزبرجد والزمرد وأضعاف ذَلِك من أنواع المَعادِن الَّذِي يعجز البشر عَن مَعْرفَتها على التَّفْصِيل حَتّى إن فِيها ما يكون الشَّيْء اليَسِير مِنهُ تزيد قِيمَته ومنفعته على قيمَة الذَّهَب بأضعاف مضاعفة. وفيها من المَنافِع ما لا يُعلمهُ إلا فاطرها ومبدعها سُبْحانَهُ. وَمن مَنافِعها أيضا أنها ترد الرِّياح العاصِفَة وتكسر حدتها فَلا تدعها تصدم ما تحتها، ولِهَذا فالساكنون تحتها في أمان من الرِّياح العِظام المؤذية. وَمن مَنافِعها أيضا أنها ترد عَنْهُم السُّيُول إذا كانَت في مجاريها فتصرفها عَنْهُم ذات اليَمين وذات الشمال، ولولاها خربت السُّيُول في مجاريها ما مرت بِهِ فَتكون لَهُم بِمَنزِلَة السد والسكن. وَمن مَنافِعها أنها أعْلام يسْتَدلّ بها في الطرقات فَهي منزلَة الأدلة المنصوبة المرشدة إلى الطّرق، ولِهَذا سَمّاها الله أعلاما فَقالَ ﴿وَمن آياته الجَوارِ في البَحْر كالأعلام﴾ فالجواري هي السفن والأعلام الجبال واحِدها علم قالَت الخنساء ؎وَإن صخرا لتأتم الهداة بِهِ ∗∗∗ كأنه علم في رأسه نار فَسمى الجَبَل علما من العَلامَة والظهور. وَمن مَنافِعها أيضا ما ينْبت فِيها من العقاقير والأدوية الَّتِي لا تكون في السهول والرمال كَما أن ما ينْبت في السهول والرمال لا ينْبت مثله في الجبال، وفي كل من هَذا وهَذا مَنافِع وحكم لا يُحِيط بِهِ إلا الخلاق العَلِيم. وَمن مَنافِعها أنها تكون حصونا من الأعداء يتحرز فِيها عباد الله من أعدائهم كَما يتحصنون بالقلاع، بل تكون أبلغ وأحْصن من كثير من القلاع والمدن. وَمن مَنافِعها ما ذكره الله تَعالى في كِتابه أن جعلها للْأرْض أوتادا تثبتها ورواسي بِمَنزِلَة مراسي السفن وأعظم بها من مَنفَعَة وحِكْمَة. هَذا وإذا تَأمَّلت خلقتها العجيبة البديعة على هَذا الوَضع وجدتها في غايَة المُطابقَة للحكمة، فإنها لَو طالَتْ واستدفت كالحائط لتعذر الصعُود عَلَيْها والِانْتِفاع بها وسترت عَن النّاس الشَّمْس والهواء فَلم يتمكنوا من الِانْتِفاع بها، ولَو بسطت على وجه الأرض لضيقت عَلَيْهِم المزارِع والمساكن ولملأت السهل ولما حصل لَهُم بها الِانْتِفاع من التحصن والمغارات والأكنان، ولما سترت عَنْهُم الرِّياح، ولما حجبت السُّيُول ولَو جعلت مستديرة شكل الكرة لم يتمكنوا من صعودها ولما حصل لَهُم بها الِانْتِفاع التّام فَكانَ أولى الأشكال والأوضاع بها وأليقها وأوقعها على وفْق المصلحَة هَذا الشكل الَّذِي نصبت عَلَيْهِ. وَلَقَد دَعانا الله سُبْحانَهُ في كِتابه إلى النّظر فِيها وفي كَيْفيَّة خلقها فَقالَ ﴿أفَلا يَنْظُرُونَ إلى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وإلى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وإلى الجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وإلى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠)﴾ فخلقها ومنافعها من أكبر الشواهد على قدره باريها وفاطرها وعلمه وحكمته ووحدانيته. هَذا مَعَ أنها تسبح بِحَمْدِهِ وتخشع لَهُ وتسجد وتشقق وتهبط من خَشيته وهِي الَّتِي خافت من رَبها وفاطرها وخالقها على شدتها وعظم خلقها من الأمانة إذْ عرضها عَلَيْها وأشفقت من حملها. وَمِنها الجَبَل الَّذِي كلم الله عَلَيْهِ مُوسى كليمه ونجيه. وَمِنها الجَبَل الَّذِي تجلى لَهُ ربه فساخ وتدكدك. وَمِنها الجَبَل الَّذِي حبب الله رَسُوله وأصحابه إليه وأحبه رَسُول الله وأصْحابه. وَمِنها الجبلان اللَّذان جَعلهما الله سورا على نبيه وجعل الصَّفا في ذيل أحدهما والمروة في ذيل الآخر، وشرع لِعِبادِهِ السَّعْي بَينهما، وجعله من مناسكهم وتعبداتهم. وَمِنها جبل الرَّحْمَة المَنصُوب عَلَيْهِ ميدان عَرَفات. فَللَّه كم بِهِ من ذَنْب مغْفُور، وعثرة مقالَة، وزلة مَعْفُو عَنْها، وحاجة مقضية، وكربة مفروجة، وبلية مَرْفُوعَة، ونعمة متجددة، وسعادة مكتسبة، وشقاوة ممحوة. كَيفَ وهو الجَبَل المَخْصُوص بذلك الجمع الأعظم، والوفد الأكرم الَّذين جاؤا من كل فج عميق وقوفا لرَبهم مستكينين لعظمته خاشعين لعزته شعثا غبرا حاسرين عَن رُؤْسهمْ يستقبلوله عثراتهم، ويسألونه حاجاتهم، فيدنو مِنهُم ثمَّ يباهي بهم المَلائِكَة. فَللَّه ذاك الجَبَل وما ينزل عَلَيْهِ من الرَّحْمَة والتجاوز عَن الذُّنُوب العِظام. وَمِنها جبل حراء الَّذِي كانَ رَسُول الله يَخْلُو فِيهِ بربه حَتّى أكرمه الله برسالته وهو في غارة فَهو الجَبَل الَّذِي فاض مِنهُ النُّور على أقطار العالم، فَإنَّهُ ليفخر على الجبال وحقّ لَهُ ذَلِك. فسبحان من اخْتصَّ برحمته وتكريمه من شاءَ من الجبال والرِّجال فَجعل مِنها جبالا هي مغناطيس القُلُوب كَأنَّها مركبة مِنهُ فَهي تهوي إليها كلما ذكرتها، وتهفو نَحْوها كَما اخْتصَّ من الرِّجال من خصّه بكرامته وأتم عَلَيْهِ نعْمَته، ووضع عَلَيْهِ محبته مِنهُ فَأحبهُ وحببه إلى مَلائكَته وعباده المُؤمنِينَ، ووضع لَهُ القبُول في الأرض بَينهم ؎وَإذا تَأمَّلت البِقاع وجدتها ∗∗∗ تشقى كَما تشقى الرِّجال وتسعد فدع عَنْك الجَبَل الفُلانِيّ وجبل بني فلان وجبل كَذا ؎خُذ ما تراهُ ودع شَيْئا سَمِعت بِهِ ∗∗∗ في طلعة الشَّمْس ما يُغْنِيك عَن زحل هَذا وإنها لتعلم أن لَها موعدا ويوما تنسف فِيها نسفا، وتصير كالعهن من هوله وعظمه فَهي مشفقة من هول ذَلِك الموعد منتظرة لَهُ. وَكانَت أم الدَّرْداء رضى الله عَنْها إذا سافَرت فَصَعدت على جبل تَقول لمن مَعها أسمعت الجبال ما وعدها رَبها؟ فَيُقال ما أسمعها فَتَقول ﴿ويسألونك عَن الجبال فَقل ينسفها رَبِّي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فِيها عوجا ولا أمتا﴾ فَهَذا حال الجبال وهِي الحِجارَة الصلبة وهَذِه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال رَبها وعظمته، وقد أخبر عَنْها فاطرها باريها أنه لَو أنْزلْ عَلَيْها كَلامه لخشعت ولتصدعت من خشيَة الله. فيا عجبا من مُضْغَة لحم أقسى من هَذِه الجبال تسمع آيات الله تتلى عَلَيْها، ويذكر الرب تبارك وتَعالى فَلا تلين ولا تخشع ولا تنيب، فَلَيْسَ بمستنكر على الله عز وجل، ولا يُخالف حكمته أن يخلق لَها نارا تذيبها إذْ لم تلن بِكَلامِهِ وذكره وزواجره ومواعظه، فَمن لم يلن لله في هَذِه الدّار قلبه ولم ينب إليه ولم يذبه بحبه والبكاء من خَشيته فليتمتع قَلِيلا فإن أمامه الملين الأعظم، وسَيَرِدُ إلى عالم الغَيْب والشَّهادَة فَيرى ويعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب